Al-Quds Al-Arabi

شبح سعدي يوسف يتبدى ويخبو في بغداد

- محمد خضير سلطان ٭ كاتب عراقي

■ أثير في األســابيع القليلة املاضية جدل رمبا لم يكن واســعًا وعميقًا على نحــو جماهيري في بغداد، وبقية أنحاء البالد مثلما تشــهد ســاحات السياسة، غير أنه على الرغم من ذلك، له مساحته البســيطة والعميقة في اجملتمع الثقافي العراقي، إذ تبدت روح سعدي يوســف، لتظهر سراعا قبل ان تخبو فوق سور وقلعة املشــهد األدبي، وتلقي بعضا من ســطور قصيدة قصيرة مؤجلة لم يتبني ســطورها أحد، لكنها قالت شــيئا مــا بني احللم والغيبوبة مفاده، أن شــبح ســعدي هــذه املرة ال ميثله في الكتابة الشــعرية قدر مــا يفصح عن كائنية املشهد االجتماعي ببعديه الثقافي واألدبي العراقــي، إزاء اجلمهــور العام، وليس مســتوى العالقة مع النخب، فهذه اللمحات الســريعة التي أثيرت، تعبر عن وظيفــة اتصالية متعثرة ال تعنى بالعالقة بني متكلم ومخاطب مباشــرين، بل تتخذ شــكال من التخاطر والتراســل والفهــم البطيء داخل اخلطاب االجتماعي «الثقافي» املتعثر، الذي يظهر فيه ســعدي اآلن ويغيب، ورمبا تتهيأ أرواح أدباء آخريــن، كما اقترح القــاص محمد خضير، لتومض فوق ســور وقلعة املشــهد األدبي، لتلقــي بعضا من ســطور، نشأت في برزخ بني احلياة واملوت، وهي كلمات مبهمة، خطرت في ذهن الشــعراء واألدباء املوتى، بكل ثقل جتاربهــم، فيما ســيتصدى لفهمها اآلخرون.

ترجع محايثات احلدث إلى متاهة هندســية في مثلث متداخل، تبدأ في زاويته املركزية األولى الفنانة نوال الســعدون عبر لوحتــي بورتريت تعبيريتني، رسمتهما لوجه الشاعر سعدي يوسف، فيما استندت مرثية القاص محمد خضير للشــاعر بعد موته إلى هاتني اللوحتني ليستقرئ قوســني من لونية اللوحتني، ويضيف إليهما قوسًا سرديًا ثالثًا يخص الكتابة، وفــي إثر ذلــك، يجيء املثلــث الثالث فــي تنافذ اللوحتــني ومرثاة خضيــر إلى كتابــة محاضرة جديدة/حواريــة مــن قبــل مالك املطلبــي، رمبا جتمع بني تأمالت األدب والفــن واحلياة واملوت، ليعقــد الكاتب نيته في قراءتها على األســماع عن الشيوعي األخير.

ينتقــل مالك املطلبــي مبحاضرته إلــى املثلث الرابــع عندما يعلــن احتــاد أدباء العــراق عن احملاضــرة/ احلوارية في صباح الســبت احلادي عشر من تشــرين الثاني/نوفمبر، ويذكر اإلعالن اسمي سعدي يوسف ومحمد خضير، دون إشارة واضحة إلى ورود ذكرهما معا، عندها بدأت املتاهة الهندسية للمثلث املتداخل، تعيد بناءها من جديد إذ جوبــه إعالن احتــاد األدباء عــن احملاضرة، بحملة رفض في وســائل التواصــل االجتماعي، بدأ بها األديب عالء املســعودي، ونالت قسطا من اجلدل والتعليقات بني التأييد واالســتنك­ار لعدد

السنة الرابعة والثالثون العدد 10823 اخلميس 1 كانون األول (ديسمبر) 2022 - 7 جمادى األولى 1444 هـ

مــن األدباء والنقاد، ما جعل احتاد األدباء، يســد األبواب ويعيد النظر في هذه اجللسة اخلطيرة.

وما إن أعلن في بيان إلغاء اجللســة احلوارية نهائيــا، حتى أعــاد القاص محمد خضير نشــر مرثاته لســعدي من جديد، ويطلق نداء «وياله» كأنه يســتعير صرخة اإلله ويلــي القتيل كأحد قصص بدء اخلليقة الســومرية، حينما احتاجت اآللهة قبل الطوفان أن تقدم قربانا لقاء انتفاضة البشر ومتهر دمه بروحهم، ويضيف هذه الروح املمهورة بالدم اإللهي أيضا إلى النواب ورشــدي العامل والسياب.

من جانبهــا، أعــادت الناقدة فاطمة احملســن على صفحتها مقطعا من أحــد اللقاءات الفيديوية لســعدي، كانت قد أجرته قناة بي بي ســي معه، وحتدث فيه عــن عالقة الفنــان باآلخرين، قائال: أنــا أحاول أن أنبه الناس، مستشــهدا بالشــاعر اإلنكليــز­ي أودن في قولــه: حني يتهــم البعض الفنان بأنه يعيش في برج عاجــي غير أن الغفلة لــدى اآلخرين هي البــرج العاجي تبعــا ألودن، ويختتم الشاعر ســعدي بأن على الفنان أن يطلق البوق ويدق الصنج عاليا لكي ينتبه الغافلون. هذه االشــارات وغيرها، سواء في التركيب اللغوي أو الداللة ومن ثم التداول، ال متثل قدر ًا واضح ًا من العالقة مــع اآلخرين- اجلمهور العــام- بحيــث تترتــب على نحو مقبول كما هو النموذج عند أودن.

إن الوظيفــة االتصالية، ســوف حتقــق مبتغاهــا إذا كان احلــوار متكافئا بني املتكلم واملتلقي العام الى حد معني، كما في منــوذج أودن، أما في منوذج ســعدي فال ميكن إطالق البوق عاليــا، أو دق الصنج بأعلى

منه ألن اجملال احليوي لسماع الصوت أو التنبيه، يغدو بحاجة إلى مجال زمني أوسع منه ليصل إلى املدارك، ومن ثم ينتزع الغفلة من الناس.

إنها في صيغة مــن تداولية متعثرة ال تعود إلى التركيب والداللة، بل مبستوى الفضاء االجتماعي الذي يشكل حوارية متكافئة داخل النخب األدبية، لكنها ما إن تنتقل إلى مستوى اجلمهور حتى تتخذ شــكال من التخاطر والتراســل والعالقة املشفرة، التي ال تظهر أبدا في حلظتها الراهنة، وتظل رسالة مؤجلة وصوت ًا معب ًأ.

وإذا كان شــبح هاملــت قد ظهر تقنيا ليشــكل بناء املأســاة الشكســبير­ية بدافــع االنتقام فإن شبح ســعدي، ميثل اغتراب اللقاء املؤجل للنخب التنويرية مع اخلطاب الثقافي العام . لكأنه يردد بني احللم والغيبوبة: هذا العراق اجلميل قاد ٌم في الهوا ِء الذي نتن ّف ُس هذا العراق العجيب ســوف يأتي بنا مــن مـنـــابذن­ا في الديــار التي لم ُن ِح ّب الديار التي لم تحب مالمحنا وسوف نقول لـ ُه: أيهذا العراق لم َي ُع ْد في الطبيع ِة ُمـ َّت َس ٌع للفراق

 ?? ?? سعدي يوسف
سعدي يوسف
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom