Al-Quds Al-Arabi

جلبير ديران ومتخيله الرمزي

رشيد

- سكري* ٭ كاتب مغربي

■ غالبــا ما كان املفكرون الفرنســيو­ن يتبعون تقاليد املســاءلة واالنتقاد أمــام اخلصوم في اجلمعيــة العامة التابعــة للجامعات الفرنســية. وغالبــا ما كانــوا يدافعون ببســالة واســتماتة، عن نظرياتهــم وآرائهم. إن مثل هذه اللقاءات تضيء جوانب من املعرفة العلميــة اخلاصة، التي جاء بها املفكر أو الفيلســوف، لذا فحضوره أمام املتربصني به، الذين غالبا ما يريدون إفشــال مشروعه العلمي، أصبح ديدنا بهدف املكاشفة وقرع احلجة باحلجة.

إن الفلسفة اإلغريقية ثمرة إنسانية لهذا الوجود، مرت مبرحلتني اثنتــني، انتقلت مبوجبها من امليتوس إلــى اللوغوس. فمهما بحثنا عن األســباب الكامنــة وراء هذه الطفــرة، ســنجد أن البحث عن احلقيقة كان الهدف، الذي يذهب من أجله كل األنشــطة اإلنســاني­ة عبر التاريخ. ففيلســوف اإلغريق أفالطون كان من رعيل الفالسفة، الذين انتصــروا إلى الرمز في األدب، مبا هــو ـ أي األدب ـ وجه من وجوه الفلسفة. فضال عن األساطير، التي ألفها أفالطون، «أتلونتيد» و«العمر الذهبي» سنجد أن الرمز احتل فيها مساحة كبرى، خصوصا عند احلديث عن الروح وعودتها إلى اجلســد في ملحمة هوميروس وحروب طــروادة. فاملنعطف اخلطير، الذي مأل الدنيا وشــغل بال الفالسفة، هو ما أقدم عليه أرسطو في الفلسفة اليونانية، عندما قرر إعدام الرمز واخمليال، واجتثاثه من األنشطة اإلنسانية على اإلطالق، معتبرا أن العبور نحــو احلقيقة ال يتم إال عبر مصفاة العقل، والعقل وحده؛ وبذلك أسس منطقا جديدا في الفكر والفلسفة واألدب.

إن اخليال واملتخيل، في نظر أرسطو، هو منبع ثر للخطأ والَّلَحن، ما شل العلوم، التي تهتم باإلنسان، ففي سبيل ذلك، امتدت الفلسفة العقالنية بني الشــرق والغرب؛ من ابن رشــد والفارابي إلى حدود ســبينوزا وجان جاك رســو ورينــه ديكارت وجون بول ســارتر، وأخيرا جــون بودريار. غير أن هذه الســاعة الرمليــة توقفت عن التدفق الســريع عند عالــم االجتماع واألنثروبو­لوجي الفرنســي جلبير ديران، حيث إنه دافع، أمام اجلمعية الفرنسية، التي انعقدت في جامعة غرنوبل جنوب فرنســا، عن االســتعار­ة التخييل اللذين يخيطان التواصل اإلنساني. فبني «البنى األنثروبول­وجية للمتخيل» 1960 و«اخليال الرمزي» ،1964 انتصر ديران وبقوة، للنصف الثاني املكون لإلنســان، أال وهــو: املتخيل واخليال والرمــز. باملوازاة مع ذلك، فقد أكد في اجلمعية العامة الفرنســية أنه ال ميكن لإلنسان أن يعيش دون هذا احلوض الداللي، الذي يستقي منه أفكاره وإبداعاته ومواقفــه وتوجهاته. عــالوة على أن الصورة التي تســكن الكائن احلي تعد رمزا من رموز تطوره وإبداالته، تساهم في خلخلة الثابت وتثبت املتحــول. فكتابه «البنى األنثروبول­وجية للمتخيل «ســفر، دون حدود، نحو ضفاف أثيلة يتشــكل فيها عالم املتخيل اإلنساني، من الصور املنضودة في أماكن غامضٍة ومبهمٍة وغير مستســاغة من دماغ اإلنســان. فكما يقول يونغ عن الصورة: كل فكرة لها صورة في الذهن. وعلى هذا األساس فاإلنسان ال يستطيع العيش خارج الرمز. فجلبير ديــران انفتح على علوم كثيرة؛ ألن املتخيل يخترق أفقيا كل العلوم اإلنســاني­ة؛ بدءا بعلم التاريخ وانتهاًء بعلم اإلناسة، وبذلك فاجلمعيــة العامة، التابعــة لغرونوبل، كانت تعتبــر ديران مبثابة مقبض البــاب، الذي ُيفتح على مختلف العلوم. واألدهى من ذلك أنه كان يجالس أتباع يونغ وأتباع فرويد وميرســيا إلياد، لكنه لم يتأثر بأية أيديولوجية من األيديولوج­يات املعروضة أمامه.

فمن الطبيعي أن يكون جللبير ديران أعداٌء يناهضون مشــروعه الفكري، حيث يرى فيــه املؤرخ جاك لوغوف صاحب كتاب «املتخيل في القرون الوســطى» محورا غنيا للتدليل على ســقوط العديد من احلواضر في الشــرق والغرب، جراء احلروب واضطهاد الشعوب، والنزوح اجلماعي، ما تسبب في ظهور أمراض وأوبئة. باملوازاة مع ذلك، فلوغوف يرى أن التاريخ ال حاجة له بالشــعور واألحاسيس؛ ألنه يتحــدد ـ أي التاريخ ـ من خالل عناصر مادية وحســية، لذلك كان الصدام قويا بني لوغــوف وديران، حيث إن األول يعتبر عوالم املتخيل مبنيــة على العلم، بينما الثاني يــرى أن املتخيل ينفلت من عقال وأصفاد العقل واملنطق، ليتــوج عبر احللم والرؤيا والهذيان. فمزية احلوار بني علماء النفس واألنثروبو­لوجية والسوسيولو­جية واألدب أن يجــدوا إطــارا موحــدا ملعاجلة املتخيل فــي ظل فروعه املتشــعبة، إال أن ديران فضل أن يتبع خطى أستاذه املفكر غاستون باشالر، وحصر املتخيل اإلبداعي في العناصر األربعة: التراب واملاء والهواء والنار.

كان جلبير ينظر إلى شــومبيري، مسقط رأســه، مبثابة الدافعة الروحية، التي يســتمد منها القوة والعزمية أمام خصومه، فأول ما فكر فيه هو تأسيس نواة جامعية تابعة جلامعة غرنوبل؛ لتستأنف مســيرة البحث في املتخيل. فكان من بني األساتذة، الذين يلتحقون بهذه امللحقة إللقاء محاضراتهم جند املفكر والفيلســو­ف جون بيير سورينو املؤسس احلقيقي ألصدقاء جلبير ديران، وكذا مجموعة من األساتذة الذين يدرسون في غرنوبل.

وفي هذا، التجأ جلبير إلى الغنوصية الضاربة في تاريخ الديانات القدمية، مســلحا بالنظريات األفالطوني­ة، كما أخذها، وتعلمها عن أستاذه غاستون باشالر. في جتربة ديران، خلق ذلك احلوار املفقود بني التخصصات املعرفية كافة، التي متتح منها العلوم اإلنســاني­ة. وعبر اشــتغاله علــى املتخيل الرمزي، فســر العديد مــن الظواهر السياســية التي كان يلفهــا الغموض واإلبهام. إن اإلنســان كائن رمزي يتحرك، في حوضه الداللي، عبر شــبكة معقــدة من الرموز. فعنــد احلديث عن البرازيل، مثال، يذهب متخيلنا مباشــرة إلى أنها دولة كرة القدم والنب؛ ألنه ترسخ في أذهاننا، وعبر عشرات السنني، حجم االنتصارات والظفر بــكأس أمم العالم، عالوة على الوصالت اإلشهارية في اجملالت والصحف، التي تشــهر زهرة النب البرازيلي واألربيــك­ا ومذاقها الذي ال يقاوم. غير أن مــا فعلته أملانيا، في كأس العالم، بانتصارها الســاحق علــى الفريق البرازيلي، كســرت به املتخيل العام، وبدأ بالتراجع والنكوص. فصناعة املتخيل، حســب ديران، قادرة على زعزعة العديد من الثوابت الراســخة في اجملتمع، وهذا خــروج وزيغ واضح عن الطريق، الذي رســمته العقالنية في الفكر اإلنساني عبر تاريخها الطويل.

 ?? ?? جلبير ديران
جلبير ديران
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom