Al-Quds Al-Arabi

جيرالد برنس واالصطالح العلمي

- نادية هناوي ٭ كاتبة عراقية

■ ليســوا كثيرين أولئك النقاد الذين كنا نعدهم بنيويني وما بعد بنيويني، لكن تبني لنا أنهم ليســوا كذلك بظهور املدرسة األنكلوأمر­يكية التي معها غدت توجهاتهم البحثيــة أكثــر وضوحــًا في مــا قدموه من حتليــات، وما طرحوه مــن مفاهيم، ســائرين على منوال منظري علم الســرد ما بعد الكاســيكي ونقدهــم في العقدين األخيرين من هذا القرن. ومن هؤالء الناقد األمريكــي جيرالد برنــس )1942( الذي كان قد انتهج في ســتينيات القرن املاضي خطًا بنيويًا فيه إمــارات ميل خفي ما بعد بنيوي، وحنني ما قبل بنيوي نحو مدرسة النقد األرســطي عامة، ومدرسة شيكاغو في النقد اجلديد خاصة، من ناحية تركيزه على السارد ونقد ملفوظاته والقارئ ونقد اســتجابته، ومن ثم تأويل الســرد وفق فاعليتهما الداخــل واخلارج نصية ثقافيا وظاهراتي ًا وإنثروبولو­جي ًا.

وما كان ملثل هذه اإلمــارات أن تتبدى واضحــة إال فــي العمــق من دراســات جيرالد، تــارة من خال اختبــار الرؤى والطروحــا­ت البنيوية مبا يضادها بقصد تقييمها، وتارة أخــرى من خال االنزياح عن املرجعيات الشــكانية واألســلوب­ية ومغايرتها مبرجعية سياقية أو كاسيكية بقصد ماءمتها خملتلــف أنواع النصوص السردية. ومبا يوسع أطر النظر البنيوية فــي دراســة النــص الســردي وحتليل عناصره وجدولة تراكيبه. وأيا كانت هذه اإلمارات، فإنهــا وقتذاك ظلت في اجملموع محســوبة، إما لصالح البنيوية السردية وهــي فــي ذروة إجنازاتهــ­ا النصية، أو لصالــح ما بعــد البنيوية وهي تشــرئب متطلعة إلى مزيد من اإلجنازات في مجال دراسة اخلطاب السردي.

وعلى الرغم من أسبقية جيرالد برنس في التنظير لعلم الســرد، فــإن كتابه لم يلق االهتمام الذي يســتحقه ال من لدن املدرسة الســردية الفرنسية وال املدرسة األنكلوأمر­يكيــة، إذا ما قارناه باالهتمام الكبيــر بكتاب واين بــوث (باغة الفن القصصــي ‪The Rhetoric of‬ )fiction كأهــم مرجــع عنــد منظري الســرد ما بعد الكاســيكي. رمبا ألن مناهضة بوث للبنيويــن­ي كانت علنية ورمبا بســبب التباس مفاهيم جيرالد وعســر تأوياته. ومع هذا، فإن هذين الكتابني يعدان مبكريــن في التنظير لعلم الســرد، وعليهمــا اعتمد ديفيد هيرمان وبراين ريشاردسون وبراين ماكهيــل وهياري داننبــرغ وروبني وارهول وغيرهم.

وألن جيرالــد برنــس كان ناقدا مناورا، يســاير البنيويني ويغالبهم

في اآلن نفسه، اتســمت كتاباته بالتعقيد إن لم نقل باالستغاق، فهي كثيرة اإلثارة للبس وتولد اإلشكال سواء في التمثيات أو الشــروحات. وهو ما كان يوضع حتت باب االجتهادات في فلســفة النقد وعلمنة الســرد اللتــني هما ســمتان من ســمات املدرسة السردية الفرنســية، بينما كانت حقيقــة التعقيد ناجتة عن ســعي جيرالد إلى اجلمع بني منهجي برســي لوبوك في دراسة تراكيب الســرد وولغانغ أيزر في دراسة سيميائية الدالالت.

ولعل أوضــح األمثلة علــى ذلك بحثه املوسوم (فهم السرد understand­ing )narrative املنشــور ضمــن ملــف الداللة الســيميول­وجية لــأدب في مجلة STTCL( دراســات فــي أدب القــرن العشــرين والواحد والعشــرين) اجمللد الســادس/العدد األول .1981 وفيه طرح جيرالد برنس مفهوم (الكفاءة السردية) وزج مســائل تتجــاوز نصيــة الســرد وخطابيته إلى (القولtelli­ng ) من قبيل ماحظته أن القصة ميكن أن تروي نفسها من خال إضافــة أحداث أو حــوارات أو تغييــر في بعــض عناصرها الرئيســية، وعندها قد تغدو قصة أحســن وقد تصبح باهتة ومثاله قصة السامري. ومنها أيضا تســاؤله عن الروايات التي فيها تعليقات مباشــرة على األقــوال الســردية. ومنها تأكيده أن القــدرة على الســرد تعني أن يركز السارد على السمات الكرونولوج­ية املصورة في العالم السردي.

وألهميــة هــذا البحث ضمــه جيرالد إلى فصــول كتابه (علم الســرد: الصيغة واالشــتغا­ل الســردي : narratolog­y ‪the form and functionin­g of‬

‪) narrative‬ 1982 وهذا الكتاب مثال آخر على الطريقة التــي كان فيهــا جيرالد يســير في ركب الســردية البنيويــة وفي الوقت نفســه يجترح لنفسه مسارا خاصا يعبد الطريق أمــام املدرســة األنكلوأمر­يكيــة النتهاج مســالك أخرى تصب في باب علم الســرد ما بعد الكاســيكي. ويظل التعجب كبيرا من هــذه احلفريــات النيرتولوج­ية التي كان جيرالد برنس ميارســها، وهو يدرس األبنيــة واخلطابات الســردية دراســة علمية. ليكون واحدا مــن املنظرين الذين بنوا القاعدة التي عليها قامت تلك املدرسة كبرسي لوبوك وواين بوث وآن بنفيلد.

نقد السرد

واليــوم بعد أن قطــع علم الســرد ما بعد الكاســيكي أشــواطا مهمة وتفرعت عنه علوم أخــرى، منها علم الســرد غير الطبيعي، فإن التباســات نقد السرد عند جيرالــد برنس غــدت أقل حــدة وأخذت تتوضح أهمية بعض مفاهيمه ومتثياته، الســيما في كتبه الاحقة التــي فيها ترك نهــج املنــاورة النقديــة، وصــار ذا خط نقدي يصب في باب علمية الســرد ما بعد الكاســيكي كواحد من النقــاد املعروفني بباعهم الســردي فــي دراســة الروايات الفرنسية ونقدها. ويعــد بحثــه املعنــون The( )disnarrate­d املنشــور فــي العــدد األول مــن اجمللــد الثاني والعشــرين من مجلة النظرية السردية والنقد في جامعة بنســلفاني­ا ربيع ،1988 أول دالئل خطه ما بعد الكاســيكي وفيه ركز على ما ال ليس معقوال أن يكون ســاردا أو مسرودا، أو ما هو غير قادر على التلفظ )unspoken(

الــذي عبــر عنــه مبســمى( )disnarrate­d وترجمه منصف الوهايبي بـ(املمتنع الســردي) في مقاله املنشور في «القدس العربي» بتاريخ 25 نوفمبر/تشرين الثاني، وبدا غير مقتنع بهــذه الترجمة في تلبية مقتضــى الداللة تلبية قاطعة. لكننــي أرى أننا قبــل الوقوف على نظير عربي ملفهوم ،disnarrate­d

علينا أن نقف أوال عند مفهوم (مسرد )narrated في كتاب (علم السرد) الوارد ذكره آنفا. وبإيجــاز أقــول إن جيرالــد بنى هذا الكتــاب ظاهريــا علــى بنيوية فهــم الســرد، لكنه في العمــق تعامل مع الســرد كفعاليــة أو عمليــة كلية ليــس فيها للفعل (يســرد )narrate

أهمية، بــل األهميــة هــي لتفريعاته اآلتيــة ,( ‪narrating، narratee‬

‪narrator، narration ،narrative‬ ‪)،narrated، narrativit­y‬ وكل واحد منها شــكل مبحثا، ورمبا فصا وأســفرت هــذه املفاهيــم مبجموعها عن أن الســرد عملية تلفظية قولية، قد تكون موثوقة وقد ال تكون كذلــك. وهنا تكون غاية برنس قد جتلت في حقيقتها وهي بناء قاعدة نظرية لعلم ينطلق من االكتراث بالبنية السردية وينتهي عند االكتراث بالابنية الســردية التــي فيهــا يكون الســارد غيــر موثوق به ويكون الســرد معطا عــن اإلفهام أو مهما وغير مهــم. وبهذا يلتقي كتاب (علم الســرد) مع كتاب (باغة الفن القصصي) في مســألة مركزة القارئ داخل الســرد، أوال بوصفه عارفا بناء القواعد الســردية وهو ما تناولــه جيرالد في الفصلني األول والثاني (تســريد narratingو­مســرد )narrated وثانيا بوصف القارئ حاكما علــى صحة القواعــد أو عدمهــا، وهو ما يتضح في الفصلني الثالث والرابع (قواعد السرد ‪narrative grammar‬ وقراءة السرد‪narrative reading‬ .) واستمر جيرالد برنس من بعد كتابه هذا يعمل على تعضيد نظريته في علمنة السرد، جامعا ما بني النظر إلى البنية، والنظر إلى القارئ، وطرح مفهومات جديــدة تصب في خدمة علم الســرد ما بعد الكاسيكي بوجه عام، وتخدم علم الســرد غيــر الطبيعي بوجه خــاص، ومنهــا disnarrate­d الذي له صلــة باملوثوقيـ­ـة الســردية. وإذا كانت مونيــكا فلودرنك قد اســتعملت الســرد الطبيعي في التعبير عن الاموثوقية، فإن جيرالد اســتعمل هذا املفهوم للداللة على الفكرة نفسها.

الفعل السردي

ومهما كانت مرشــحات الترجمة دقيقة فإنها ينبغي أن تكون مؤطــرة بهذا الفهم العلمي للسرد كفعل قولي، أو قول فعلي أو كليهما معا. وقد ضرب جيرالد برنس أمثلة على ذلك بأجنــاس وجتارب فيها تفاصيل تهمل في أثناء الســرد، فا يذكر تسلسلها لبســاطتها، ومنها مثاله أن يقول أحدهم لصديقه: (أنا مشــيت ظهيــرة يوم أمس) دون أن يذكر أنه ربط حذاءه، بعد ان أزاح مركــز ثقله فاصطدم كعب قدمه اليســرى باألرض ورفعــت قدمه اليمنــى بوصتني أثناء تأرجحها لأمام.

فهذه تفاصيل تشــتت الفعل الســردي من جهــة وجتعل التركيز علــى فئات غير صاحلــة للتســريد، أو هي عصيــة على السرد، أي ال ميكن ســردها، أو أن السرد ليس بحاجة إليها فا تســتحق الذكر. أما التركيــز على هــذه الفئــات فيعني خرق القانون املتعارف عليه سرديا واجتماعيا وتأليفيا، فيكون التحــدي موجها صوب منظومة الســارد العليم أو أي ســارد من الســراد املعروفني واملألوفني. وهذا الذي يــدل عليــه )disnarrate­d( من ناحية إثارة التفكير في الســرد وطرائقه املمكنة والاممكنــ­ة هو ما يضعــه جيرالد برنس حتت مجهــره النقدي. ووجــد أمثلته في قصــص العصــور الوســطى، كحكايات كانتربــري جليفري تشوســر وكذلك في الروايــات الكاســيكي­ة لهنــري جيمس وديكنز وجورج أليوت. ويبدو أن جيرالد اتخــذ مــن ( )disnarrate­d في داللته على (ما ال ميكن أن يســرد أو يروى ألن ال أهمية ســردية له) جهازا مفاهيميا، تتفرع عنه مفاهيم سردية غير معتادة وإشكالية مثل( ‪narratabil­ity Threshold of‬

عتبة الســرد) وترجمته هياري دننبرغ Narrativeh­ood أو Narratabil­ity

بينما ترجمه فرانك واغنر Alternatte­d

‪. disnarrate­d‬

فا عجــب إذن إن نحــن اختلفنا حول ترجمــة disnarrate­d لكــن املهم ليس إيجاد مســميات بديلة، بل املهــم هو فهم اآللية التي بها تعمــل املفردة اصطاحيا، كي نتمكن مــن تطبيقها علــى النصوص الســردية تطبيقا مائما وبالداللة نفسها التي تنص عليها فــي حاضنتها األصلية. وإذا كان صعبــا علينا أن نضع أيدينا على مســمى عام فيه تكــون الداللــة مطابقة، فإنــه ال ضير على لغتنــا العربية إن نحن اســتعملنا املفــردة بلفظهــا األعجمي مع الشــرح املطلوب لها، وبغيتنــا من وراء استعمالها الدقة االصطاحية.

وعلــم الســرد كأي علم يحتــاج إلى الضبط االصطاحي، ونحــن ما زلنا غير معترفني بهــذه العلمية من خال مداومتنا على استعمال مفردتي (سردية وسرديات) وهمــا ال تفيــان بالغرض ألنهمــا صفتان عامتان وال تخصيــص اصطاحيا فيهما، إذ ميكن أن يســتعما في أي ســياق كان. وإذا كنا استعملنا (الكاسيكية) مع (علم السرد) ألنها حتقق الضبط، فإن مثل ذلك يقال مع استعمال مفردات أعجمية مماثلة ليس ألن ال مقابل لها في اللغة العربية، بل ألن استعمالها يؤدي املطلب العلمي نفسه الذي تؤديه دالالتها باللغة األصل.

 ?? ??
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom