Al-Quds Al-Arabi

تعددية ثقافية أم أيديولوجيا أحادية؟

- محمد جميح٭

■ هــل ـ حقــا - تؤمــن الدميقراطي­ــات املعاصرة بالتعددية خارج إطارها اجليوسياسي والثقافي؟

وكيف ميكن التوفيق بني فكرة التعددية، ومحاوالت فرض كثير من القيم واألفــكار والتوجهات، مع الترويج ألحاديــة املركزيــة الثقافية واحلضاريــ­ة املهيمنة التي يستشف منها التعارض مع تعدد النماذج والثقافات؟

هــل يعقــل أن تؤمــن دولــة أو منظومــة حضارية بالتعددية العرقية والثقافية والدينية ثم تسعى لفرض منوذجها على اآلخرين؟

أال تقــوم الفكرة االستشــرا­قية ـ فــي مجملها ولدى كثير من املستشــرق­ني ـ على أساس من مركزية النموذج الغربي، وهي املركزية التي سوغت لفكرة االستعمار وما تاله من كوارث على شعوب وبلدان الشرق؟

ما معنى أن تقدم ثقافة نفســها على أساس أنها ثقافة تعددية في حني يروج املنتمون إليها أنها تشكل النموذج األرقى الذي يجســد نهاية التاريخ، حســب فرانسيس فوكوياما؟

ثــم ملــاذا يفتــرض أن الغــرب هــو محــور الكون الثقافي واحلضاري، وهل تعــد احملورية التكنولوجي­ة والعسكرية أساسا للمحورية األخالقية والقيمية، وهل يفترض أن تنتج مصانع األسلحة وشركات التكنولوجي­ا قيما صاحلة لكل الثقافات؟

هل إذا قالــت تلك احملورية ـ مثــال ـ إن «املثلية» حق من حقوق اإلنســان فعلى العالم أن يعتبرها كذلك؟ وإذا رأت أن امليول املثلية تولد مع املثلي في تركيبته اجلينية، ألن مرد األمر لـ«حلتمية البيولوجية»، هل إذا قالت ذلك فاملطلوب من بقية الثقافات أن تسلم باألمر؟

ما هــذا «التأله احلضاري» الذي يظهــر به أن الغرب يريــد أن يحــل محل الله الــذي زعم فريدريك نيتشــه موته، وهي الدعوى التي أريد بها أن حتل منظومة قيمية وثقافية مســتحدثة وغير عاملية محل منظومة تقليدية، كان ميكن أن تكون فيها قيم مشــتركة مع ثقافات وأعراق

وجغرافيا مغايرة؟

ثم هل بالفعل متثــل تلك السياســات املتبعة حقيقة املواجهات الشعبية في الدول التي تريد فرض منوذجها بكل وسائل القوة اخلشنة والناعمة؟

وهــل جرى اســتفتاء يوضح أن غالبيــة االنكليز أو الفرنسيني أو األمريكيني واألملان مع ما حتاول السياسات االستعالئي­ة طرحه من رؤى وأفكار حول األقليات املثلية على سبيل املثال؟

ألم تتحــول «املثلية» التــي يراد فرضهــا اليوم إلى «أيديولوجيا أحادية»، ترفض «التعددية الثقافية» التي حتاول أن تتمظهر بها الدوائر التي تســعى إلى تكريس فكــرة أن «املثليــة حتميــة بيولوجية»، ومــا معنى أن تســتغل «األيديولوج­يا املثلية» فكرة التعددية لتتوسع من خاللها، مع أن تلــك األيديولوج­يا متارس أنواعا من اإلرهاب النفسي على املعارضني؟

أال تعني الهجمة الشرســة التي قادتها شــخصيات سياسية ومنظمات وأحزاب أوروبية وأمريكية ووسائل إعالم غربية ضد تنظيم ألعــاب كأس العالم في قطر أن هنــاك رفض ًا مطلقــ ًا خلروج عملية صناعــة احلدث عن «املركز احلضاري»، حتى ولو كان ذلك احلدث ال عالقة له مبوازين القوى السياسية والعسكرية؟

إن إصرار املنظومات الثقافية والسياسية الغربية على فرض منوذجها ونظرتها وأسلوب حياتها على اآلخرين يرجع في األســاس إلى كــون تلك املنظومــا­ت مازالت محكومة بالرؤية االستشراقي­ة التي ال تزال بالفعل متثل رافعة الســلوك والتصورات والصــور النمطية األورو ـ أمريكية حول الشــرق الذي ال يــزال ـ إلى حد كبير ـ يحتفظ بصورتــه النمطية لدى التيار األغلب من الكتاب واملستشرقن­ي واإلعالمين­ي واملشتغلني بصناعة السينما وبرامــج اإلنتاج التلفزيوني على شــاطئي األطلســي، في انعكاس لتيار غالب في االستشــرا­ق عبر عنه املفكر الفرنسي أرنســت رينان بقوله إن «العقل العربي عاجز عن ممارســة الفكر املركب والتفلســف»، وفي جتســيد ألقوال الكثير من املستشــرق­ني الذين رأوا الشــخصية العربية خالية من اخليال واإلبداع.

وبطبيعة احلــال، ال أحد ينكر مركزيــة الغرب اليوم سياســيًا واقتصاديًا وتكنولوجيًا، وهي مركزية عاملية بالفعــل، لكن هل تعطي هذه املركزيــة للمؤمنني بها حق فرض منوذجها في السياسة واالقتصاد والقيم والثقافة علــى اآلخرين الذي يرفضون كلي ًا أو جزئي ًا ما تقدمه من منتجات ثقافية بشكل خاص؟

وبعيدا عن أســئلة اجلدل الثقافي بني ضفتي األبيض املتوســط، تبرز أســئلة كثيرة حول «تسييس وتسليع القيم» الذي متارســه «الكولونيال­ية اجلديدة»، لتحقيق أهداف تناقض تلك القيم وشعاراتها املرفوعة.

ألم يدمر الغزو األمريكي العراق للسيطرة على موارد الطاقة فيه، حتت راية «نشــر الدميقراطي­ة»، وهي املبرر األخير الــذي ركز عليه األمريكيون، بعد فشــل مبررات «البحث عن أســلحة الدمــار الشــامل»، و«عالقة نظام صدام حسني بالقاعدة»؟

أليســت الهجمة على مونديال قطر ناجتة عن تقسيم العالم إلى «فســطاطني»، همــا «فســطاط العالم احلر املتقدم، وفســطاط العالم املســتعبد املتخلــف»، مهما حاول دعاة الفســطاطن­ي اســتغالل القضايا احلقوقية والثقافية األخرى للتغطية على األسباب احلقيقية لتلك الهجمة التي بدت عارية من كل شعاراتها حول التعددية والتنوع؟

إن استغالل «حقوق اإلنســان» وفقا للمعيار الغربي الذي يرى أصحابه أنه هو املعيار العاملي، هذا االستغالل لهذا املفهوم وفقا ألجندة سياسية وثقافية محددة يضع الكثير مــن عالمات االســتفها­م حــول توظيف حقوق اإلنسان بشكل يؤدي إلى استعباد شعوب كثيرة تقطن وراء اخلــط الوهمي الفاصل بني «العالم احلر» و«العالم املســتعبد»، وفــق رؤية الفســطاطن­ي اللذيــن ميثالن «الفوقية الغربيــة» و«الدونية الشــرقية»، حســب إدوارد سعيد.

وقد أملح الفيلســوف النفعي جرميــي بنتــام لهــذا املنحى لدرجــة أنه أطلق على املفهوم احلقوقي تســمية «الهراء الذي ميشــي على ســاقني من خشــب»، وذلك ملا جرى باســمه من جرائم وحــروب وتدخــالت امبريالية في شؤون دول وشعوب عدة، ولعل هذا املفهوم ـ وغيره من املفاهيم ـ كان السبب وراء فكرة «االنتداب» التي أعطت حلكومات غربيــة احلق في الوصاية على «شــعوب لم تبلغ سن الرشــد»، مبوجب مقررات «عصبة األمم» التي متخضت عنها منظمة األمم املتحدة، وهي الوصاية التي يبــدو أن صناعة القرار على جانبي األطلســي لم تتخل عنها، وإن كانت قد جلأت ألساليب أكثر ذكاء إلخفائها.

األمر الذي أدى إلى تشــكل نظرة سلبية لدى قطاعات واسعة في الشــرق إزاء املفاهيم احلقوقية، على اعتبار أنها وســيلة الغــرب للتدخل فــي الشــؤون الداخلية للــدول، من أجل التحكــم بها، وعلى اعتبــار أنها كذلك وسيلة لفرض رؤى أقلوية على األغلبية الشعبية، باسم حماية حقوق األقليات، وهــي األقليات التي مت توظيف «حقوقها» سياســي ًا، للتدخل في شؤون اآلخرين، قدمي ًا وحديثا، في استمرار لسياسات لم تكن في يوم ما خافية على أحد.

ختاما: إن «تسييس وتسليع» الغرب ملفاهيم احلقوق واحلريات، للتدخل في شــؤون الدول األخرى، من أجل الســيطرة على مواردها االقتصادية يشبه متاما ما يقوم به اللص الذي يقول: «بســم اللــه»، وهو يفتح اخلزنة، وإن هذا التســييس ال يشــير إلى إميــان بـ«التعددية العاملية» قدر ما يؤشر على «األحادية الغربية» التي تريد فرض مناذجها احلضارية على اآلخرين.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom