Al-Quds Al-Arabi

كأنها نهاية عشر سنوات من تطعيم حربني أهليتني!

- ياسني احلاج صالح٭ ٭ كاتب سوري

■ أخذت احلكومة التركية وحزب العمال الكردســتا­ني بتصدير احلرب األهليــة في تركيا إلى ســوريا منذ العام الثاني للثورة الســورية، .2012 في تشرين الثاني من هذا العام حرضت تركيا وســلحت تشــكيالت مسلحة سورية معارضة للنظــام لهجوم طائــش على بلــدة رأس العني ذات األكثرية الكردية التي وقعت قبل ذلك بقليل، ولســبع سنوات بعد ذلك، حتت ســيطرة اجلناح السوري للحزب الكردي التركي.

بدأت هذه السيطرة في متوز من عام 2012 نفسه، حني أمد النظام األســدي بالسالح التنظيم األوجالني املتمرس بالقتال، وســلمه مناطق األكثرية الكردية في شمال غرب وشــمال شــرق البلد. وراء هذا التســليم واالســتال­م أن التنظيــم يعتبر أن معركته األساســية مــع احلكم التركي وليس النظام السوري الذي كانت جمعته به روابط طيبة طــوال ثمانينيات القرن العشــرين ومعظم تســعينيات­ه. وكان غرض النظام من هذا التســليم التفرغ ملواجهة البؤر النشطة للثورة السورية، وكذلك الفصل بني االحتجاجات العربية والكردية، وإعطاء اليد العليا في البيئات الكردية للتنظيم األشــد انعزالية تاريخيا عن البيئات الســورية األخرى، مبا فيها الكردية السورية.

وقــع ذلك في بدايــة انهيــار اإلطار الوطنــي للصراع السوري الذي كان حتى ذلك الوقت صراع ًا سوري ًا سوري ًا، سلميًا ثم سلميًا ومسلحًا، وكان من جملة تغيرات متزامنة يصعب أال يــدل تزامنها علــى انعطاف كبير في سياســة مواجهة الثورة، واألرجح في تقديري أنها تدل على انتصار احلزب اإليراني في مراتب احلكم األسدي العليا. مما جرى في شــهر متوز الفاصــل ذاك اغتيال ضبــاط خلية األزمة (آصف شــوكت وهشــام اختيار وداود راجحة وحســن تركماني)، وهو عملية تصفية داخليــة على أرجح تقدير؛ وأول اســتخدام للبراميــل املتفجرة ترمى عبــر طائرات الهيلوكوبت­ر؛ والتوسع في استخدام الطيران لقصف املدن والبلدات املتمردة؛ ولعله أول اســتخدام لصواريخ سكود ضد املدن كذلك؛ وبدء انحسار االحتجاجات السلمية التي كانت بؤرها متكاثرة حتى ذلك الوقت، ووصلت في الشهر نفسه إلى نحو 800 بؤرة. والواقع أن جملة هذه التحوالت االنعطافيـ­ـة لم تأت من فــراغ. فعدا أن النظــام كان حتت ضغط متصاعد من قبل ثورة مسلحة وسلمية كانت ال تزال متســعة املراتب، فإن شهر متوز نفسه شهد انشقاق رئيس الوزراء األســبق رياض حجاب وجناحه في اخلروج إلى األردن، ثم اقتحام مجموعات معارضة مسلحة مدينة حلب والسيطرة على أحيائها الشرقية.

وقد يكون الشهر نفســه هو كذلك نقطة حتول التسرب الســلفي اجلهادي إلى ســوريا إلى تدفق، وبعــد أن كان من احلدود العراقية واحلدود اللبنانية، صار أساســا من احلدود التركية. ومن غير احملتمل أن ذلك جرى دون غض نظر، إن لم يكن التسهيل، من طرف السلطات التركية التي رمبا عولت على أن يواجــه اجلهاديون اجلوالون التنظيم الكردي، وهو ما جرى فعال، ورمبا النظام الســوري، وهو ما جرى بقدر أقل. لكن أولئك الغرباء اجلانحني كانوا، قبل كل شــيء، كارثة على الثورة السورية التي وجدت نفسها محاربة علــى جبهتني، جبهة النظــام وحماته اإليرانيني، وجبهة اجلهاديني اجلوالني الذين ســاقتهم دينامية تطرف قوية، ليســت منفصلة عــن كونهم بال رابــط حي بأرض ومجتمع، نحو مزيج مسموم من الدين واجلرمية. كان هناك ثائرون ســوريون يواجهون داعش، وقد واجهوه بالفعل وطردوه من مناطق في شمال حلب وغربها في مطلع ،2014 لكن لم يكن ثمة ثائرون سوريون مستعدين ملواجهة داعش وحده ودون النظام، مثلما أراد األمريكيون. وحده التنظيم األوجالني كان مســتعد ًا ذلك. وهو ما اع ُتمد بدء ًا من أيلول ،2014 وقت التدخل األمريكي املباشر في سوريا.

هذا وضع األمريكيــ­ني واألتراك، احلليفــني في الناتو، فــي موقعني متقابلني في ســوريا. وكان ممــا دفع في هذا االجتــاه أن األمريكيني بدأوا منذ وقــت مبكر من عام 2013 النظر إلى الصراع الســوري من منظــور محاربة اإلرهاب (اإلسالمي)، بينما كان ال يزال األتراك أقرب إلى ما بدا أنها السياســة الدولية حيال «الربيع العربــي»، أي اإليجابية حيال الثورات والتغيير املتوقع في ســوريا مثلما حدث في مصر وتونــس وليبيا واليمن. واألرجــح أن رغبة األتراك بحكم ســني في جوارهــم القريب كان عامــًال إضافيًا في سياستهم السورية. وعلى هذا احلساب كخلفية، اعتمدت تركيا سياسة الباب املفتوح بخصوص الالجئني السوريني حتى مطلع ،2016 حتى بلغ عــدد الالجئني فيها فوق ثالثة ماليني وســبعمائة ألف، أكثر من نصــف مجموع الالجئني السوريني، نحو سبعة ماليني.

بعد إسقاط داعش في الرقة على يد األمريكيني ووكيلهم قوات حماية الشــعب، وتوسع مناطق ســيطرة التنظيم الكردي في ســوريا، صــار احلكــم التركي أكثــر توترا. إرهابيوه هم التنظيــم األوجالني املتعاون مع األمريكيني، وإرهابيو األمريكيني هم اجلهاديون الذين تساهل األتراك في أمر تدفقهم إلى سوريا في سنوات سابقة.

تركيا التي تدخلت في ســوريا عســكريا منذ آب ،2016 بعد عام من الروس وعامني من األمريكيني، أطلقت عمليتني عســكريتني ضد التنظيم الكردي: «غصــن الزيتون» عام 2018 واحتلت فيها عفرين ومناطــق مجاورة لها، ثم «نبع الســالم» عام 2019 واحتلت راس العني التي تقدم ذكرها. عبر هاتــني العمليتني انتقلت احلــرب األهلية التركية إلى ســوريا على يد طرفيها الرئيسيني، بعد أن كانت احلكومة التركيــة تخوضهــا عبــر وكالء. اســتمر اعتمــاد وكالء سوريني، يطلق عليهم اســم اجليش الوطني الذي ال يبدو أن له من اســمه نصيب، ال من جهــة الوطنية وال من جهة اجليش، على ما شهد التوسع الصاعق لهيئة حترير الشام (جبهة النصرة ســابقا) في مناطق سيطرة هؤالء الوكالء في تشرين األول املاضي.

اليوم تتسابق األخبار عن عملية عسكرية تركية واسعة ضد «قوات ســورية الدميقراطي­ــة» (قســد) ذات العماد الكــردي، مع أخبار تتكــرر عن اســتعداد الرئيس التركي عن لقائه ببشــار األسد، بغرض مرجح هو ترتيب سيطرة النظام األســدي املباشرة على األراضي الســورية التي تســيطر عليها قســد، على ما صار األتراك يصرحون بــه علنا. لكن هناك في احلد األدنــى أربعة ملفات كبيرة علــى درب املصاحلة بني النظامني، ليســت قوات قســد غير واحــد منها. أولها ملف الالجئني الذين يتســابق احلكم التركي مع معارضيه في املزايدة على إعادتهم إلى سوريا. الثاني ملف املعارضة الرســمية في االئتالف، وعمادها من اإلخوان املســلمني، ويبدو أنه ســيجري التضحية بهم وبأجسامهم السياسية واإلعالمية مثلمــا جرى ملعارضني مصريــني، معظمهم من اإلخوان كذلك. امللف الثالث هو مناطق ســيطرة «اجليش الوطنــي» الذي عمل كتابع لتركيا طوال ســنوات، لكن قد يتجاوز عدد ســكان هذه املنطقة املليون، والرابع هو ملف قسد الذي يطفو على السطح أكثر من غيره، لكن في منطقة سيطرتها يعيش رمبا خمسة ماليني، يفضل أكثرهم الوضع احلالي علــى عودة النظام. في احملصلــة، تبدو االنعطافة التركية في سبيلها إلى تقدمي شيء كبير جدا لنظام صغير، بغرض حل مشــكلة أصلها في تركيا: الصراع ضد احلركة القومية الكردية.

عشر سنوات ونيف بعد تطعيم حربنا األهلية باحلرب األهليــة التركية، يبدو طرفا احلــرب األخيرة راضيني من الغنيمــة باإلياب. تركيا تريد من النظام ابتالع قســد التي ال تكاد قيادتها متانع في أن تبتلع. رمبا تكســب تركيا شيئا صغير ًا، ويربح النظام شــيئ ًا أكبر. من يخسر هما الطرفان اآلخــران في احلرب األهليــة في البلدين: مــن عولوا في صراعهم التحرري على النظام األســدي الذي كان منهمكا في قتل محكوميه، ومن عولوا على حكم تركي ينكر العدالة على جزء من محكوميه في صراعهم من أجل العدالة.

‪Volume 34 - Issue 10823 Thursday 1 December 2022‬

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom