Al-Quds Al-Arabi

عبد العزيز املقالح: حياة جديدة في الوعي العربي

أدباء ونقاد مصريون وعرب

- من محمد عبد الرحيم:

رحل يوم االثنني 28 نوفمبر/تشرين الثاني الشــاعر والناقــد اليمني عبد العزيــز املقالح 1937( ـ )2022 وال أحــد يســتطيع إنكار دوره املؤثر في املشهد الثقافي العربي، دون االقتصار على النهضة الثقافية التي يعد أحد مؤسســيها في اليمن. هذه املكانة التــي أتاحت للراحل أن يصبح الصوت املعبر بوعي عن الثقافة العربية في شــكلها العصري واحلداثي. وهنا شهادات بعض مــن املثقفني املصريــني والعرب عن عبد العزيز املقالــح ودوره اإلبداعي والثقافي الذي لن يتنهي برحيله.

رائد احلداثة الشعرية

بداية يقول القاص والشاعر املصري أسامة جاد.. أول معرفه لي بالشاعر اليمني عبد العزيز املقالح كانت في قراءة لتقدميه األعمال الكاملة للشاعر أمل دنقل، التي أشــار فيها إلى وقفته إلى جوار أمــل في محنتــه الصحية مع مرض السرطان. كان موقف املقالح نبيال وهو يسعى ملســاعدة أمل، وكان موقف أمل مبررا باعتزازه بنفسه ومبوقفه في مواجهة حلظة الغروب. ثم في فترة عملي في جريدة «الشبيبة» في سلطنة عمان التقيت شــاعر اليمن عبد الله البردوني وفي حديثنــا عن الراهــن الشــعري اليمني حتدث البردونــي عن املقالح كواحــد من أهم رموز احلداثة الشعرية في اليمن. وعلى الرغم مــن انتماء البردوني إلى كالســيكية الشــكل العمودي، الذي عرف عنه جتديد محتواه الفني مبا يناسب الراهن املعاصر، إال أنه حرص على تأكيد تصاحله مع قصيــده التفعيلة التي كان املقالح رمزها اليمني األشهر. ولعل كون املقالح مدججا بثقافة عربية هائلة ليس شاهدها فقط دراســته املتخصصة في جامعة عني شــمس، وإمنــا تراثه العربــي الكبير الــذي يحمله في جيناتــه املعرفية في اليمن، األمــر الذي جعله رائد احلداثه الشــعرية اليمنية بال منازع، وما أجيال الشعراء اليمنيني الشباب الذين متيزت جتاربهم الشــعرية باجتراح آفاق مدهشة في القصيدة العربية إال نتاجات جســارة املقالح في بداياته الشــعرية التي فتحــت هذا األفق الهائل أمام تطــور القصيدة التفعيلية اليمنية، وما تراها من اقتراح جتربة قصيدة النثر. تلك اجلســارة في ذاتها ما جعلت املقالح رائدًا مهمًا من رواد احلداثة الشــعرية ال في اليمن وحدها وإمنا في العالم العربي على امتداده.

مثــل املقالح ال يكــون رحيله ســوى بداية حليــاة خالدة أخرى يبقى فيهــا النص وتبقى فيها املواقف التي لن تنسى، وتبقى الدراسات الكثيــرة التي قدمها إلى املشــهد الثقافي وإلى اليمن وإلى الشعر على اتساعه.

رأى خلوده بعينيه

من ناحيته يقول األكادميي والشاعر العراقي رعد الســيفي.. في يوم االثنــني 2022/11/28 أغمض الشــاعر عينيه للمّرة األخيــرة، تاركًا اسمه ملء الدنيا بعد أن حمله ألكثر من ثمانية عقــود، كان فيهــا مثــاال للدماثــة والتواضع واإليثار واإلبداع، واحملّبــة التي لم تنفد يومًا. بقي يتنفس الشــعر حتى ســاعاته األخيرة، ويحتفي بالصداقة والصديق. وال أكشــف س ّر ًا حينما أقول: إنه كان الوجهة احلقيقية لــكل من قصد أو يقصد اليمن، ســواء أكان أكادمييًا أم مثقفًا، أم مبدعًا في أي حقل من حقول اإلبداع، فقد كان وجهها املشــرق بحق. كان صوتــه اخلفيض عاليــًا مبا يكفــي ليصــل بإبداعه كّل الدنيا. وكانت نبرته احملببة تدني إليه القلوب قبل اآلذان، لذا قلما جتد مكتبه خاليا ذات يوم مــن املريدين، مثلما ال جتد ذلك فــي بيته. كان يــوّزع احلّب واملعرفة على اجلميع، بشــر بعشرات املواهــب، ورصــد نتاجات عشــرات أخر دون كلل أو ملــل أو اعتذار. أفنى عمره في الــدرس والبحث والتدقيق واإلبداع، فرأى خلوده بعينيه! فوداعا على البعد أيها الراح ُل املقي ُم بيننا أبد ًا.

شاعر القضايا العربية

ويتســاءل الشــاعر املصري أحمد ســراج.. ملــاذا يكتــب شــاعر ميني قصيــدة عن حــرب أكتوبر/تشــرين األول؟ ويجيب.. لم أسأل هذا السؤال ورمبــا لم أنتبه له من قريــب أو من بعيد، رمبا ألنني حني درســت هذه القصيــدة كانت مصر تســترد عروبتها التــي عطلتهــا اتفاقيتها مع الكيان احملتل، وكان محتوى الكتاب املدرســي دليال على ذلك، فالفيتــور­ي واملقالح وغيرهما قد أفســح لهم مجال في معية شــوقي وحافظ. الالفــت أنه كلمــا تقدم بي نهر احليــاة وقطار العمر وجدت رائيــة املقالح األكتوبرية على كل لسان.. «ال الليل في الضفة األخرى وال النذر وال الدما ُء - كمـا األنها ِر- تنهم ُر وال الذئاب وقد أقعْت على حذٍر وحولها تزأر النيران وا ُحل َف ُر ال هذه سوف تثنينا وال خطر يصد جيشا دعاه الثأر والظفر جيشا مترد صبرا، في مواقعه وكاد في االنتظار املر ينفجر مضى ليثأر من أعدائه ومضت في َركبه الشم ُس والتـاري ُخ والق َد ُر يا عابر البحر، كان البحر أغنية والشط عاشقة تومي وتنتظر». في ما بعد وشــيئا فشيئا اختفى اسم املقالح وقضايا العروبة حتى وصلنا للمنهج الرمادي الذي ال يدل على هوية وال يعمق انتماء أو يشير إليه. أنظر اآلن لألمر بعد رحيل املقالح متأمال.. كان هناك وطــن عربي ميكن أن تقــرأ ألبنائه وأنت فــي قريتك، كان لديك أعالم عربية تخفق مزهوة بقرب أهلها، وكان هناك شعراء لكل بلد يخفقون كأعالمها.. نزار والفيتوري والسياب والبياتي والبردونــ­ي واملقالح. برحيل املقالح يتوقف علم عــن اخلفقان، وتضطــرب قلوب مــن احلزن وقد فقــدت بناء أريبــا وضع لبنة في تكوينهــا فعرفت ووعت وأحبــت الوطن.. الســالمة يا ســيدي املقالح.. احملبة والسالمة والسالم.

سفير التنوير

ويــرى األكادميــ­ي والناقــد العراقي حامت الصكــر أنــه.. برحيــل الشــاعر والكاتــب واألكادميي التنويري احلر عبد العزيز املقالح، تخســر اليمن والثقافة العربية واحدا من رواد التحديث فــي أعز بقعة مــن األرض العربية.. (اليمــن) املهد الذي نذر املقالــح حياته لبنائه ثقافيا من داخله. يندر أن يتماهى إنسان ومبدع مع وطنه كما فعل املقالح. وألجل ذلك اســتعان بطاقته كلها وشبكة محبيه وأصدقائه وزمالئه عربــا وأجانب. صــار لليمن في عهــد إدارته جلامعتها مكانة قل أن حتصل عليها مؤسســة تربوية.. زار اليمن أعالم الثقافة العربية مرارا، وأدمنوا محبتــه، وزارها مثقفــون من العالم نوبليون ومشاهير في ثقافات اإلنسانية، التي كانت رابطة املقالــح األولى. عمليا جعل املقالح آصرة العالم والوطن في رباط قوي وســليم. كتب أول كتاب عن أجيال التحديث اجلديد في اليمن. وانتشــر عربيا مواظب على الكتابة بال كلل. حياته في الكلمات، كلمــا زرته في مكتبه أو بيته ال أجده إال قرب الكتب.. يرعاها كساللة ممتدة عبــره، وينقــل عصارتها مســتوعبها محاورا، ولــم تكن لديه حــدود للتحديث من الشــعر اجلديد حتــى القصيــدة (األجد) كما اصطلح هــو على (قصيدة النثر). يحرص على أن يحتفي مببدعي وطنــه ويقدم أعمالهم، إنها مهمة تنويرية في اعتقاده ألنهم يوسعون مدى احلريــة والكلمة في مجتمع به حاجة شــديدة لذلك. كان ســفير اليمن في اليمن كما ســميته في مناسبة ســابقة، يعرف العالم بوطنه، وال

يتردد في االهتمام بأي صوت يضيف ملهمته. فقد كان من أوائل من ثاروا لنقل اليمــن إلى عصر األنــوار بعد ظلمات اإلمامة. درس فنون وطنه الشــعبية، وتاريخه البعيد والقريب. اســتلهمه في شعره، وأدخله في مناهج التعليم، وفي الدراسات العليا. وأطل من نافذة اليمن إلى الثقافة العربية ليغدو واحدا من مجدديها، له وجوده اخلاص على خريطتها.. تتقدم به خطاه أو تتوقف لكنه فــي القلب منها.. إنســانية فذة جعلته أول شــاعر في عصرنا، يكرس ديوانا كامال ألصدقائه.. يســتدعيهم عبر األزمنة واألمكنة.. أحرارا مفكرين ومبدعني. واصل الكتابة حتى في أشد حاالت مرضه احلرجة.. عشق سرمدي للحياة والكلمة واحلرية، وبهذا ستظل نصوصه في الشــعر والنقد شــواهد على خلود أبدي يليق به.

من يسكننا ال ميوت

وفي األخير تأتي شــهادة الروائي اليمنــي محمد الغربي عمــران قائال.. ال ميوت املبــدع، لكنــه يترجــل. فالكثير ممــن نعيش معهم هم أموات منذ مولدهــم. املقالح كاملتنبي وأبي فــراس والبردوني واحملضار والســياب ومحفوظ إلى آخر اخلالدين عصيني ال ميوتون. اليوم نستقبله بشــكل مختلف، فها هي روحه أبدية معنا، وســتظل إلى ما شاء الله من خالل أعمالــه بصمته فينــا كمجتمع وكطــالب له. كثيرون ســيتحدثون عن ذكرياتهم معه، وأنا أحتدث عــن مقبل األيام معه من خالل شــعره ونقــده وفكره، من خــالل توجيهاته من خالل علمــه وأخالقه وقيمه أن نعيــش كما كان لهذا اجملتمع أن يعيــش وجدانا وطنيا وجهدا أدبيا. املبدع حني يترجل يبعث من جديد، حلياة أبدية ال تشــبه حياته التي عاشــها مكابدا ومناضال ومبدعا. حياة ترحل فينا من جيل إلى جيل كما يرحل فينا الزبيري والشــوكان­ي، ويرحل فينا محمد عبد الولي ولطفي جعفــر أمان وعظماء الفكر واألدب. إذ يجب أن تبعث كتبه، أن تطبع وتوزع علــى كل املكتبات العامــة واجلامعية، يجب أن ننشــئ اجلوائز باســمه، واملنتديات واجلامعات واملراكز الثقافية ومسمى الشوارع. فذلــك أن نحيا مع عظمــة مهمة تنتمــي إلينا وننتمي إليها.

أشــفق على من يحزن لترجــل هذا العظيم، وأنصحه أن يحزن علــى ذاته، وال يحزن على خالد مثل املقالح. كم أنا سعيد أن تشرق شمس غد وبعد غد، وأن يكــون املقالح حيا بيننا حيا بني جيل قــادم بل أجيال وأجيــال، فها هو أبو القاسم الشــابي حي وها هو البياتي ودرويش واحلكيم وآالف من عرب وأفارقه وأوروبيني.. يعيشون وسيعيشــون لروح السالم، ولنا أن نستدفئ بضي شمسك وأن ننعم بعظيم عطاك ونفاخــر أمــام شــعوب األرض، أن لنا جنما يسكن السماء متوهجا دوما وأبدا املقالح املعلم والوطني واملربي اإلنسان واملبدع الفنان، نبعه ال يزال وسيستمر يتدفق.

وعلينا أن نرتشــف منه لنحيــا ونضاعف حيواتنا. أن نتزود، ونتأسى به ونتمثل لنحيا حيــاة مضاعفة مــن خالل الســير على خطاه ككائن ملهم أن نغني وننشــد ونكتب ونرســم ونبدع لنحيا ونحيــا مثلما بعد أن نترجل، بعد أن علمنا كيف نحيا إلى األبد، وال نعيش أموات. شكرًا أيها العظيم.. شــكرا مقالح اإلنسان فكرًا وقيم ًا ومبادئ وإبداع ًا.

 ?? ?? الراحل عبد العزيز املقالح
الراحل عبد العزيز املقالح

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom