Al-Quds Al-Arabi

الصحافة كسلطة فعلية

بروين حبيب

- ٭ شاعرة وإعالمية من البحرين

■ منذ عشر ســنوات ناقش فيلم »678« خملرجه وكاتبه محمد دياب قضية التحرش من وجهة نظر، لنقل إنها عربية محضة، أثار جدال كبيرا ونقاشــات أهملت متاما فعل التحرش ورّكزت على رّدة فعل الضحايا ووســائل دفاعهن عن أنفســهن، والغريب أن رابطة العدالة االجتماعية حلقوق اإلنسان قدمت دعوى لألمني العام مطالبة بتوقيف عرض الفيلم، في محاولة مبطنة حلماية املتحرشني بشكل شرعي!

كان واضحــا أن صناع الفيلم قاموا بكســر أكثر التابوهات وحشــية في مجتمعاتنــ­ا، وال نعرف إن كانت بعض تفاصيل ووقائع القصة حقيقية، لكننا نعرف أن مرجعيتها متثل معطى تعيشــه النســاء في عاملنــا العربي يوميا، وتواجهــه بالصمت ألن ال املنظومــة القانونية وال الدينيــة وال االجتماعية تنصفها علنــا، وإن كانت النصوص القضائية ـ على الــورق- تقر مبعاقبة املتحــرش كون املشــكلة تكمن في تنفيذ تلــك النصــوص، وغالبا تصطدم بأشــخاص يتعاملون مع الضحيــة باحتقار وإذالل كبيريــن، وفقا للتربية الذكورية التي تشبعوا بها منذ أعمار باكرة.

تختلف وقائــع هذا الفيلم العربي الذي وِصــف باجلريء عن وقائع فيلم «قالت» خملرجتــه األملانية ماريا شــرادر، الذي يقوم علــى حتقيق صحافي أجنزته كل من جودي كانتــور وميغان توهاي من صحيفة «نيويورك تاميز» والذي صدر في شــكل كتاب عام ،2019 وحولته البريطانية ربيكا لينكيويتز إلى سيناريو متقن، استهدف أحد رموز السينما الهوليوودي­ة إلعطاء القضية أهمية تستدعي النظر في القوانني اجلائرة جتاه ضحايا التحرش وتغييرها.

ُعِرفت هذه القضية بفضيحة هارفي واينســتني اجلنســية، الذي أقيل من مجلس إدارة شــركته اخلاصة، التي أسســها مع أخيه، وطــرد من أكادميية فنون وعلوم الصور املتحركة إثر ثمانني شــكوى قدمت ضده قضائيا بسبب التحــرش اجلنســي، التي وصفت في بعــض الصحــف واملواقع مبصطلح «مزاعــم» متاما كما فعلــت جهات إعالمية وغير إعالميــة كثيرة جتاه قضية طارق رمضان. تقول القاعــدة الثمينة التي يجب أن يعرفها كل ذي حق يريد أن يحصل على حقه من خالل القضاء، إن الضعيف في إمكانه أن يحصل على تسوية كأقصى حد ممكن، أ ّما العدالة فمن الصعب أن تتحّقق له، فما بالك حني يكون هذا «الضعيف» أنثى؟

في حوار مقتضب بني شــابة تعرضــت للتحرش واالعتــدا­ء، وصحفية «نيويــورك تاميــز» نتوقف عند ســؤال الضحيــة: «هل ميكــن أن تدعمني الصحيفة؟» واجلواب الصادم: «ال». إذن من في إمكانه دعم املرأة في أقســى اعتداء يطال جســدها في ظرف كهذا؟ اجلواب أيضا صادم، فقط هي، وعليها أن تتوقع األســوأ وتقــرر هل تواجهــه، أم تختار التســوية أو تصمت؟ في الغالب حتى التسوية حتتاج لبعض الشجاعة ألن عواقبها قد تكون وخيمة، فاملتحرش ميلك سلطة اجتماعية حتميه، فكيف بشخص نافذ بسلطة املال أو السياســة؟ الذكور الذي يتحكمون في زمام حياتهم وحيوات من يحتك بهم بنزواتهم وميتلكون هذه العصا السحرية، ميارسون شذوذهم إلى آخر رمق، ويس ّخرون جيشا كامال من اجمل ّندين حلمايتهم، بدءا باملوظفني الصغار الذين يتّحكمون في لقمة عيشــهم، إلى رجال القانون الذين يجدون ثغرات تبّرئهم مقابل مكافآت مالية باذخة، فوق بريق الشــهرة الذي يكتسبونه بسبب تلك املناصب.

هذا البؤس في تكريس «الفســاد اخململي» يأخذ دون شك منحى آخر حني يصبح جزءا من صــورة الرجل القوي الناجح الــذي ال يقهر، والذي يحدث بعدها ســيكون درســا ندفع ثمنه غاليا على مدى أجيال، فكل جرمية تنتهي دون قصاص تتحّول لنموذج ُيحتذى به. ورمبا هذا ما جعل ظاهرة التحرش تنتشــر بكثرة في أغلب اجملتمعات العربية، فال رادع وال مردوع، وهي حتدث علنا في الشــوارع ووســائل النقل واألماكن العامة وأماكن العمل، مع تبرير كامل للمتحرش وإدانة لضحاياه.

ال نســتبعد أبــدا أن فيلــم »678« الذي ُأِجنــز عام 2010 يعكــس مرحلة عاشها الغرب قبل انتفاضة نســاء الغرب، تشبه متاما ما تعيشه النساء في مجتمعاتنا. في مشــهد جريء آخر تســأل إحدى الصحافيتني محامي السيد هارفــي عن تفانيه في التغطية عليه كل تلك الســنوات فيجيب في ما معناه: «رمبا ألن األمر كان عاديا بالنسبة للجميع في املاضي، وال أحد كان ميتعض». وهــذا صحيح، فالصمت عالمــة الّرضا كما يقال، خاصة حــني يكون مبقابل سخي. التحقيق الذي نشر صبيحة أحد أيام شهر أكتوبر/تشرين األول 2017 دفع الناشطة األمريكية ســوداء البشرة تارانا بيرك إلى إطالق هاشتاغ «مي تو» ســريعا ما حتول إلى حملة لدعم الضحايا املنتميات للطبقات الالمرئية مــن اجملتمع. تارانا كانت ضحية عنف جنســي تعرضت له من طرف عناصر من الشــرطة األمريكية. ال يهم إن قال البعض إن القصة مفبركة، وإن هارفي ُلّفقت لــه كل هذه التهم، إذ يبدو أن مطلع هذا القرن حمل الكثير من التغّيرات في جعبته، منها على ســبيل املثال قوة الســينما الناعمــة لزعزعة قوة املال والسياسة. فقد منحنا هذا الفن املرتكز على نص جيد ورموز سينمائية جميلة ورؤية جمالية ملوضوعات حساســة كهذه، اإلميان مجددا بإحداث تغييرات إيجابية لصالح اإلنسان املسالم وحتقيق العدالة التي يحلم بها.

ميكننــا طبعا أن نرى الفارق الكبير بني حتقيق العدالة بتشــريعات قوية متنع الظلم، وتسويات باهظة قد ال تكون أكثر من ترضية شخصية للضحية، مع حماية لســلوك املعتدي وتشجيعه على االســتمرا­ر فيه. في فيلم «قنبلة» خملرجه ماثيو جاي روتش حيث يروي فيــه كيف خرجت جنمة قناة فوكس التلفزيوني­ة جريتشــن كارلسون بتسوية بلغت العشرين مليون دوالر، بعد مقاضاة مدير األخبار روجــر إيلز واملذيع بيل أوريلي. لكــن وإن اعتبر هذا االنتصار «بداية لثورة النســاء» كما وصفها بعض اإلعــالم، فإن ما حققته كارســلون كان اســتثمارا شــخصيا دفعت ثمنه غاليا، فهل ميكن أن تنسى حلظات انتهاك اجلسد، بهذه الطريقة الوضيعة؟

نّقاد فيلــم «قالت» يرون أنه أثار ملفا مشــّرفا وقضية جُّد حساســة وإن كان ليس بالســينما الّرائعة، فقد تذّكر هؤالء سريعا أن شنايدر مسرحية في األســاس، وقد بقيت عالقة في ِشباك املســرح، رغم اجتهادها في تقدمي سرد موثق بطريقة سينمائية، شــدت انتباه املشــاهد بكمية الغضب واالحتقان املتوفران فيه بكميات كبيرة. وهذا ال يكفي، فقد كتب أحدهم أن شنايدر قدمت فيلما يشبه الواجبات املدرسية، التي حتشى باملعلومات.

قد تكون هــذه التصحيحات الفنيــة «عبقرية» من نقاد ســينمائين­ي لهم وزنهم، لكن هذا أشــبه بذر الغبار في األعني حتى ال ترى احلقيقة مرة أخرى، وحتى يحتمي الشر بكلمات قاسية حتاول إظهار نقاط العمل فنيا.

حسنا، هذا جانب ال يهمني كامرأة، فأنا لست هنا لتقييم فيلم سينمائي على املســتوى الفني، فقد تعاملت دائما مع األعمال الدرامية ســينمائية كانت، أم تلفزيونية كما لو أّنها نصوصا حتمل احلقيقة بقيٍم جمالية عالية، في إمكانها أن تؤثــر في متابعيها. وهــذا في حد ذاته يقودنا إلــى مفترق طريق خطير، فإّما أن تقف كمتفّرج إلى جانب الشــر، أو إلى جانب اخلير، وهذه ببســاطة أهداف الفيلم احلامل لقضية من أهم قضايا اإلنسان. فلماذا ينتشر التحرش اجلنسي ونتقّزز منه في الواقع، ومع هذا ال يتم تناوله إّال قليال؟ يحمل الفيلم كل األجوبة املمكنة التي قدمتها صحافيتــا «نيويورك تاميز» بطريقة تذكرنا أيضا باملهمة السامية للصحافة، في زمن تنهار فيه أعمدة إعالمية مهمة بسبب الغطرسة السياسية، وسوء الظروف التي خانت «السلطة الرابعة» ما جعلها تتعّرض النتكاسات كثيرة أّثرت سلبا في الوعي اجلماعي.

يخرج مشــاهد الفيلم بحماس عارم يشبه ذلك احلماس الذي عشناه حني شــاهدنا فيلم «مارك فيلت: الرجل الذي تسبب في ســقوط البيت األبيض» الــذي صدر عــام 2017 وأفالم أخرى علــى قلتها أعطــت للصحافة مفهومها احلقيقي لنصرة القضايا العادلة وصناعة الوعي. ولعل الســؤال الذي يبقى يطرح نفســه هنا هو ما كُّم الشــجاعة التي يجب أن يتســّلح بها الصحافي ليواجه أنواع الفســاد املتراكمة على مدى ســنوات فــي كواليس اجملتمعات الصامتة؟

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom