Al-Quds Al-Arabi

عبد العزيز املقالح والشعر التونسي

- منصف الوهايبي ٭ كاتب وشاعر تونسي

■ تعرفت إلى عبد العزيز املقالح شخصيا عام 1989 في ملتقى الشــعر العربي الفرنســي في صنعاء، لكن عالقتي به وبأدبه؛ كانت قد انعقدت قبل ذلك بسنوات قليلــة، إذ كان الراحل الكبير أول مــن بادر هو وأحمد عبــد املعطي حجــازي، بالكتابة عن كتابي الشــعري األول «ألــواح» ،1982 قبل أن يواصل الكتابة عن بعض أعمالي األخرى، ويهديني قصيدة موسومة باسمي في كتابه اجلميل «األصدقاء». أما عام 2003 فقد اتصل بي، وأخبرني أن صنعاء ســتكون عاصمة للثقافة العربية عام 2004 واقترح علّي أن أعد ُمتخيرا للشعر التونسي، يضم أكثر ما ميكن من شعراء تونس؛ لنشره في اليمن بهذه املناسبة.

وكان له مــا أراد، األمر الذي أتاح لــي أن أعود إلى الشــعر التونســي احلديث قراءة وتدبرا؛ وأن أتخير نصوصا حلوالي ثالثني شــاعرا، مستثنيا نفسي؛ وهو ما استغربه سي عبد العزيز، فطلب إلي أن أضيف نصا أو نصني لي؛ لكني اعتذرت متذرعا بأن صنيعا كهذا قد يفقد العمل «حياده» وإن لم يكن تاما، بل قلت له مازحا إني اســتثنيت الشــابي وهو رأس الشــعر التونسي احلديث، وأبرز من نقل الشعر املغاربي من الهامش إلى املركز املشــرقي. وذكرت له أني ســأقتصر على الشعر الذي نشر بعد االســتقال­ل 1956 وسأوضح دواعي هذا «املتخير» الذي وســمته بـ»أبناء قوس قزح» وأسسه الشعرية ومصادراته العلمية. وهو ما فعلت في مقدمة تقع في خمســني صفحة. وقد طبع الكتاب طبعة أنيقة جدا بإشــراف من ســي عبد العزيز وهو يخبرني بأن هذا العمل هــو من أفضل ما صدر في اليمن، مبناســبة االحتفال بصنعاء عاصمة للثقافة العربية.

الشعر والذاكرة

اليــوم وأنا أعــود إلى هذا الكتاب، أكتشــف ثانية بعض أفضال عبد العزيز املقالح على الشعر التونسي؛ ناهيــك من الشــعر العربي عامــة، إذ كان ال يعبأ وهو املتابع للشــعر العربي، بتلك الدعــاوى واألوهام التي حتصر احلداثة في ما اصطلح عليه بـ»املركز املشرقي» وشــعار «بضاعتنا ردت إلينا». ومــع ذلك ال أخفي أني

أجد كتابي يرشــح بعطاء قليل، بعد أن غنم شعرنا مساحات جديدة مع شعراء وشاعرات وفدوا بقوة الفتة، على مشهده في العقدين األخيرين. فقد كنت صرفت النظر عن نصوص كثيــرة، فلم ألتفت إلى القصيدة اخلليليــة (العموديــة) وال إلى منط من «قصيدة النثر» أعده امتدادا ملا يسمى عندنا بـ«في غير العمودي واحلر».

واملســوغ في ذلك أني أجدهما محكومني مبراسم الشفوية، حيث حتل الذاكرة محل الكتابة. صحيح أن الشــعر يتذرع بالذاكــرة، غيــر أن الذاكرة كما تعلمنا الدراسات احلديثة «إرادية» و«غير إرادية» واألولى حتفظ صورا ووقائع والثانية حتفظ آثارا وانطباعات. فإذا اســتأنس الشــاعر باألولى، فإن قصيدته «قصيدة معكوســة» جتري مــن الذاكرة إلى التصــور؛ إذ هي تنهض علــى «ذاكرة إرادية» ولذلك يكاد شــعراء القصيدة اخلليلية (العمودية) ال يفلحون فــي االنتقال من «شــعر اللغة» القدمية أو شــعريتها، إلى خارج هذه اللغة أو خارج قاعها. ومن ثم يســهل الوقوف على أثر اآلخرين فيها، فهي الورقة التــي متتص ضوء املاضي واملتخيل املندثر، أو هي قصيــدة «اخليال الطائف» الــذي يتراءى فــي أكثر من مكان في املاضي، فضــال عن أن بنيتها اإليقاعية «الســيمتري­ة» التي ال تتسع ألساليب الشعر احلديث (األداء الدرامي ـ كلية الصورة ـ تزاوج الفنون أو جتاوبها) أما النمط الذي ساد عندنا في السبعينيات مــن القرن املاضــي في مــا اصطلح عليــه بـ«في غير العمــودي واحلــر» وكانت مجلــة «الفكر» هــي التي احتضنته بحماس مع محمد مزالي والبشير بن سالمة؛ فهو أسير املراسم الشفوية، أو ثقافة األذن.

وقد ال يخفى أمر األســجاع التي تكبله، وحتول دون انطالقه في فضاء الكتابة، حتى في النماذج القليلة التي تقدحها «ذاكرة ال إرادية» فإنها ال تصدر عن «الزمن وقد صار تأثيريا» وال عن «الطاقة الشعرية للتلويح» وإمنا عن «جتــاوز اخملتلفات» ال التأليــف بينها، كأن جتاور بني فصيح وعامــي. وصحيح أن الكتابة تغريب لوضع طبيعــي وأن «التهجني الشــكلي اللغــوي» مكون من مكونات وعينا، لكن شريطة أن يحكم الشاعر السيطرة على لغته، حتى ال ينساح النص ويتشتت، فاالستهانة بأوضاع اللغة محمودة، كلما كانت صادرة عن متضلع متحقق مبواد شــعره، يفــض أغالق اللغــة، ويتلمح األشياء واألسماء في ذاتها وفي أدق خصائصها.

أما التهجني الذي ال ســند له من النص أو من ســن اجلنس الــذي ينضوي إليــه، فال ينــم إال عن ضعف جمالي. فإذا كنت قــد صرفت النظر عن هذه األمناط أو غيرها من «شــعر التفعيلة» واقتصرت في «أبناء قوس قزح» على مناذج قليلة من مدونة الشــعر التونســي، يطور بعضها «الشــكل اخلليلي» ويذهب بعضها اآلخر بعيدا في التغريب كما هو الشــأن فــي «قصيدة النثر» فليس ألني أضفي على نفســي برد األســتاذ أو أجلس مجلس احملكم. فقد استثنيت القصيدة (العمودية) ألنها تنويع على القدمي واســتعادة للغة داثرة؛ فهي ال تبرأ من شبهة ومن أثر «مطموس». واستثنيت مناذج كثيرة

من «شــعر التفعيلة» فهي وإن حرفت البنية اإليقاعية املوروثــة، تظل أســيرة «العمود الشــعري» باملعنى الدقيق الذي اســتتب له (إصابة في الوصف ومقاربة في التشبيه ومناسبة في االستعارة.) واستثنيت «في غير العمودي وغير احلر» لتفاوت مستوياته اللغوية وارتباكها، من جهة، واجنذابه أو احتكامه إلى مراسم الشفوية من جهة أخرى؛ حتى لكأن هذا النمط ليس إال شعرا «شعبيا» أو «ملحونا» مترجما إلى الفصيح أو ما يشبه الفصيح.

مدار الشعر

احلق أن رؤيتي، وأنا أعدلها وأتعهدها باســتمرار في ضــوء ما اســتجد عندنا من شــعر، حتتــاج إلى شــواهد دقيقة من نص ملياء املقــدم، التي ال تتردد في كتابة اجلســد األنثوي مفاتن ورغائب ومخاوف بكل جــرأة، وأمامة الزاير التي تعرف كيــف تنتقل ببراعة من قصيدة الوزن إلى قصيــدة النثر، وأفراح اجلبالي ذات الصوت املتفرد املدهش التي جتيد كتابة ما يسمى «قصيدة البياض» وحتكم بناء نصها ولغته وصوره، وسنية الفرجاني التي تغني النص بتجربتها اخلاصة وحضور ذاتها حضورا الفتا، وهدى الدغاري صاحبة النصوص اجلريئــة بجماليتها اخلاصــة واقتصادها اللغوي الالفت؛ ناهيك عن شــعراء آخرين غير قليلني يحتــاج كل منهم إلى وقفــة غير هذه مثــل آدم فتحي وصابــر العبســي ورحيــم اجلماعي وعبــد الواحد الســويح... وهؤالء علــى اختالف جتاربهــم، امتداد إبداعي حملمود املســعدي في «مولد النســيان» وعلي اللواتي في «أخبــار البئر املعطلة» ورمبا لباســط بن حسن في «عطر واحد للموتى».

واللغة عندهم أشــبه بظل خيالي ال يثبت على حال، لكــن دون أن تكــون قلقــة، ألن مدار الشــعر في هذه النصوص، على تراسل أسماء وأمكنة تتضافر كلها في صياغة النص من حيث هو بقايا حالة، أو أثر لفضاء ما. فهؤالء على اختالف أصواتهم أقرب إلى منط «القصيدة املوضوعية» التي هي محصلة «أنا» أخرى غير تلك التي يعيشــها الشاعر في واقعه أو مجتمعه، وهي ضرب من

وعي الشــعر بذاته. فثمة في هذا الشعر مسافة ما بني الشــاعر وخطابه، وكأن صوت الشــاعر صوت ثان، أو هــو في حالة حلم فاعل، إذ يتــرك للمتخيل أن يفعل فعله في الكلمات وهــي تتدافع وتتجاذب، أو هي تنفي ذاتها في فعل خلقهــا. إن نصوص هؤالء تضمر تصورا «جديدا» للشعر، بذر بذرته شعراء احلداثة، في أواخر الستينيات، فتعهدوه وذهبوا به بعيدا، سواء انتظمت نصوصهم بنية إيقاعية (محمد الغزي وفتحي النصري ويوســف رزوقة وحافــظ محفوظ وجميلــة املاجري ومحمد البقلوطي...) أو «نثرية» (يوســف خدمي الله ـ بن حمودة ـ نور الدين بوجلبان) أو «خالســية» تطعم فيها هذه تلك (عبد الله القاســمي وخالد النجار) حيث مدار النص على صور متعاقبة تغطي مســاحة النص، فهو أشــبه بشــكل هندســي يقوم على التناظر وملء الفراغ، والصور أشــبه بفروع تتموج وتلتف؛ أو بعقد تنبثــق منها اجلمل الشــعرية، لتعود فتتجمع بشــكل دائري حول مركزها األول.

وكأن هؤالء يصلون نصوصهم بفن التوريق العربي (األرابســك) إال أنهــم ميلؤونه باألشــياء والكائنات احلية، ومن غير أن يتحول إلى شــكل مزدحم العناصر والصور؛ فثمة «مناطق إضـــاءة» في النــــص، منها ما يرجــــع إلى خاصيـــة الصورة التي يصوغها كلهم في نظام «صارم» يشــارف الغرابة احملمــودة كما هو الشأن عند أفراح اجلبالي في كتابها «ما تأخذينه معك» خاصة، ما يبعث في القارئ تصديقا أعمى بأن الشــعر مضاهاة «للنص» من الشــيء أعني منتهاه أو هو حدث الشــعر ذاته، ال يستنفد وال يســتوفى في معنى، ألنه ناجت املعنى أو ناجت القراءة.

رحم الله عبد العزيز املقالح اليمني احلكيم، ألفضاله على الشعر والثقافة العربية عامة.

 ?? ?? عبد العزيز املقالح
عبد العزيز املقالح
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom