Al-Quds Al-Arabi

البحث في اجلانب اآلخر للحقيقة

كتاب «املتمردون»: الهاي عبد احلسني

- ٭ كاتبة عراقية

■ «املتمــردو­ن» هــو الكتــاب الثامــن للكاتب الصحافي علي حســني، الصادر عن دار املدى لهذا العام .2022 يأتي هذا الكتاب ضمن مشروع الكاتب الشــخصي إلعادة تصنيف وتقــدمي أعمال فكرية مميزة خاضت في مواضيع شــتى كان أولها كتابه املوســوم «في صحبة الكتب» ،2017( آذار/مارس) «دعونا نتفلسف» ،2017( تشرين الثاني/نوفمبر) «ســؤال احلب: من تولســتوي إلى أينشــتاين» )2018( «غوايات القراءة» )2019( «مائدة كورونا: مفكرون وأدباء فــي مواجهة اجلائحــة» )2020( «أحفاد ســقراط: قصة الغرام بالفلسفة من أرسطو إلى ميرلو بونتي» )2021( «كتــب ملعونة: ثالثية اجلنــس ـ الديــن ـ السياســة» .)2021( وأخيرا وليــس آخرا، يأتي «املتمردون» ليســجل ملوضوع تتجنبه األدبيات األكادميية والتعليمية على وجه التعيني فــي العــراق والعالم العربــي. فقد دأبت هذه املؤسســات على تعزيــز التوجهات احملافظة واألخالقية التقليدية، دون أن تعطي فرصة للوجه اآلخر من الواقع االجتماعي للظهور، على الرغم من إن هذه املناطق من أكثر املناطق التهابا في العالم.

الرغبة في التغيير

فقد أخــذت فيها احلروب الطويلة واملســتدا­مة شــكل أعمال تدميــر وتخريب متطــاول على مدى ســنوات وعقــود من الزمــن. وكان مــن بني هذه املؤسسات أقسام العلوم اإلنسانية في اجلامعات، ومراكز البحث العلمي العراقية والعربية على وجه العموم التي دأبت على النظر إلى موضوع «التمرد» على أّنها شكل من أشكال االنحراف وأّنها تعبير عن حالة من الفوضى التي تنعدم فيها القيم واملقاييس بقــدر تعلــق األمر بالوســيلة والهــدف املقبولني اجتماعيــ ًا وثقافي ًا، كما تدرس أجيال من طلبة هذه األقسام في ضوء نظرية روبرت ميرتون وما تبعها في مجال «االنحــراف». لم يتوقــف ميرتون عند حد إفراغ «التمرد» من مضمونه كشــكل من أشكال التعبير عن الرغبــة بالتغيير، بل مضى إلى اعتبار «االبتكار» الذي يســعى الفرد مــن خالله لتحقيق الهدف املقبــول اجتماعيًا وثقافيــًا نوع ًا من أنواع االنحــراف بقدر تعلــق األمر بالوســائل املقبولة، اجتماعيًا وثقافيًا. ســاهم ميرتــون بذلك بتعزيز النزعــة احملافظة لبناة الوظيفيــة ومنظريها، رغم انتقاداته «اإلصالحية» لها. وكان بذلك يسير على نهج أعمدة النظرية الوظيفية ابتداء من أوكســت كومت وإمييل دوركهامي إلى تالكوت بارسونز ممن دأبوا على النظر إلى التغيير باعتباره حالة شــاذة وأن النسق االجتماعي ميال إلى العودة إلى احلالة الطبيعية، التي تتمثل باالستقرار والنمطية واتباع واقع احلال أو اخلضوع له.

شذت عن هذا التوجه محاولة رالف داهرندورف للتوفيق بــني املقاربتــ­ني النظريتــن­ي: الوظيفية والصراعيــ­ة، كما قدم لهــا في مقالته املنشــورة في مجلة «حــل الصراعات» الصــادرة عن جامعة مشــيغان عام ،1958 والتي كانــت بعنوان «نحو نظرية للصراع االجتماعي». لفت داهرندوف النظر إلى أن احلياة االجتماعية تنطوي على جانبني هما التعاوني البنائي من جانب، والصراعي التصادمي مــن جانب آخر. ظهر في ما بعــد لويس ورث الذي وضع أطروحتــه للدكتوراه في جامعــة هارفارد بإشــراف تالكوت بارســونز بعنــوان «وظائف الصراع».

اســتهدف ورث من خالل ذلــك تخفيف النزعة احملافظة التي تبشــر بها املدرسة الوظيفية بزعامة بارســونز، أستاذه املشــرف. ســارت أجيال من الدارســني في علم االجتماع والباحثــن­ي فيه على هــذا املنــوال الذي شــجعته اجلامعة كمؤسســة أكادميية محافظة بطبيعتها. وزاد الطني بلة وجود أنظمة سياسية اســتبدادي­ة تبحث عمن يروج لها ويدعم سياســاتها، ويبرر لها كما حدث في االحتاد السوفييتي السابق الذي بلغ فيه تالكوت بارسونز أوجه، علــى الرغم مــن نزعته احملافظــة وكونه وليد اجملتمع األمريكي الرأســمال­ي. فقد احتفت به اجلامعات الســوفييت­ية بدرجة تقرب من احتفائها

بكارل ماركس ورمبا مبا يزيد.

يتبع الكاتب في هذا الكتاب نهجًا تاريخيًا يظهر فيه أن أفكار األمس ليســت أقل راديكالية عن أفكار اليوم، بل هي تأســيس لها وبنــاء عليها. يبدأ مع ديوجني الكلبي املولود في بالد األناضول عام 413 ق. م.، وهــو يقود جماعة تتحــدى منظومة القيم االجتماعية السائدة وتشكك فيها بسبب استمرائها للزيف والكذب وتعايشــها معه وفــق قاعدة «هذا مــا وجدنا عليــه آباؤنــا .»... وكما نقــرأ في هذا الكتاب، يقــرن ديوجني القول بالفعل على الصعيد الشخصي من خالل التخلي عن كل ما يعتبره مقيدا للحرية الشــخصية مبا في ذلك الــزواج واألوالد وامللكية، إلخ. ويواصــل تعقبه لفكرة «التمرد» من خالل أعمال جــون أوزبورون صاحب مســرحية «أنظر إلى الوراء بغضب» وكولن ولسون صاحب كتاب «الالمنتمي» حسب ترجمة أنيس زكي حسن. يوضح، أن هذين الكاتبني انطلقا من منط حياتيهما الفردية، حيث كان األول يعيش في قارب في النهر، فيما ينــام الثاني في كيس نوم فــي حديقة تقرب من مكتبة املتحف البريطانــ­ي. اهتم كالهما بالفرد املطرود مــن جنة اجملتمع. وكذلك فعــل الكاتب مع كتاب وفالسفة آخرين من أمثال كيركيغارد وكامو ومــردوخ ويونســكو وآخرين كما يتسلســل في التقدمي. تقول مردوخ: يجب على الكتابة أن تزعج القراء، وإال فإنها ســتكون بال معنى». ويستشهد بقول يونسكو الذي أمت قراءات في األديان، إن من اخلطأ «أن يهب اإلنسان نفسه لعقيدة معينة».

مجال التمرد

يأتي هــذا الكتاب ليكشــف الوجــه اآلخر من احلقيقة التي ينظر إليهــا على أنها ال تقل اعتيادية وطبيعية عن حالة النظام واالســتقر­ار والنمطية. بيد أّن ما مييز هذا اجلهــد املعرفي املنظم أّنه يزيح عن الراغبني في مواصلة البحــث والتقصي عقدة عدم توفر املصادر املهمــة باللغة العربية، إذ يعتمد بدرجــة كبيرة على أغلبية ســاحقة مــن األعمال املترجمــة ألمهات مــا كتب في مجــال التمرد. لفت الكتــاب النظــر واحلالة هــذه إلى قلــة املؤلفات العربية التي تخوض فــي موضوع التمرد بصورة مباشرة والدور اخلفي نسبيا الذي متارسه النخب املثقفة من كتاب ومثقفني في تعزيز النزعة احملافظة ومقاومة كل ما ميكن أن يقلب األحوال عليها. ومتثل الثاني في أ ّنه يخاطب وســط ًا واســع ًا من املهتمني والراغبني بسبر غور هذا اجلانب املهم من احلقيقة يشــمل أدبــاء وفنانــني وإعالميني وتدريســين­ي وباحثني يطمحــون للتمكن من هذا امليدان الذي لم يعد ليغفل في مجتمعات اليوم.

ميكــن للقــارئ أْن يلتقط عــددًا من القواســم املشــتركة في هــذا الكتــاب يتمثل أحدهــا في أن كل الكتــاب والفالســف­ة والروائيــ­ني والفنانــن­ي املدروســن­ي ظهروا بأعمالهم مطلع القرن العشرين ومــا زالــوا مقروئــني حتى يومنــا هذا. كمــا أن الغالبيــة العظمى منهم من الذكور باســتثناء عدد من اإلضاءات النســوية متثلت في آيريس مردوخ وسيمون دو بوفوار وفرانسواز ساغان ودوريس ليســينج ومرغريت آتوود. املتمــردو­ن هم صناع التغيير والراغبون فيه بقــوة وليس الفوضويني العشــوائي­ني. إنهــم أولئــك األشــخاص الذين واجهوا اجملتمــع وحاولوا مقاومة ســطوته، كما فعل الكاتب املســرحي تنيسي ويليامز الذي ألبس أبطال مســرحياته ثياب التمرد، مستلهما جتربته الشخصية في الفقر وسط حي لألغنياء املرتاحني. إنه كتاب يرشد وينير في اجتاه البحث في اجلانب اآلخر للحقيقة. وهو وصفة مهمة للشباب الناشطني ممن يتحمسون للتغيير، لكنهم ال يجدون ما يكفي من اإللهام الفكري والثقافي.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom