Al-Quds Al-Arabi

قصص خيالية عن تشرتشل واجلمالي وآخرين

- زيد خلدون جميل باحث ومؤرخ من العراق

■ لــم يكن ونســتون تشرتشــل رئيــس الوزراء البريطانــ­ي، في اجتماع وزاري عالي املســتوى في صبــاح شــتاء عــام 1944 غاضبا حســب، بل كان هائجــا، حيــث مت إبالغه بعثــور عاملــة نظافة في وزارة الدفــاع، على وثائق خطــة بريطانيا الختراق الدفاعــات األملانيــ­ة ـ اإليطالية فــي إيطاليا من قبل القــوات البريطانية في إيطاليا. ولكــن هذه العاملة لــم تعثر على الوثائق في مكتب في الوزارة، بل على قارعة الطريق أثناء ســيرها في أحد شوارع منطقة وزارة الدفاع في ســاعة متأخرة مــن الليل. وميزت العاملــة هــذه األوراق فور مشــاهدتها لهــا، حيث كانت قد شــاهدت أوراقا مطوية بالطريقة نفســها فــي الــوزارة لعملها هنــاك. ولذلك حملــت الوثائق وأخذتهــا إلى منزلها. وبعد ذلــك دخل املنزل ابنها عائــدا من إحدى احلانات، والحــظ الوثائق املهمة. وبعد التفاهم مع والدته قرر الذهاب فورا إلى وزارة الدفــاع بدراجتــه الهوائية لتســليم الوثائق. ولكنه عندما وصل الوزارة أمره احلارس بتسليم الوثائق لــه والذهــاب، إال أن االبن أبــى أن يفعل ذلك وأصر على تسليمها شخصيا إلى أي أدميرال. وفي نهاية املطــاف مت لــه مــا أراد. وبذلــك مت إنقــاذ بريطانيا في احلرب العامليــة الثانية من عاملــة النظافة هذه وابنها.

نعــود إلــى تشرتشــل واجتماعــه، حيــث كان يخشــى احتمال تســرب محتويــات الوثائــق إلى األعــداء، ولكن مســاعديه أكدوا له اســتحالة ذلك. وهنا قرر منح املرأة لقب «سيدة قائدة لإلمبراطور­ية البريطانيـ­ـة» ‪Dame Commander of the‬ ‪.British Empire‬

قصص مختلقة

إذا وجد القارئ هذه القصة مثيرة جدا لالهتمام، فــإن مصدرهــا رمبــا كان أكثر إثــارة، فهــو رئيس الوزراء األسبق بوريس جونسون، حيث ذكرها في كتاب له عن ونســتون تشرتشــل صدر عام .2014 ولكن هنالك مشــكلة صغيرة، أال وهي كون القصة بأكملهــا مختلقــة، فباإلضافة إلى نقــاط الضعف الواضحة فــي منطقها، قام الكاتــب املعروف أوتو إنغلــش ‪Otto English‬ فــي كتابــه الشــهير «تاريــخ مزيــف» ‪Fake History‬ حيــث دحض جميع تفاصيلها، ومنها عدم اســتالم عاملة نظافة أي لقــب، أو وســام في تلك الفترة. ومــع ذلك، فإن هذه القصة اخملتلقة ســوف تعتبــر تاريخا حقيقيا مــن قبــل الكثيرين، إذ أنهــا ذكرت في كتــاب كتبه بوريس جونســون، أحد أشــهر سياسيي بريطانيا في الوقت احلاضر. أما احلقيقة، فســتكون ضحية عدميــة األهميــة. وطاملــا أننــا نتنــاول شــخصية ونســتون تشرتشــل، فكتاب «تاريخ مزيف» يذكر قصة خيالية أخرى مفادها أن تشرتشــل كان ثمال ذات مرة، فقالت لــه نائبة برملانية من حزب العمال «إنك ثمل»، فأجابها «وأنت قبيحة، ولكني سأكون صاحيا صباح غد».

من أملانيا والواليات املتحدة ظهرت قصة أخرى، حيــث نشــرت في كتــاب أمريكي نشــر فــي بداية ثالثينيات القرن املاضي، قصــة مفادها أن مجلس النــواب األمريكــي اجتمــع لتحديد اللغة الرســمية للبالد عام .1795 وكان الصراع محتدما بني أنصار اللغتني اإلنكليزية واألملانية، حتى إن عدد األصوات لصالــح كل مــن اللغتني كان متســاويا. وفي نهاية املطــاف قام رئيــس اجمللــس ذو األصــول األملانية بضم صوته لصالح اللغة اإلنكليزية، التي أصبحت بذلــك اللغة الرســمية للواليات املتحــدة األمريكية.

وقــد ظهرت هذه القصــة ألول مرة في كتاب نشــر فــي أملانيــا عــام ،1847 وتلتهــا مصــادر أخرى مع تغيير فــي بعــض التفاصيل مثل ســنة التصويت. ولكــن القصــة بأكملهــا غيــر صحيحــة، حيــث لم يجتمــع مجلس النواب أبدا إلصــدار قانون من هذا النوع، وســجالت اجمللس متاحــة للمهتمني في هذا األمــر، وال يوجد قرار من مجلــس النواب حول هذا املوضوع أصال. والشيء احلقيقي الوحيد في هذه القصة، أن رئيس مجلس النواب في تلك الفترة كان فعــال من أصــول أملانيــة. وتذكر بعض نســخ هذه القصــة اخلياليــة أن رئيس اجمللس صــوت لصالح اللغــة اإلنكليزيـ­ـة لظنــه أن ذلك سيســرع من جعل املهاجرين األملان أمريكيني.

ومع ذلــك فإن هــذه القصة الكاذبــة ظهرت مرة أخرى في كتاب نشــر عام 1982 وما يزال يتناقلها الناس حتى اآلن، السيما أنها كتبت في كتاب حيث يعتبر الكثيــرون هذا دليال على صحتهــا. قد يكون عدد هــذه القصص اخملتلقة في العالــم العربي أقل ممــا هو فــي العالم الغربــي. ومع ذلــك هناك قصة مثيرة عن السياسي العراقي املعروف محمد فاضل اجلمالي فــي األمم املتحدة األمريكية نالت شــعبية هائلة فــي وســائل التواصل االجتماعي، الســيما الفيسبوك في السنوات األخيرة، وهي تظهر مجددا وبشــكل متواصل مع اختالفات بسيطة في بعض التفاصيــل. ومفــاد هذه القصة أن اجلمالي ســافر إلى الواليــات املتحــدة األمريكية عــام 1954 عندما كان وزيرا للخارجية حلضور أحد اجتماعات األمم املتحــدة في مدينــة نيويــورك. وعندمــا وصل إلى مدخل املبنــى الحظ جداال بني حرس املبنى وبعض األشخاص الذين كانوا يريدون الدخول.

جوازات سفر

واكتشــف اجلمالــي أن هــؤالء الرجــال كانــوا تونســيني وأن أحدهــم كان احلبيــب بورقيبــة. وخطرت فكرة غير عاديــة للجمالي في تلك اللحظة للبــت فــي ذلك اجلــدال، إذ قــام بإخــراج جوازات عراقيــة من جيبــه وكتب علــى كل منها اســم أحد هــؤالء التونســين­ي ووضــع صورهــم وختمهــا وأخبرهــم أنهــم قــد أصبحــوا مواطنــني عراقيني، وأدخلهــم املبنى حيث أجلــس احلبيب بورقيبة إلى جانبه فــي االجتمــاع. وعندما حــان دور اجلمالي إللقاء كلمته أعلن أنه يعطي املايكرفون إلى احلبيب بورقيبــة، الذي ألقى بــدوره كلمة مهاجما فرنســا بقســوة الحتاللهــ­ا تونس وأثــار موجــة هائلة من االســتنكا­ر من قبل الوفد الفرنســي. وبذلك أصبح اجلمالــي بطال قوميــا وانتهت أحــداث القصة. وال ميكــن نكــران غرابــة هذه القصــة وانتشــاره­ا غير العــادي، وكثــرة من يقســم بصحتها، علــى الرغم مــن وجــود عدة نســخ لها حيــث تذكــر إحداها أن اجلمالي لم مينح التونسيني جوازات سفر عراقية، بل شارات الوفد العراقي. ولكن القصة غير حقيقية علــى اإلطــالق، فمــن الواضــح أن من اختلــق هذه القصة ال يعرف الكثير عــن تاريخ العراق، أو كيفية دخــول مبنى األمم املتحدة. ولم يكن اجلمالي وزيرا للخارجية في العراق عام ،1954 بل رئيســا للوزراء واســتقال في نيســان/ أبريل من العام نفسه، ولم ميثل العراق في األمم املتحدة بعد ذلك.

خطاب مزعوم

ولــم يلتــق باحلبيــب بورقيبة أمــام مبنى األمم املتحــدة، ولم يجلــس الرجالن معا فــي أي اجتماع هنــاك، وبالتأكيــ­د لــم يلــق بورقيبة ذلــك اخلطاب املزعــوم، وباإلضافة إلى ذلك لو حدثت تلك القصة فعــال ألثارت ضجة دولية تضــع العراق في موقف حرج، ما قد يسبب إطاحة اجلمالي. ولكن سجالت اجتماعــات اجلمعيــة العامــة لألمم املتحــدة، وهي متاحــة للدارســني، لم تذكــر هذه احلادثــة، كما لم تذكرهــا أي صحيفــة آنــذاك، ولم يســمع بها أحد حيث ظهرت هذه القصة في الســنوات األخيرة في اإلنترنت. وال نعرف ملــاذا كان اجلمالي يتجول في شوارع نيويورك حامال جوازات سفر عراقية فارغة مع األختام، وكل ما يســتلزم إصدار تلك اجلوازات ملــن يثيــر إعجــاب اجلمالــي ذي الصالحيــا­ت األســطوري­ة والشــاملة، فلــم ميلــك صالحية منح اجلنســية أو جــواز الســفر العراقــي ألحــد. ومن املعــروف أن اجلمالي كان رجال حذرا ورزينا، حيث لــم يعرف عنه أي تصرف قد يدخل العراق في أزمة دولية. ومتتاز هــذه القصة بالــذات بجانب غريب، أال وهــو تطــرف ناقليهــا، إذ يستشــيطون غضبــا عندما يشــكك أحدهــم بصحتها. واجلديــر بالذكر أن القصــص اخليالية عــن رئيس الــوزراء العراقي الشهير نوري السعيد أكثر عددا وغرابة.

أمــا القصــة األخيرة، فمــن العراق مــرة أخرى، ولكنهــا من طــراز مختلف، حيــث يدعــي مختلقها أن الصــني طلبت عام 1978 من جامعة أوكســفورد البريطانية الشــهيرة أن ترســل لها أفضل عالم في االقتصاد لديها لتزويدها باملشورة الالزمة، وإنقاذ اقتصادهــا املتهالك. ولم جتد تلــك اجلامعة أفضل

مــن عراقي يدعى إلياس كوركيــس الذي بقي هناك ثالث سنوات، وأعطى احلكومة الصينية توصياته، وبعد مرور خمس ســنوات حتولت الصني إلى قوة اقتصادية عظمى. وترك إلياس ســركيس عمله في الصني بعد ذلك، حسب ادعاء القصة، على الرغم من أن مرتبه السنوي بلغ خمسة ماليني دوالر، وكرس حياته خلدمــة العــراق، حيث أعطى مئــات اآلالف من الدوالرات للعوائــل العراقية وأجر آالف املنازل لها بعد أن دفع إيجارها لعام كامل مقدما وأشــياء أخرى. ويتساءل مؤلف هذه القصة اجملهول ملاذا ال يعتمــد العراق على خبرات هذا الرجل العظيم. وفي الواقــع أمتنى أال حتاول احلكومــة العراقية البحث عنه ألنه شــخصية خيالية متامــا، أي ال وجود لهذا الشــخص، إذ من الســهولة العثور علــى جميع من درس في جامعة أوكســفورد في املواقع الرســمية للجامعــة واألبحــاث. ولم يذكر موقــع بريطاني أو صيني أي شــيء عن ذلك الشــخص العبقري الذي أنقــذ الصني من الفقــر. وكانت جميع النســخ التي اختلفــت في بعــض تفاصيلهــا قد نشــرت صورة مدعيــة أنها للمدعــو إلياس ســركيس. والســؤال اآلخر هنــا عن صاحب هــذه الصورة؟ فــإذا كانت الشــخصية خيالية، فهــل الصورة خياليــة أيضا؟ قــام الكاتب صــادق الطائي بحل هــذا اللغز عندما أخبرنــي بأنها لصحافي عراقي كتــب هذه القصة، بعد اقتباســها من الفيســبوك، في إحدى الصحف العراقية املعروفة كأنها قصة حقيقية، وإن شخصا ما أحلقها بالقصة مدعيا أنها للشخصية اخليالية. وأخبرني كاتــب آخر، أن القصة نشــرت كذلك في صحيفــة عربيــة معروفة تصــدر في مدينــة لندن. ويعني هذا أن بعض الصحافيني أخذوا هذه القصة مأخــذ اجلــد وحولوهــا إلــى تاريــخ دون محاولة التأكد من صحتها.

من يكتب هذه القصص اخليالية؟ من النادر جدا تتــم معرفة مؤلفــي هذه اخليــاالت أو أهدافهم، مع بعض االســتثنا­ءات النادرة جدا، وكذلك بالنســبة ملــن ينقلها. ومــن املعتقــد أن هنــاك عدة أســباب، فهناك من يريد أن يختلق قصة يفتخر بها، ولزيادة تأثيرها يضع فيها شــخصية شــهيرة. وقصة مثل هــذه تكون حديثا ممتعا فــي أي اجتماع لألصدقاء وجديرة بإثارة دهشــة املســتمعن­ي. ومن األسباب كذلك، الرغبة في الدعاية ملبدأ سياسي أو شخصية سياســية، أو اختــالق أســباب خياليــة لبعــض األحداث الغامضة في التاريخ، ولكن هذه القصص اخليالية التي تنشــر بحجــة أنها حقيقية تشــترك فــي ضعــف منطقهــا الشــديد وشــبهها بقصص بطولية من األســاطير القدمية التــي يظنها البعض تاريخا حقيقيا. ومن املضحك أنه كلما زادت شهرة الشخصية زادت القصص اخلرافية عنها. وأحيانا تتغيــر الشــخصية، فحكايــة خياليــة شــهيرة عن تشرتشل ألصقت بالرئيس األمريكي األسبق باراك أوباما. ومن املؤكد أن هذه القصص ستســتمر في الزيــادة والتنــوع، ويجعلنا كل هذا نتســاءل، فإذا كان االختــالق والتزويــر بهــذه البســاطة في عهد نعيشه ونستطيع التأكد من احلقائق فيه، فماذا عن صحــة الكثير مــن املقوالت والبطــوال­ت والعالقات التي أصبحت جزءا من التاريخ القدمي؟

 ?? ?? ونستون تشرتشل
ونستون تشرتشل
 ?? ?? محمد فاضل اجلمالي
محمد فاضل اجلمالي
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom