Al-Quds Al-Arabi

بني مقتل جورج فلويد األمريكي وعمار مفلح الفلسطيني... مفارقات واستنتاجات

- من سعيد أبو معال:

على بسطة شواء وسط مدينة جنني، هناك شيء ما مشــتعل يشــبه حرارة كانون النار الذي يتجهز كي تنضج أســياخ اللحم املقطع، فيما حــوار عفوي جــدا يدور بــني مواطنني يلتفون حول املكان.

يؤكد أحد املتحدثني أنه ال يتدخل بالسياسة أبدا وال يشارك بأي أنشــطة مقاومة مهما كان نوعها، لكنه يســتدرك أن مشهد إعدام الشاب في حوارة شــرق مدينة نابلــس جعله يفقد أعصابه كليا.

يضيف شــاب آخر جملة في احلــوار فيما يشــبه االنتقاد بإنه ما كان على املواطنني أن يتركوا اجلندي القاتل ينفــذ فعلته مهما كلف األمــر، فيما يرد عليــه رجل ثالــث بعقالنية مشيرا إلى أن ذلك كان كفيال بوقوع مجزرة في املكان.

في اجلوار يتحدث شــاب آخر يعمل سائق تاكســي عمومي على خط جنــني رام الله عن أنه شــارك، على غير العادة، يــوم اخلميس املاضي في جنازة تشييع شهيدي جنني محمد الســعدي ونعيم الزبيدي اللذين سقطا خالل اقتحام قوات االحتالل خمليم املدينة.

من أحاديث املواطنني في مركز املدينة تدرك مقدار الغضب القابع فــي النفوس، وتدرك أن ممارسات القتل اليومي سيترتب عليها، عاجال أو أجال، مزيد من انخراط مواطنني عاديني في أعمال مقاومة، وهو ما يتخوف منه االحتالل.

وشكلت حادثة إعدام جندي احتاللي، موثق بالصوت والصورة، للشاب الفلسطيني عمار مفلح 22( عاما) من مســافة قريبة جدا، صدمة ووجعــا وغضبا بقي جزء كبير منه مكبوتا في النفوس وتناقلته الشبكات االجتماعية.

املار مــن بلدة حــوارة ســيجدها ممتلئة باجلنود، وعني املار ســترى عشرات اجلنود والدوريات التــي تقف على جانبي الشــارع الرئيسي، يحملون بنادقهم، ويصوبونها نحو صدور وســيارات املواطنني املارة وكأن هجمة ما أو عملية مقاومة فلسطينية قادمة إليهم.

ال أحد على وجه الدقة يعرف ما ســتؤول إليه األمور، غيــر ان املؤكد أن حادثة إعدام الشــاب مفلح تشــبه كثيرا حادثة مقتل األمريكي األسود جورج فلويد حســب الدكتــور نظام صالحات، محاضر الدراسات الدولية في جامعة االستقالل، واملتخصص في الدراســات األمنيــة والعالقات املدنية العسكرية.

مفلح وفلويد

ويقول صالحــات في منشــور على صفحته اخلاصــة على الفيســبوك إنــه باملقارنة؛ كانت جرمية قتــل األمريكي األســود جــورج فلويد على يد شــرطي أبيــض عام 2020 أقل بشــاعة مــن قيام جندي حــرس احلدود اإلســرائي­لي ـ غير محدد الهوية حتــى اآلن ـ بالقتل العمد غير املبرر للفلســطين­ي عمار مفلح في شارع حوارة الرئيسي يوم اجلمعة املاضي.

ويتابع: «تتشــابه عمليتا القتل في بشاعتهما وفي كون القتلة رجاال ميثلون الدولة والقانون، وفي كون أن احلالتني همــا على خلفية عنصرية محضــة؛ وأخيــرا في كــون حالتــي القتل ضد شخصني أعزلني وغير مبررة».

ويضيف: «إال أنــه وعلى خالف قضية جورج فلويد التي حتولــت إلى ثورة عاملية إنســانية الطابع؛ مت تغليــف قضية عمار في إطار اإلرهاب الفلسطيني والدفاع عن النفس».

ويرى صالحــات أنه قــد مت توثيــق كل من احلالتني فــي الفيديو الــذي كان كافيــا إلدانة القاتلني، لكنه يشــدد على أنه في حالة مفلح لم

يقدم اإلعالم الفلسطيني والعربي قضية عمار في سياقها املناســب ولم يتم استثمارها فلسطينيا. لألســف هناك روايــة فلســطينية مكتومة رغم وضوحها واكتمالها.

الكاتب واحمللل السياسي محمد زكريا يطالب اجلميع مبشــاهدة الفيديو، حتــى يتمكنوا من رؤية كيــف يعدم اجلنود النــاس علنا وبال رفة جفــن. ويخلص إلى اســتنتاج أن الفيديو الذي يوثق اإلعدام وحده يكفي إلشعال انتفاضة ثالثة ورابعة.

ذروة مشاهدة القتل

وحســب الكاتب محمــد فــإن كل عملية قتل إسرائيلية ملدني فلسطيني تدق مسمارا في نعش الســلطة الفلســطين­ية التي ال جتد ما تفعله في مواجهة القتل اإلسرائيلي.

ويــرى بــدوره أن عمليــة قتــل املواطــن الفلســطين­ي في حوارة مساء اجلمعة كان ذروة مشــاهد القتل جميعها. كان إعداما مثل إعدامات داعش، ومثل إعدامات املافيا.

ويصف محمد البيانات األوروبية التي أدانت عملية القتل بأنها «مصممة كي ال تنهار السلطة ال غير، وكي يشعر بعض الناس، كذبا، أن هناك من يتحرك، ليس لها هدف سوى ذلك».

ويكمل: «حني تقرأ مثــال أن االحتاد األوروبي دعا إلى «وقف العنف املتزايد ضد الفلســطين­يني فــي الضفة الغربية ومحاســبة املســؤولن­ي عن االنتهاكات، فعليــك أن تعرف أن هذا بيان صادر مــن مكتب تافــه وال قيمة له للبعثــة األوروبية التي ال قيمة لهــا في القدس، وليس من مكتب في بروكسل، وهدفه حماية الســلطة من االنهيار ال معاقبة إسرائيل».

ويختم قائال: «وصلنا إلى اإلعدام في حوارة. وصلنا إلى نقطة االنفجار».

ووصف نشــطاء فلســطينيو­ن ما جرى في

إعدام الشاب مفلح بأنه تعبير عن الهولوكوست الفلســطين­ي املفتوح، فيما وصف البعض املشهد بأنه يقدم «صورة من املونديال الفلسطيني».

الكاتب والرســام والفنان الفلسطيني خالد حورانــي ربــط ما جــرى في حــوارة باحلدث الرياضي العاملــي، حيث وصف مــا جرى بإنه «إعدام ألحد مشــجعي املونديال في الشــارع». وأضاف: «عمار مفلح رمبا كان يشــجع البرازيل أســوة بشــباب العالم في مبــاراة الليلة أمام الكاميرون التي قتل فيها الشاب ساعات قبل بدء املباراة في ملعب لوسيل في قطر».

وأكمــل» «كانت النتيجــة لهذه املبــاراة في بلدة حوارة أن قتل الالعب اإلســرائي­لي الالعب الفلســطين­ي الشــاب عمار بعد عــراك باأليدي نتيجة حادث ســير عادي، متكن فيه الشاب من خصمــه اجلنــدي بشــجاعة وأدب. وكان عمار يقول: أتركني وشــأني، ال أريد أن اعتقل، ال أريد أذيتك. لدي هموم أخرى».

ويضيف الفنان حوراني قائال: «تنحى الشاب جانبا بعد أن سقطت بندقية الضابط املتوتر على األرض الذي اســتل مسدســه وأطلق الرصاص على صدر الشاب من مســافة متر ونصف فقتله على الفور. ثم انحنى ليلتقط بندقيته عن األرض بكل برودة أعصاب».

وأكمل: «نعم قتله، وقتل قلوب الناس جميعها أمام عدسة الكاميرا واملتفرجني، لكن الستارة لم تسدل على املشهد وان سدلت على املباراة».

ويرى حورانــي أن ما يجــري يعكس تطورا الفتا تشــهده املناطق الفلســطين­ية، حيث باتت إسرائيل تقتل شابا فلســطينيا أو أكثر كل يوم، إعــدام فوري على األرض بســبب أو من دون أو على أتفه األسباب.

بــات القتل بهذه الطريقة، والالفتة سياســة جديدة مفادها: أن ال قيمة حلياة الفلســطين­يني، ال كرامــة، ال حقوق ابدًا، وأنه ال يســمح برفض ذلك أو االعتراض عليه أو علــى االحتالل كمبدأ

بأي شكل من األشــكال، ال باملقاومة املسلحة وال باملقاومــ­ة الســلمية، ال باحلجــارة والهتاف، ال بالبندقية، وال باليد اجملردة».

أما الناشطة أماني ســراحنه فطالبت بتوقف شــكل «احليــاة» القائم اليــوم فــي األراضي الفلسطينية.

وأضافــت: «إن كان هناك شــيء أشــعر به اليوم كفلسطينية، فهو ضرورة أن يتوقف شكل «احليــاة» التي نعيشــها مبا فيها مــن جبال من األوهام، وسط هذا الدم، والقهر، والظلم، وبؤس هذه املنظومة العاجزة وبقرار منها».

وتابعت: «رمبا علينــا أن نتوقف عن البحث عن احلياة «الطبيعية» وبــث األمنيات من أجل الوصول لها، فكل ما يحيط بنا خارج عن السياق «الطبيعــي» هــذا إن كان هناك شــيء ميكن أن ُيعّرف بالطبيعي، وحينها رمبا نشــفى من جزء من القهر الكبير، وجند ســبيالللب­حث عن دورنا احلقيقي».

الضحية ترفض

ورأت ســراحنة في الصدمات التــي نتلقاها على مدار الساعة أنها «متر على شكل صرخات، وحــزن علــى مواقــع التواصــل االجتماعي، وجميعنا «نفعل» ذلك ألن ال شــيء منلكه فعليا أو الغالبية العظمى منا سوى مواساة املنكوبني بالوجع، ومواســاة أنفســنا، حّتــى أّن بعض الوجع لم جند له طريقا في اللغة لنشّقه، فشّقنا فعليا».

وتربط بني إعدام الشــاب عمــار وحدث آخر قائلة: «في اللحظة التي كان جندي إســرائيلي حاقد يعدم الشــاب عمار مفلــح، كان هناك خبر آخر عن أســير من غزة اسمه يوسف مقداد، رمبا القليل منا ســمع عن اســمه، أصيب بنوبة قلبية حــادة في ســجن «نفحة» ونقل إلى مستشــفى «سوروكا» وهو يقضي عامه األخير بالسجن».

وتختم قائلة: «بعد عشرين عاما من االعتقال، كانت تنتظــره نوبة قلبية حادة، مــا هي حياة الفلسطيني سوى نوبة قلبية حادة».

ويرى الكاتب واإلعالمي معز كراجة أن «أكثر ما يستفز االستعمار أن تكون ضحيته قادرة على الرفض رغم كل مــا ميارس عليها من قتل ومحو. فهو يريدهــا ويتوقعها خاضعــة مطيعة، ليؤكد بخضوعها تفوقه العرقي قبل العسكري».

ويقــول: «اإلســرائي­لي يتخيل الفلســطين­ي ويريده مجرد أكوام بشــرية تقــف في طوابير على حواجزه العســكرية وأبواب مســتوطنات­ه تســتجدي لقمة العيش كأقصى طموح لها. هذا اإلسرائيلي الذي حول كل جغرافية فلسطني الى سجن باملعنى احلرفي للكلمة، لذلك ال ميكنه توقع غير سلوك سجني مقهور».

ويرى أن الشاب العشريني رفض هذا السجن انتصارا لكرامته، وأراد حتطيــم أوهام التفوق التي تربى عليها ذلك اجلنــدي، وهدم وهم ذلك الســجن الكبير، خاصة وأن هذا الشــاب امتداد جليــل كامل من الرفض. هذا اجليــل قام بتبديل األدوار بني السجني والسجان، فبعد كل سنوات التدجني واحملو والتطبيع، يكتشــف الســجان أنه ســجني أوهامــه، وأن ضحيتــه عصية على اخلضوع.

ويرى كراجــة أن «اللحظة التي ســحب فيها اجلندي القاتل ســالحه وقرر إطــالق النار هي حلظة ال تفهم بحســابات «األمن» بقدر ما تفسر بحســابات الســيكولو­جيا، إنهــا روح املهزوم الواهم التي أطلقت النار وليس اجلندي صاحب احلسابات «األمنية».

ويختم كراجة أن «هذا املوت الســهل البارد، شــهدناه بنفس النمط في عام ،2015 وهو العام الذي اكتشف فيه االحتالل أن الضحية عادت من جديد متجســدة هذه املرة في هذا اجليل، حينها صور قتلهم بطريقة استعراضية عله يعيد دفنها قبل أن تقوى على النهوض».

جيش االحتالل زعم استهداف مصنع صواريخ محلية... وحماس: لن نسمح بتغيير املعادالت

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom