Al-Quds Al-Arabi

الفاشية لن متر... هل حقا لن متر؟

- جواد بولس ٭

كان هذا عنوان مقال كتبته عام ؛2009 واليوم، لــم أعد متأكدا من أنــه ما زال يصلح كعنوان ملقال، خاصة وأننا نقف على عتبة دولة ستتسيد القوى الفاشية ســدة احلكم فيها لتشرع في تطبيق عهد جديد من إضطهادنــا العنصري، نحن مواطني إســرائيل العــرب، والتنكيل بأشــقائنا الفلســطين­يني في األراضي احملتلة.

أقرأ ما يكتبه عدد من القــادة واملثقفني واحملللني العرب، وأعجب مــن تأكيدهم على اقتراب موعــد املواجهة الدموية مع القوى الفاشــية، ويعتبرون أن تلك املواجهة هي شــأن مكتوب علينا كالقدر؛ فنحن في حالة حرب وصدام محتوم، هكذا يقــول هؤالء، ولزاما علينا أن نكون حطبا لنيرانها. في املقابل، يكتفي البعض بتوصيــف واقعنا وخطورته، لكنهم يعترفون، من باب النزاهة، أنهم يعدمون الرأي إزاء احللول املمكنة أو االجابة على سؤال األسئلة جميعها: ما العمل؟

يعمل نتنياهو، في هذه األيام، على رفو آخر خيوط عباءة حكومته املقبلة، التي لن يشــبه قمعها ممارســات حكومات إسرائيل السابقة. هو يعمل ونحن نترقب ونحلل وننتظر!

لــن أتطرق مجــددا للفوارق األساســية بــني احلالتني السياسيتني اإلســرائي­ليتني، احلاضرة والغابرة؛ علما بأن بيننا ما زال من يصر على إنكار وجــود االختالف، فاليهود برأي هؤالء، كل اليهود، صهاينة وأعداء للعرب وهم واثقون من قوتنا، نحن الفلسطينين­ي، ومن قدرتنا على الصمود ومن حتمية انتصارنــا على كهنة املعابد اجلدد وعلى جيوشــهم املسعورة.

ال أمانع بتزود ناســنا وأهلنا بجرعــات من األمل، لكنني مؤمن بأن األمل إذا مصصته حتــى منتهى األماني يتعب أو ينفد ويصاب حامله باليأس.

لقد عكفــت منذ أكثر من عقدين علــى الكتابة حول عملية التدهور السياسي الفاشي احلاصل داخل اجملتمع اليهودي، وفي الوقت ذاته أشــرت إلى التغييرات الســلبية اخلطيرة احلاصلة داخل مجتمعنا العربي. لقد أســميت تلك العملية، ذات الرأســني، «باملنزلق اخلطر»؛ وهي املرحلة التي وصلنا اليها ونقف اليوم على شفيرها.

يشــعر قادة األحــزاب واحلــركات اليمينية الفاشــية والدينيــة الصهيونيــ­ة املتزمتــة بعد فوزهم الســاحق في االنتخابات االســرائي­لية، بضرورة إجنــاز عدد من املهمات األخيرة كيما يتمكنوا من إحكام ســلطتهم املطلقة على جميع عروق الدولة وشرايينها.

لقد كان احتالل مواقع منظومة القضاء اإلســرائي­لي على جميع تفرعاتها، واحدا من عناوينهم الرئيســية املستهدفة؛ فعملوا خالل سنوات طويلة على اختراقها واملس بحياديتها (النســبية) التي كانت متارسها خاصة في ما يخص شؤون مواطني الدولة اليهود وفي بعض القضايا الهامشــية التي تخص املواطنني العرب.

لقد جنحوا في مهمتهم وصــاروا «قاب قوس وأدنى» من ابتالع هــذه املنظومة بالتمام بعــد أن وطنوا عناصرهم في معظم أرجائها وزرعوا رؤاهــم ومفاهيمهم العقائدية داخل أروقتها، وطوعوها، فصارت تديــن بدينهم في كل ما يتعلق بتعريف اجلرمية واجملرمني ومساطر الوالء واجلزاء. لقد كنا نحن، ومعنا جميع الفلسطينين­ي، ضحايا لتلك «اإلجنازات» الفاشــية التي ســتحصد مزيدا مــن الضحايا، كما تشــير تداعيات األحداث األخيرة كما رأيناها في ميادين املواجهات ووفق تصرفات الشــرطة ومواقف النيابات العامة وأحكام القضاة في احملاكم.

كانت احملكمة العليا هدفا مباشــرا لهجمات معظم اجلهات اليمينية وبقيت كذلك ولن يهدأ بالهم حتى يخضعوها ملآربهم بشــكل نهائي. وكل الدالئل تشــير الى أن نصرهم على هذه اجلبهة بات وشــيكا، خاصة بعد أن أحرزوا تقدما ملموســا بعد عدة معــارك خاضوها مع قضاة احملكمة في الســنوات املاضية. سيســيطرون على هــذه «القلعة» إمــا عن طريق ملئها بقضاة موالني لهم ومجندين لصالح تنفيذ سياساتهم، وإما عن طريق تطويقهــا بجرافات الـ )d9 ) وحتييدها عن مراكز التأثير، كما أعلن بعضهم على املأل، وإما بتقزمي دورها بشــكل مذل ومعيب. لن يفضي اخضــاع املنظومة القضائية لتثبيت شكل احلكم اجلديد، فبدون التحكم بعدد من املفاصل الرئيســية في صفوف وحدات اجليــش واالندماج في بناه التراتبية، وبدون الســيطرة على جهــاز اخملابرات العامة، الشــاباك، فلســوف يتعثر اكتمال مشــروعهم القاضي في نهايته الى إقامة مملكة إسرائيل اجلديدة.

لم تبدأ مناكفات اجلهات اليمينية الدينية االســتيطا­نية مع قيادة اجليش قبل أيام، وال بســبب سجن اجلندي الذي اعتــدى بالضرب املبرح على ناشــط يهودي يســاري جاء الى اخلليــل متضامنا مــع أهلها ضد موبقات املســتوطن­ني بحقهم، فصــراع حاخامات االســتيطا­ن املتزمتني وأتباعهم مع املؤسســة العسكرية نشأ منذ سنوات طوال، وقد أحرزوا

فيــه انتصــارات الفتة؛ حتى أنهــم باتوا يســيطرون على وحدات عســكرية ميدانية كاملة ووازنــة، يتحكم جنودها في الســيطرة على معظم األراضي الفلســطين­ية ويقمعون سكانها ويؤازرون سوائب املستوطنني في اعتداءاتهم على املواطنني الفلسطينين­ي وممتلكاتهم.

وكمــا أداروا صراعهم علــى مراكز القــوة داخل مواقع اجليش، يديرون بالتوازي صراعا ليس أقل احتداما مع قادة جهاز اخملابرات العامة، «الشــاباك»، وخاصة ضد ما يسمى «الوحدة اخلاصة باملواطنني اليهــود». لقد برز هذا الصراع منذ بداية نشاطات ميليشيا املســتوطن­ني اإلرهابية املنظمة واتساعها ضد أهدافها الفلســطين­ية، واستمر في جتاذبات متقطعة وصلت إلحدى ذراها في الصدام الذي حصل بينهم بعد اعتقال أفراد خلية إرهابيــة يهودية نفذ أفرادها جرمية حرق وقتل أفراد من عائلة دوابشه في قرية دوما. لم تنقطع املناكفــا­ت بني اجلهتني حتى صارت أشــرس أخيرا، كما برز ذلك قبيل املعركة االنتخابية حني استهدف جهاز «الشاباك» بكثافــة في دعاية بعض تلك االحزاب، وعلى ألســنة قادتها ومناشيرهم.

لن تســتمر تلك املعارك لزمن طويل؛ ولــن يكون فيها إال منتصر واحد، هو الفاشــية والفاشــيو­ن. فالفاشية تقدمت وتتقــدم وتتعملق، وفق مــا تعلمناه مــن دروس التاريخ، إذا لم جتــد، في الوقــت املناســب، من يصدهــا أو يعرقل مســيرتها. وهذا متاما ما حصل معنا، نحن املواطنني العرب، خالل العقــود الثالثة املنصرمة، على االقــل منذ أن رفعت « الكاهانية» قبضاتها الفوالذية نحو وجوهنا وشعارها األهم كان: املوت للعرب أو تهجيرهم.

سأســتعيد في هذا الصدد ما كتبته فــي املاضي للتذكير مجددا بعجزنــا كمجتمع، تدمن أكثريته وتعشــق وتكتفي مبمارســة دور الضحية. فكما قلت وقتها أؤكــد اليوم على أن «مواجهــة أوضاعنا اخلطيــرة، التي ســتتأزم أكثر في املســتقبل، هي مســؤولية كبرى تقع على عاتق اجلماهير العربية، وعلينا جميعا» هكذا كتبت في العام 2009 وأضفت: «وكي ال تضيع فرصنا في احلياة الطبيعية واآلمنة، يتوجب على جميع القيــادات صياغة رؤى مســتحدثة تأخذ بعني االعتبــار مســتجدات واقعنــا ومخاطر املســتقبل القامت، وهذا يســتوجب إعداد دراســات جدية ومراجعات جلميع اخلطابات السياســية التقليدية وضروراتها الراهنة ومدى جناعتها وعالقتها وإمكانية تأثيرهــا على مجتمع األكثرية اليهودية». لقد بحت حناجرنا في سبعينيات القرن املاضي، أثناء ســنوات دراستنا اجلامعية، هاتفني في وجه زمر ميني ذلك الزمن بأن «الفاشــية لن متر»، لكن السنني مرت وصار مــن هتفنا في وجوههم حكام البــالد، واليوم هم يورثونها لتالميذ تفوقوا عليهم في العنصرية وفي كراهيتهم املرضية العرقية للعربي. فالفاشية لن متر، أحقا؟ ومن سيتصدى لها وكيف ومتى؟ اجلبهويــو­ن والشــيوعي­ون تخلــوا عــن شــعاراتهم التاريخيــ­ة امللهمــة وأهملــوا القيام بواجبهــم الضروري واملميز فــي مثل ظروفنا، وهــو العمل على بنــاء «اجلبهة ضد الفاشــية»، وتنازلــوا عن دورهم فــي التواصل مع كل مؤسسة أو حركة أو حزب أو جهة تعلن وقوفها ضد الفاشية والفاشــين­ي. لقد آثرت بعض قياداتهــم املتنفذة اللهاث في دهاليز القوميــني أحيانا أو االنزواء داخــل هياكل حزبية بالية لم تعد صاحلة إلســعاف أحوال مجتمعنا. أما أصحاب الطريق/ املشروع الوطني فيعدوننا باملواجهات وبالنضال، وهي لن تكون إال كما كانت، مجرد ردات فعل ملا ستقدم عليه الدولة والفاشــيو­ن، فسوى اســم الطريق ال نعرف شيئا عن البوصلة وال عن تضاريســها وال عن برامجهم الفعلية. وبعيدا عن الشــيوعية والوطنية يبقينا انشــطار أصحاب املشــروع اإلســالمي في دوامة كبرى والتبــاس بني حركة إســالمية جنوبية اختار شــيوخها طريقا سياسيا مختلفا عليه أوصلهم حتــى التحالف مع «أعداء األمة»، وبني حركة إسالمية شمالية يبشرنا شيوخها بالفرج القريب، من دون أن نعلم من أين وكيف سيحصل «بعيرنا» على «قطرانه» كي يبرأ قبل أن يأكله الذئب.

الفاشــية لن متر ... يجب أن نبقي الشعار مرفوعا، ولكن من ســيوقفها ومتى وكيــف، فإنني ال أرى فــي املدى خيال فــارس قادر على حتقيق هــذه املعجــزة. ال أزايد على أحد لكننــي أكتب وكأنني أســمع عواء الذئــاب وهي تدوي في شــوارعنا، وأتخيل كيف ستهب حشــود الشباب والفقراء املظلومني كي يتصــدوا لتلك القطعان؛ وأقــدر، بوجع، كم هي األثمان التي ســيدفعونه­ا، وأعرف أن أثمان مواجهات املاضي (أحداث أكتوبر/تشــرين األول 2000 وأحداث مايو/ ايار )2021 ســتظهر كأنها عينات صغيرة مقابل ما سيكون. فهل حقا الفاشية لن متر؟

٭ كاتب فلسطيني

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom