Al-Quds Al-Arabi

أمريكا وأوروبا: معارك أقطاب الرأسمالية املعاصرة

- صبحي حديدي٭

■ إذا كان التوتــر بني فرنســا والواليــا­ت املتحدة حول صفقة الغواصات مع أستراليا قد انخفضت حدته منذ أيلول (ســبتمبر) ،2021 وأسلمت باريس أمرها إلى واحد من أعتى وأعتق القوانني الرأســمال­ية التي تخص صراع األسواق وتســليع املصالح االســتثما­رية؛ فإن التوتر اجلديد يدور حول ما بات يعرف باســم «تشريع خفض التضخم»، ،IRA الذي الــذي أقره الكونغرس ووقع عليه الرئيس األمريكي جو بايدن في أواســط آب (أغســطس) املاضي ليصبح قانونا. االحتاد األوروبي بأسره، وليس فرنســا وحدها، هي هذه املرة املتضررة من التشــريع اجلديد، وبالتالي فإن الشــطر األوروبي من الرأســمال­ية املعاصــرة يدخل في حــال خالفية مع الشــطر األمريكي. وليس من املرجح أن ينجح الرئيس الفرنســي إميانويل ماكرون، خالل زيارته الراهنة إلى الواليات املتحدة، في إقناع نظيره األمريكي بأن مصالح الشطرين تقتضي حل النزاعات بدل تأجيجها.

مضمون التوتر اجلديد ال يخــرج كثيرا عن التنظير العتيق القائــل بأن الرأســمال­ية هي التــي تخلق أول حفاري قبورها، إذ أن تشــريع الـ IRA يخدم مصالح التضخم فــي الواليات املتحدة، ولكنــه يؤذي املصالح ذاتهأ أو ما مياثلها في أوروبا: إنه سوف يوفر 738 مليار دوالر أمريكي فــي مجال اإلنفاق علــى الطاقة والتبدل املناخي، 238و مليار دوالر فــي ميدان خفض التضخم، ومن املقرر له أن يخفض في سنة 2030 انبعاثات غازات الدفيئة مبعدل 04٪ قياسا على مستويات ،2005 ويقدم دعما بقيمة 7500 دوالر ملشتري السيارات اإللكتروني­ة. أين املشــكلة، إذن؟ إنها تبــدأ من حقيقة أن التشــريع يشجع االســتثما­رات في صناعة السيارات األمريكية، ويقلصها في أوروبا على مســتوى صناعات السيارات والبطاريات والطاقة املتجددة، إلــى درجة أن املفوض األوروبي لشؤون الســوق هدد واشنطن باللجوء إلى منظمة التجارة العاملية، ورئيســة الوزراء الفرنســية أعلنــت أن بالدها لن تقف مكتوفة األيــدي وأكمل وزير االقتصــاد فــي حكومتها فاشــتكى من أن قيمــة الدعم الذي يقترحه تشــريع الـ IRA أكبر 14 مرة من القيمة القصوى التي تسمح بها املفوضية األوروبية.

ال جديد، بالطبع، في انــدالع خالفات مثل هذه ميكن أن تنقلب إلــى معارك مفتوحة بني قطَبْي الرأســمال­ية، وثمــة ابعاد أخــرى داخل القطــب الواحــد ذاته على غرار معركــة قانونية ذات مغزى عميــق، اندلعت ضد «قصة جناح» رأســمالية فريدة، بل لعلهــا أكثر كونية وانضــواء في حاضنة العوملــة؛ أي قضية وزارة العدل األمريكية (ومــن ورائها أكثر من 20 والية، وعشــرات شركات الكومبيوتر الصغيرة والكبيرة)، ضد امللياردير األمريكي بيل غيتس وشــركة «ميكروسوفت» العمالقة. وفي اجلوهر العميــق من تلك املواجهــة الضارية كان املبدأ الرأسمالي العريق «دعه ميّر، دعه يعمل» يتعّرض للمســاءلة واملراجعة، ليس في ميدان التنظير الفلسفي او االقتصادي كما جرت العادة؛ وإمنا في خضم السوق، وفي ظّل قوانني العرض والطلب دون سواها. ثمة، غنّي عن القول، الكثير من املغزى في أن تهّب الرأسمالية ضّد واحد من خيرة أبنائها البَررة، وضّد واحدة من كبريات معجزاتها، كي نقتبس أســبوعية الـ»إيكونوميسـ­ـت» العليمة بأسرار اآللة الرأسمالية.

ومعارك رأس املــال املعاصر ضد املؤسســة أو قوى اإلنتــاج أو عالقات اإلنتاج لم تعد جتــري في معمعان الصراعات الطبقية الكالســيك­ية، كما كانت عليه احلال في املاضي، بل هي اليــوم تخاض في قاعات البورصة، أو احملاكم، أو البرملانــ­ات، أو اجتماعات مجالس إدارة الشــركات العمالقة أو اجلمعيــات العمومية ألصحاب األسهم. في قاعات كهذه يتقرر مصير العقد االجتماعي، ليس على ضوء التعاقد بني املنتج واملســتهل­ك أو العمل وقيمــة العمل، بل على أســاس قاعــدة ذهبية واحدة، ليســت جديدة متاما في الواقــع: التخفيف ما أمكن من النفقات، بقصد حتقيق أقصى زيادات ممكنة في األرباح، وحتســني حظوظ املؤسســة في املنافســة واالحتكار

والتواجد الكوني القوي املعولم.

ليســت أقل وضوحا حقيقة أن الواليات املتحدة، في أعقاب أزمة 2007 ـ 2008 املالية التي شــهدت ما يشــبه االنهيــار التام للنظــام املالي الكوني، أخــذت تتراجع بانتظام عن سياســات احلماية املتغطرسة التي سعت إلى فرضها على قمة مجموعة العشــرين في واشنطن، تشرين الثاني (نوفمبر) ،2008 ثّم قّمة لندن، في نيسان (أبريل) املاضي. األســباب عديدة، على رأسها تناقض املصالــح بــني النخب احلاكمــة في الواليــات املتحدة وأوروبا، وتعزز مواقع الدول ذات االقتصادات الناشئة في آســيا وأمريــكا الالتينية، والصــني بصفة خاصة. وإذا غــاب الدليل على هذا الوضــوح، فليس على املرء إال أن يقلب صفحات «وول ســتريت جورنــال»، فيقرأ الدروس الســلوكية التــي توجهت بهــا الصحيفة إلى تيموثي غايثنر وزير اخلزانة األمريكي آنذاك: )1 لســنا في عقود الهيمنة، وتأزم االقتصادات اآلســيوية، حني كانت اخلزانة األمريكية تســير اقتصاد الكون من خالل صندوق النقــد الدولي؛ و2) ال مناص، اســتطرادا، من مراعاة مصالــح اقتصادات الصني والهنــد والبرازيل، على حســاب احللفاء في أوروبا؛ ومــن الضروري منح هذه الدول قــوة تصويتية أعلى في اجتماعات صندوق النقد الدولي، على حســاب حلفاء مثل فرنســا وأملانيا، وهذه املرة عن سابق قصد، ومبا يخدم مصالح الواليات املتحدة...

وإذ يجتمع ماكرون مع بايدن حتت راية إدارة أزمات قطَب ْي الرأســمال­ية، فإّن مداوالتهما ال تدير سوى بعض أزمات العمالقة أنفســهم، بني بعضهم البعض؛ أو تشرع االبواب أمام اندالع املزيد من األزمات، على هذه اجلبهة او تلك، أو على كل اجلبهــات دفعة واحدة، بحيث يبدو العالم فــي حال دائمة مــن تأزم الوقائع واســتعصاء احللول. لقد ســبق لقمم مماثلة، أو أوســع نطاقا وأكبر عــددا، أن وضعت على جداول أعمالهــا تنظيم إخضاع األطراف لسياسات التعديل الهيكلي التي تخدم املركز،

في عــام ؛1976 وتنظيم إعادة بناء الــدوالر النفطي لصالح منطــق املضاربــة املالية، في عام ؛1980 وتشــجيع الهبوط في أســعار املادة اخلام؛ وتنظيم إعادة جدولة الديــون، في عام ؛1982 وتنظيم إدخال روسيا ودول أوروبا الشرقية في برامج التعديل الهيكلي مــن طرف واحد في عــام ؛1992 والتوفيق بني خفض التضخم في أمريكا وزيادة معدالته في أوروبا...

ومــن جانــب آخــر يخــص العمــالت الوطنيــة والبورصات، فإن مؤشــرات إطالق اليورو في أسواق البورصة، أي منذ عام 1998 وقبل اعتماده عملة موحدة، ال تدل علــى أنه ربح بعض الرهان مع الدوالر األمريكي. املنطــق االقتصادي الصــارم يبرهن علــى العكس: أن الدوالر، عملة املركز الرأســمال­ي األول، ربح الرهان ضد املراكز الرأســمال­ية األخرى؛ كل الرهان أو معظمه، حتى إشــعار آخر ال يبدو قريبا البتة. لقد بدأ اليورو بســعر صرف 1.17 دوالر أمريكــي، ثم مر مبرحلة لم تكن قيمته تتجاوز 80 سنتا، ثم راوح طويال وهو يسعى إلى جتاوز عتبة الـ 90 ســنتا، قبل أن يقفز فوق الدوالر في معدالت متصاعدة ال تستقيم مع منطق البورصة السليم.، ويبلغ اليوم سوية التذبذب عند رقم 0.96 أمام الدوالر!

وال يخفى على أحد أن إطالق اليورو تزامن مع هيمنة أمريكية شــاملة، أو تكاد، على مقــدرات الكون: باملعنى السياسي احملض، ثم مبعنى السياسة بوصفها اقتصادا مكثفا. ذلــك ألن طبائع حروب التبــادل جتعل اليورو غائبًا سياســيًا عن مناطق ساخنة مثل الشرق األوسط وأفغانستان وشــبه القارة الهندية والصني والبرازيل، فكيف تكون احلــال في مناطق مثل االحتــاد األوروبي واليابان؛ حيث الغياب السياســي له أثمان اقتصادية دون ريب، طــال أجلها أم قصر، وحيــث يعود ماكرون خائب الرجاء في مسعى جتميد الـ ،IRA أو حتى تليني عريكته. ٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom