Al-Quds Al-Arabi

الشعرية الغائبة عن «سيلفي أخيرة مع عالم يحتضر» لسامر أبو هواش

- حمزة قناوي شاعر وناقد مصري

■ مهما تعددت مدارس الشــعر ومذاهبه، وكيفمــا كانــت الرؤيــة جتــاه اإليقــاع أو التفعيلــة أو الوزن والقافيــة، واختلفت اآلراء حــول تعريف الصــورة في حد ذاتهــا، يبقى اتفاٌق على أن أهم عنصــٍر من عناصِر العملية الشــعرية واإلبداعية، هو: «الصــورة» وليس األمــر علــى هذا النحو فحســب، بــل يجب أن تؤدي الصــورة دورًا «تأويليــًا» حتى تتحقَق الوظيفة: «الشــعرية». فالعالقة بني الشعرية والتأويــل على قــدر كبير من األهميــة، يقول (تزيفتــان تــودوروف): «إن العالقــة بــني الشــعرية والتأويل هي بامتياز عالقة تكامل» وباعتبــار أن عنصــري: الصــورة والتأويــل أهم عناصر العمل اإلبداعي الشــعري؛ نتأمل ديــوان: «ســيلفي أخيــرة مع عالــم يحتضر» لســامر أبو هواش» لإلجابة عن ســؤال يبدو فارضا نفســه في هذا النــص، وهو: هل جنح «ســيلفي أخيــرة مــع عالــم يحتضــر» في أن يتجاوز أفــق «العادية» وينســج عبر عالقاته ببعضــه بعضــ ًا، أو بنصــوص أخــرى، نوعًا مــن اجلماليــة؟ وهل قــدم صــورًا وتعبيراٍت وأخيلــة تنتــج عنهــا رؤيــة جماليــة؟ مبعنى آخر: هــل ميكننا أن نقول عن النص املقدم هنا إنــه: «شــعر»؟ أم هو مجــرد «رص وتكديس» لأللفــاظ مع بعضهــا بعضًا، دون قــدرٍة على إيجاِد عالقاٍت جديدة بينها، أو تكوين صورة مبهرة منها؟

عالم النص

نبــدأ مــن العنونــة، التــي تفتــرض الســيميول­وجيا عــاد ًة أنهــا مفتا ٌح أساســ ٌّي للولــوج لعالــم النص، ولســبر أعماقــه، فهو أولــى الدالئل اإلرشــادي­ة للخريطــة النصية، وعالمــة مرجعيــة حتيــل للنــص وتختزلــه كمفهوم في الذهــن، كما أن له وظيفة اإلفهام أيضــا. فيجب على العنوان أن يكون شــارحا ومضيئ ًا للنــ ّص، بجان ِب ما يبنيه من عالقات تركيبيــة ودالليــة وتداوليــة مــع عناويــن أخرى، أو مع ســياقات أخرى، وتبدو تسمية «ســيلفي أخيــرة مــع عالم يحتضــر» موحية بنــوع من اجلاذبية والتشــويق للقــارئ، كما أنها عصرية، وترتبــط بتعريب مصطلح ظهر مع تطــور الهواتف احملمولة، هو فعل تصوير النفس مــن خالل الكاميــرا األمامية للهاتف، ولعلها مفارقة رمبا لم ينتبه إليها الشاعر هنا، أن أحد أهم أدوار الشعر أيضا هو «التصوير» ومــن ثم فإن عملية الـ«ســيلفي» هنا يجدر أن تتم بشــكل مضاعف، مرة عبر اإلحالة للفعل فــي احليــاة الواقعية، ومــرة عبــر التصوير مــن خالل الشــعر ذاتــه، لكــن رغــم جاذبية العنونة؛ فإنها تلقــي بحمٍل ثقيٍل على النص، فهــذا النص مطلــوب منه أن يكون انعكاســا حلالــة توثيق احتضار العالــم، ومطلوب منه أن يصــور مؤلفــه وهــو يعيش آخــر حلظات العالم، ومبا أن املؤلف ذاتــه جزء من العالم، فمن البديهي أن يوثق النــص أيضا احتضار صاحبه، وهنا فــإن عملية التوقع بشــاعرية مبهجــة عملية مرفوضة، وال تتســق مع ثنايا النــص؛ تــرى هــل كان املؤلــف هنــا مــدركا خلطورة مــا تفرضــه العنونة علــى نصه من تبعات تأويلية؟

لقد اتخذ النُص صيغــَة القصيدة الواحدة الطويلــة، وليــس لهــا عنونــة ســوى عنوان الديــوان ذاته، فليس هناك أي عتبات داخلية حتيل أو ترشــد القــارئ ألي اجتاه، فقط هذا العنوان الســابق، ثم ســتٌة وســتوَن َمقطعًا شــعريًا، فــي كل صفحــٍة مقطــٌع منفصــل

أو هكــذا نفتــرض فليــس ثمة مــا يوضح

بدايــة ونهايــة املقاطع- يتراوُح بــني الِقصر والطــول، حيــث يــرد أقلهــا فــي الصفحــة الثالثة والعشــرين، من ثالثة أســطر وإحدى عشــرة كلمة، أما أكثرها فيأتــي في الصفحة التاســعُة واألربعني، مع خمسة عشر سطرًا، وتتكــون مــن إحــدى وخمســني كلمــة؛ وقد أوردت األعداد ألنها بدت لي السبب بالشعور بـ«التفســخ النصــي» فــي فضــاء القصيدة، ففي ظــل اعتبار النص كله جــزءا من قصيدة طويلــة، فعلى أي أســاس ننظر لــكل صفحة في أسطرها الشعرية؟ هل هي مقطع منفصل بذاتــه؟ قائــم على وحدة شــعورية مســتقلة بنفســها عــن باقــي الوحــدات الشــعورية؟ وأي مشــاعر يجدر أن نســتحضرها مع حالة االحتضار التي فرضهــا علينا املؤلف؟ أم هي تكملة وتضافــر مع املعنى الرئيســي الذاهب إلى فكرة املوت واألفول؟ كيف يفســر القارئ زيادة تدفق الكلمات فــي صفحة، وِقَّلتها في أخــرى؟ كيــف يولد القــارئ املعنــى من هذه الفراغات بني البياض والســواد على الورقة، فمع عدم وجود مؤشــر واضــح حلالة الطول والقصر، فإننا في حالة «تيه نصي».

وإذا مــا وافقنــا جــني. ب. تومبكيــز، أن املعنــى األدبــي يأتي أساســا من اســتجابة القــارئ للنص، وأنه ليس من مجــال للتأويل الذاتــي دون وجود إشــارات واضحة املعالم ملا يجب أن يتم اســتنباطه، فإنه يتضح لنا أن هذا النص غــارٌق في حالٍة كبيــرٍة من حاالت الالمعنى، والالمفهوم، ويبعد بشكل كبير عن الشعر وعن الشعرية.

فلنلــق الضــوء أكثــر عبر حتليــل النصني املشــار إليهمــا، نبــدأ بالنص القصيــر، الذي يقول فيه: «ترى البكاء أخيرا شعوبا من كنزات مبللة نسيها أصحابها على السطوح» يأتــي هذا النــص بعــد وصٍف حلالــٍة من حــاالت االنتظــار الطويــل الــذي يقــوم بــه الشــاعر، وبعد جلوســه فترة طويلة يســتمع خملتلــف األصــوات املتناهيــ­ة إلــى أذنيه، من خبــط الثالجة، أو شــجار اجليــران، أو تأمل احلذاء في مجلســه بالقرب من الســرير، إنه اســتماع بصخب لـ «هدير حيــوات» على حد وصفه، وبعد التدرج بني الطول والقصر، في الوصــف، الذي ال جند فيــه أي صور جمالية ميكن اإلمســاك بها، وإمنا نــوع من «العادية» والتقليدية، ُينتزع أحيانًا من سياقات تعبيره الواضحــة املعبرة، لكــي يقدم منهــا ويؤخر، في محاولة لرســم صورة باهتــة تدور حول االحتضــار، كقولــه: «إال أن الســقف، منــذ البارحــة، ما عاد يرشــح دمــًا، بل جثثــًا» أو تصويــره للصيف بأنه «سلســلة مــن القتلة» وغيرها من الوصف غير املوفق، وســبب عدم توفيقه انقطاع الداللة في امتداد الصورة، فما يبــدأ به، ال يعود على ما يختــم به! واملفترض أن هذين املتناقضني يكّونان صورًة معًا، رغَم عدِم وجــوِد عالقٍة ميكــن أن جتمعهما، حتى عالقة التضاد!

وبعد هــذه التعرجات الوصفية، تأتي هذه الصورة القصيــرة، التي حتاول أن تصف لنا البكاء، إنه يحــاوُل أن يجعلنا نعتقد أنه بكاٌء غزير، كاملاء املتســاقط من مالبس مغسولة، لكن املشــكلة أن هواش يفســُد صــوره دائمًا باخللــل املنطقــي، وهو أمــر متعــب للقارئ، الذي يتصور أنه بدأ في التقاط خيوط صورة جيــدة ومتماســكة، يجــد مــا بعدهــا ينفيها ويغلــق فهمها متامــا! ورمبا لو لــم يحاول أن يقدم تأكيدًا منطقيًا للصــورة، وتركها مطلقًة لكان أفضل، فاحلقيقة أن أي مالبس ينساها أصحابهــا على الســطوح، ســوف جتف بعد فترة بســيطة، ولن تنزل منهــا أي نقطة ماء، فكيف لنا أن نتخيــل البكاء وهو يأتي منهمرا غزيــرًا مــن مالبــَس جافــة؟ لــو كان أعرض فــي صورتــه عن ذكر نســيان أصحــاب هذه املالبــس، ولم يحل العقل إلــى الفترة الزمنية الطويلــة، التي ســتؤدي - بديهيــ ًا- لنقي ِض ما يرغب في أن يذكره؛ لكانت الصورة جميلة ومقبولة.

وجدير بالذكر أن هذا التنافر املنطقي دائم احلضــور، فما إن يقــدم صورة، حتــى يعود وينقضها، مثــل قوله: «عيون حتــاول ابتالع الضوء/ كأفواه أســماك جائعــة» وال نعرف حتديدا ســر اختيــار األســماك؟ فــأي أفواه جائعة تؤدي الغرض في اإلشارة إلى اللهفة، التــي رمبا هي ما يحــاول أن يشــبه بها رغبة العيــون في النظر للضوء، أيضــا ال نعرف إن كان يقصد الضوء مبعناه احلقيقي أم يقصده كإشارة حلالة ما، كاحلرية مثال؟ دائما هناك مــا ينتقص منطقيــة الصورة، ومينــع فهمها، فهــو ال يقدم مــا يكمــل تكوين صورتــه على النحو اجلمالي، مثال يقول: «أعمار مقصوفة، أعمار معلقة، على حبل غسيل مرجتل؛ املوت بائع آيس كرمي ضاحك يجوب العالم/ بحثا عن قبعته الضائعة» وأتســاءل هنــا، مــا املعنــى؟ إن أحــد أهم النقــاط التــي يبحث عنهــا الناقد فــي النص األدبــي -أي نــص أدبــي وليــس النــص الشــعري حســب- هــي العالقــات. كيفية بنــاء العالقــات بــني الكلمــات واأللفــاظ واملعانــي، وكيــف يشــكل كل ذلــك معنــى جزئيــا، ثم معنــى كليا، ثــم رســالة، نحكم بعد ذلك على إبداعيتها أو شــاعريتها، عندما تخالــف العــادي واملألــوف، وعندمــا تبتعد عن اســتخداما­ت اليومي والعادي لتأتي في سياقات جديدة، أو نحكم بعاديتها، في حالة تشــابهها مع الســياقات اليومية، واقترابها من اســتخداما­ت رجل الشارع العادي، وعلى النــص أن يقنعنا مبنطقه الذي يفرضه، وعلى هذا أتســاءل: ملــاذا يبحث بائــع اآليس كرمي عــن قبعتــه؟ وهل نســيها فــي مــكان ما من أماكن العالم وهو يعــود للبحث عنها؟ ما هذا التشــبيه الذي يعطي نوعا من التداخل املغلق في فهم الصــورة؟ كيف نفهم املــوت بصفته

السنة الرابعة والثالثون العدد 10827 اإلثنني 5 كانون األول (ديسمبر) 2022 - 11 جمادى األولى 1444 هـ

التنافر املنطقي

بائــع آيــس كــرمي، يطــوف العالم، بحثــا عن القبعة املفقــودة؟ إن كل مرة نحــاول فيها أن نظفر مبعنى مــا، أو صورة ما، جندها اختفت من بني يدينا، وضاعت الفكرة الرئيســة التي يدور الديوان حولها.

فلنجرب مجــددا مع النــص األطول! يقول فيه: «فلنعد للمشهد، فلنعده قليال إلى الوراء، ليس إلى أية صرخة، ليس إلى أية عتمة، ليس إلى البدايات املربكة لعطالٍت اختفى معظم أبطالها، ليس إلى إطالق رصاص احتفالي كثيف، في مساء غامض من الثمانينات، فلنذهب أبعد، أو أقرب، فلنجمد املشهد هنا حيث مطر عادي منحناه بطيب خاطر ذات يوم عادي جميع ترهاتنا» إذن يحــاوُل هــذا املقطــُع أن يحيلنــا إلــى ســياٍق تأريخــٍّي، هــذا مــا نفهمــه أو نحاول أن نفهمــه بفكــرة العــودة إلــى الزمــن، لكــن أي ســياق تأريخــي يحــاول أن يعــوَد إليــِه حتديــدا؟ الرقم الوحيد البــارز الواضح الذي يفرض نفســه هنا هو «الثمانينيـ­ـات» وبينما منطقيــًا تظهــر لغــة األرقــام دائمــًا بوصفها اللغة اخلاصــة باحلقائق التي ال حتتمل معها التأويــال­ت، أي أن الثمانينيـ­ـات ال حتتمــل أن تكــون التســعيني­ات أو الســبعيني­ات، وإمنــا هي الثمانينيا­ت حســب، بعكس الصبر مثال، يحتمــل أن يكون فع ًال شــجاع ًا دا ًال على قدرة صاحبه على التحمل، أو داال على املرارة، وقلة احليلة، لكن لغة األرقام ليست كذلك، ومن ثم فإن الســؤال احملير، إذا لم يكن الشاعر يرغب في أن يحيــل تفكيرنا إلى حقبــة الثمانينيا­ت ويرغب في أن يســتحضرها هنا، فلماذا أشار إليها أساسا؟!

مــا احلكمــة مــن اســتحضار تاريــخ، ثــم الســماح بالذهاب إلى أبعد منــه أو أقرب، ما احلكمة من اســتحضار أشــياء ثم جتاوزها، وإذا كانــت العبــارة الشــعرية تقوم أساســا على التكثيف ومغايرة املألــوف، فكيف نفهم «العادية» التي يختم بها فقرته هنا؟

إن ديوان «سيلفي أخيرة مع عالم يحتضر» هو جتميع للمتناقضات املنطقية التي ال ميكن أن يتكــون منهــا جمــال إبداعــي، وتكديــس جملموعــة مــن العبــارات واأللفــاظ التــي ال تستطيع أن ترتبط معا بعالقة تأليفية، وهو ما يذكرنا باملقولة التي حتاول أن تنفي املصادفة مــن أنــه ال ميكــن باملصادفة عبــر العبث على أزرار احلاســوب أن تتــم كتابــة قصيدة! لكن يبدو هنــا أن األمر معكوس، فهنــاك من رغب فــي أن يكتب قصيــدة، فقــام بالضغط بعبث على أزرار احلاســوب ليستحضر من قاموس اللغــة كلمــات دون القدرة علــى تكوين صور جماليــة، أو إيقاعات معنويــة ومنطقية منها، ناهيك مــن التنافر الصوتي والثقــل، لذا أرى أن هذا النص يحتفظ لنفســه بدرجة هائلة من «العاديــة» والعادية في أقــل حاالتها املمكنة وضوح ًا وتواصــ ًال، ويصعب أن نعتبره عم ًال جماليًا أو شعريًا من األساس.

 ?? ??
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom