Al-Quds Al-Arabi

أسعى أن يكون عملي صادمًا يثير التأمل ويطرح األسئلة

التشكيلي الفلسطيني جواد إبراهيم:

-

□ يقول الفنان األملاني لوبيرتز: «الفن التشكيلي أعمى، ال يعيش إال عبر نظرة املتفرج» كيف تكشــف بصيرتــك الفنيــة في وجــدان اآلخر وفــي احمليط اإلنساني خصوصا أنك صاحب قضية عادلة؟

■ إذا كان الفن التشــكيلي أعمــى، فإن الفنان عني دائمــة التحديــق ال تكف عــن البحث واالستكشــ­اف والتقــاط الرمــوز والتفاصيــ­ل، التــي تعكــس البيئة اجلغرافيــ­ة واملنظومــ­ة االجتماعية من قيــم وعادات وموروث التي متثل، الوجدان الشــخصي والوجدان اإلنســاني مبعنــى فهــم جوهــر احلياة وكنــه الكون ولغــزه. وهذا يتمحور في اســتخدام الرمــز في بناء العمل الفني، وأثره فــي التعبير وتوجيه عقل املتلقي إلى مــا وراء العمــل، لتحقيق رؤيتي وســرد روايتي املتعلقــة باحلــق الفلســطين­ي وروايتــي اإلنســاني­ة املتمثلة بقيم اجلمال واحلق والعدل.

□ عشــت جتربة رواية «رجال حتت الشــمس» كفنان تشــكيلي في صحــراء النقــب احملتلة، كيف حتدثنــا تشــكيليا عن األســر احلضــاري للقضية الفلسطينية بعقلية احملتل احملاصرة بسردية مريضة للمكان؟

■ قرعنــا اخلــزان ولم تتوقــف أيدينا عــن قرعه، حفرنــا في جداره ثغــرة أوصلنا مــن خاللها صوتنا وإبداعاتنـ­ـا املتنوعة وثقافتنــا وحضارتنا وروايتنا. أوصلنــا كل ذلــك إلى عالــم أصم، واجهنا الســجان بصدورنا العارية وقوة إرادتنا، دفعنا أثمانا باهظة، وفــي الوقــت نفســه، حققنــا إجنــازات كثيــرة. هذا الكيان لو اســتطاع أن يتحكم بكمية األوكسجني التي نتنفســها لفعل، وهو يدرك بقناعة أمــام هذه اإلرادة والقــوة أنــه أوهن من بيــت العنكبــوت.. وأن ثقافته ترتكــز على آلــة القمع والقتل، ما يؤكــد أنه إلى زوال وأن دميقراطيته وحضارته ما هي إال كذبة ووهم.

□ عشــت جتربة ذاكرة «اجليــر» البراءة األولى لإلنسان الكنعاني نحو محاورة اخمليلة الفنية لتراثه اجلمالي والفني املتراكم في القرى الفلسطينية؟

■ كل املواد مســتباحة للفنان، وليست حكرا على أحــد وألني أهتــم بالتفاصيل ومبا يــدور حولي فأنا دائم البحث عن مواد ودائم التجريب، سعيا للوصول إلى أعمال معبرة صادمة، تعكس وجداني وجتربتي وفلســفتي وتراكم معرفتــي، باإلضافــة إلى احلس اإلنســاني اخلــاص بالفلســطي­ني ورحلته القاســية في ظل احتــالل قبيح. في القرية، مــوروث األجداد، والطبيعة الغنية، وثقافة العمارة البسيطة املستخدم في صياغتها اجلير والطني والنيلة. وهذا ما جسْدُته فــي أعمــال غرفــت رموزهــا وثقافتها، مــن اخملزون وذاكرة الطفولة باإلضافة إلى رموز احلضارات التي تعاقبت على هذه األرض.

□ كانت أعمالــك باحلبر الصيني أثناء االنتفاضة الثانية، كأنها جتميع لتفاصيل املكان الفلسطيني بكل متظهراته اإلنســاني­ة، كيف عبرت فنيــا هذا العبور نحو أخدود املقاومة بجسد احملتل؟

■ في االنتفاضة الثانيــة، التفاصيل كثيرة ملهمة ألعمــال إبداعية متنوعة. ســاحة املواجهات أخذتني إلى احلبــر الصيني، الذي يتوافق مــع طبيعة احلدث وألوان الشوارع السوداء، من أثر اإلطارات احملروقة واألســالك املتشــابك­ة املتناثرة. وهذا ما عك ْسُته على الــورق من رمــوز وخطوط كثيفة، مثلــت قيم التحرر، واألدوات املســتخدم­ة لذلك مثل احلجــر كرمز. وفي اجلانــب اآلخــر مثلت ثقافــة هــذا الكيان فــي القتل اليومي للفلســطين­ي، أعماال جســدت املشــهد بجرأة وقوة تعبير صادمة، أخذت املتلقي إلى ما وراء العمل لســرد الرواية الســوداء التي تعري وجــه االحتالل القبيح.

□ كانــت ذخيرتــك الفنية غنية عبــر ذاكرة موشــومة بالرموز الكنعانية والعربية، وألوان االنتماء ألرض كانــت ملتقى حلضارات عديدة.. كيــف أجنزت مفهومــك التجريدي فــي صياغة أسلوب تشكيلي متفرد؟

■ عمــق التجربة وتنوع اخلامات املســتخدم­ة والرغبــة في التحرر واحلرية فــي العمل، خرجت نســبيا من احلدث اليومي في فلســطني، وذهبت ومعــي جتربتــي وأدواتي إلى التجريــد واحلرية فــي اســتخدام الرمــوز. التجريــد جــاء نتيجــة بحث وتأمل ودراســة، جذرها ســهول فلســطني وبياراتهــ­ا وزيتونتهــ­ا ومســاحاته­ا وألوانهــا ورموزهــا املتنوعــة، والســعي الدائــم من خالل ذلــك، إلى حتويل الشــكل إلــى فكرة، وهــذا كان يتطلــب فهم العالقــة بني هذه العناصــر والرموز في العمل الفنــي والتعبير عنها. وذهبت إلى أبعد من ذلك إلى الطبيعة والعمارة والبيئة احمليطة بي وموروثهــا احلضــاري املتنوع، فجــاءت أعمالي متنوعــة بخامات متنوعــة وتقنيات عديــدة حتكمها رؤيتي وفلســفتي. فتنوعت جتاربي، ولم أتوقف عند أســلوب معني، أهتم بالتعبير عن الوجدان البشــري وليــس عن وجدانــي اخلاص بي فقط. أعشــق اللون القــوي والصريح املعبــر، لذا يعرف عنــي أنني فنان ملون، انحاز إلــى اإلبداع احلر الذي ال يخضع لقاعدة أو أسلوب معني.

□ يبقى النحت، خاصية شــرقية ســواء الطيني (العراق) أو احلجري (مصر) كيف أجنزت مشروعك النحتي فلســطينيا بني املوروث الكنعاني/ الفينيقي الفلسطيني والثقافة الفلسطينية املعاصرة؟

■ بحكــم موقعهــا اجلغرافي، توارثت فلســطني العديــد من احلضــارات، التي تركت أثــرا في العديد مــن نواحــي احليــاة، متثــل فــي الكهــوف واملقابر والنقوش. أحجار فلسطني متنوعة اللون والصالبة، كثيفة االنتشــار عبرت عن الهم اجلمعي الفلسطيني، باســتخدام­ها في بنــاء العمارة والسناســل الكثيفة حلفــظ التربــة، وأخيــرا كان احلجــر رمــزا ملقاومة االحتالل. مــن هنا جاء اهتمامي وشــغفي باحلجر، فكانــت أحجــاري فلســطينية املنشــأ اختــرت منها الــوردي واألســود (البازلــت) ألعيــش مــع احلجر متعة احلوار والنحت. وهنا ال بد من اإلشــارة إلى أن احلجر هو جزء مهم من الثقافة الفلسطينية من حيث استخداماته املتعددة.. عانيت في البحث عن احلجر املناســب للنحــت معاناة تفوق نحتــه، فكانت معظم أعمالــي النحتية مــن أحجار البنايــات القدمية، التي عمــل عليهــا أكثر من شــخص، فهناك مــن اقتطعها، ومــن نقشــها، ثم من بناهــا وجــاء دوري أللتقاطها وأشــكلها بأعمــال تعبيريــة. اجلميــل والالفــت في احلجــر هو عالقتي معــه، واحلوار معه قبــل العمل، أثنــاء بحثي عــن متثالي وشــكله وتفاصيلــه داخل احلجــر. لتأتي متعــة العمل وإزالة القشــور عنه كما يقــول مايــكل أجنلــو، فجــاءت أعمالــي املعاصــرة

مالمسة للهم اإلنساني واملوروث اجلمعي..

□ كيف توثــق الذاكرة الفلســطين­ية بصريا في املكان وخارجه؟

■ فــي فلســطني نتحــرك فــي عالــم اســتثنائي بأحداثه وتفاصيله بتنوع طبيعته وجماليته، نتحرك فــي مســاحة يحكمها احتالل يســعى طــوال الوقت إلــى اقتالعنــا وكــي وعينا. مــن هنا جــاءت أعمالي الفنيــة، لتحقق تأثيرات نوعية لها القدرة على التعبير والكشف عن الوجدان، بفعل التقاطي لهذه التفاصيل واختزالها في أعمال معبرة دون أن ينفصل الشــكل عن املضمون. ثقافتــي البصرية ورؤيتي، التي بنيتها بالبحــث والتأمــل والتجريب واألســئلة الفلســفية، املتعلقــة بالكــون واحليــاة واإلنســان، كل ذلك كان محصلة لبناء أعمالي املتنوعة.

□ أمــام حداثة ملتبســة بالوطــن العربي، كيف حتدد مفهومك حلداثة تشكيلية عربيا وعامليا؟

■ جاءت احلداثة، بناء علــى التطور التكنولوجي واملعرفــي املتســارع والبحــث الفلســفي، واحلداثة مبنيــة على أســس فلســفية ورؤى وأدوات وتراكم. معرفتي بصيغ إبداعية هي مجروحة، فاجملتمع الذي حتكمه القبيلة واملذهــب والطائفة والتاريخ الدموي، ال ميكــن أن يالمس احلداثــة. فعلى الفنــان أن يكون حــرًا، متمردًا، مواكبــًا للتطور املعرفي مســتلهما من الفلســفة ما يحقــق ذلك، ورغــم ما يعانيه اإلنســان العربي، من أنظمة ديكتاتورية يحكمها املســتعمر من وراء ســتار، ومــن مــوروث القبيل، اســتطاع العديد مــن املبدعني واملفكريــ­ن العرب أن ميــدوا أيديهم إلى احلداثــة. وبدورها احلداثة ســحبتهم إليهــا، أما من يدعــي احلداثــة، دون امتــالك مقوماتهــا فهــم كثر، يعيشــون الوهم وتســويق الكذب الــذي ال ينطلي إال على جاهل، وهــذا ال يقتصر على العالــم العربي، بل على الكثيرين من العالم.

□ كيــف ترى الفن التشــكيلي الفلســطين­ي بني الطموح وإكراهات الواقع حتت االحتالل؟

■ الفــن التشــكيلي الفلســطين­ي، حديث نســبيا ارتبط منذ نشــأته بالقضية الفلسطينية ومقاومتها، التــي بدورهــا شــكلت رافعــة للفنــان، وفــي الوقت نفســه أســرته برموزها وموضوعاتهـ­ـا، األمر الذي جعله غارقا في رموزهــا وتكرارها، ما أفقدها قيمتها وأحيانا تسخيفها. فلســطني ال تقتصر على القدس، والقــدس ال تقتصــر على قبة الصخــرة وهنا جند أن غالبيــة األعمال تخاطــب العواطف، لتســويق العمل وتسويق الذات ويساهم في ذلك اإلعالم املوجه. وفي املقابل هناك العديد من الفنانني الذين شــكلوا رافعة لفلســطني وألنفســهم بأعمالهــم اإلبداعيــ­ة، فكانت أعمالهم معبــرة وناجحة وصلت العاملية مبعاصرتها وقــوة تعبيرهــا. وغالبية هــؤالء الفنانني يعيشــون خارج فلســطني، أما جيل الشــباب مــن الفنانني فهو يعيش حالة من االنفصام، ما بني املوروث واملعاصرة فمنهم من جنح ومنهم من قفز في الهواء.

 ?? ??
 ?? ??
 ?? ??
 ?? ?? جواد إبراهيم
جواد إبراهيم

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom