Al-Quds Al-Arabi

تنقيح التراث اإلسالمي... دعوة عبثية إلى جتاوز املاضي

- إحسان

«شــجرة اخللد وملــك ال يبلى»، هكذا أضفــى إبليس هــذا الوصف البــّراق علــى الشــجرة اُملحّرمة، ليتســنى لإلنســان أن يتجاوز ما اســتقر فــي فطرته مــن النفور من القبيــح، وصار بعدها هذا املســلك منهجــا لكل من يريــد قلب احلقائق واســتبدال­ها مبســوخات فكريــة هدامة.

ومما ارتدى هذا الثوب في عصرنا، قضية هدم ثوابت الديــن وتفريغه من محتــواه والعبــث بأصوله، حتت مسمى الدعوة إلى تنقيح التراث اإلسالمي.

ينبغي أن نفــرق أوال بني الوحي والتــراث الذي هو جهد بشــري، فالوحي املتمثل في القرآن وصحيح السنة نصوص معصومة، ال يدخل في معنى التراث اإلســالمي باملفهوم الثقافي في أدبيات الفكــر احلديث، الذي يعني عرض اجلــزء املتعلق بالوحي واجلــزء املتعلق باجلهد البشري معا على ميزان النقد والتنقيح.

ظهرت دعوة تنقيح التراث اإلســالمي على أنها تهدف إلى تنقية اجلهود البشــرية عبر التاريخ اإلســالمي، من فتاوى وآراء واجتهادات وتصانيف، إال أنها في حقيقتها تتناول القضية بشقيها: الوحي املنزل، واجلهد البشري، والدليــل على ذلــك أنهم ينــادون بقــراءة جديدة في النصوص الشــرعية، تتفق مع روح العصر ومتطلباته، وهو تعُّرٌض صريح للنص املنــزل. املتأمل في مخرجات هذه الدعوة إلــى تنقيح التراث، يدرك أنهــا تتعامل مع اُملْثبت كأنه معــدوم، فهي تطالب بالتعامــل مع التراث، وفق قواعد هي في األســاس موجودة فــي هذا التراث، فهم يدعون إلى ترك التقليد األعمى وكأنه ابتكار حداثي، مع أن التراث اإلســالمي عامــر بالتطبيقات العملية لهذا األصل، فكبار األئمة كان دأبهــم التواصي باتباع الدليل ونبــذ التقليد األعمى، فهــذا اإلمام الشــافعي يقول: ُكُّل

‪َْ َّْ ُُ‬ ما قلته فكان ِمن رســول الل ِه - صلى الله َعلي ِه وســلمِخالف قوِلي ِمما صح فُهَو أولى وال تقلدوني. وقال أيضا: « ِإ َذا َو َج ْد ُت ْم ِفي ك َتا ِبي ِخ َال َف ُس َّن ِة َر ُس ْو ِل الل ِه - َص َّلى ال َّل ُه َع َل ْي ِه َو َســ َّل َم - َف ُق ْو ُلوا ِب َها َو َد ُعوا َمــا ُق ْل ُت ُه». وقال اإلمام مالك: «كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إال رسول الله صلى الله عليه وســلم». وكانوا ينهون أتباعهــم عن التقليد، يقول اإلمام أحمد: «ال تقلدوني وال تقلدوا مالكا وال تقلدوا الشافعي وتعلموا كما تعلمنا»، وهذا محمول على من كان قادرا على أخذ الدليل وفهمه، أما العامي الذي ال يحســن النظر في األدلة فيســوغ له أن يقلد من أهل العلم من يثق في دينه وأمانته وعلمه وتلقته األمة بالقبول.

يتحدثون عــن أنه ينبغــي حترير الفقه اإلســالمي من اجلمود، مــع أن جهود العلماء كانــت تصب في هذا اجلانب، وليــس أدل على ذلك من املوســوعا­ت الفقهية الكبــرى، التــي أعدها العلماء مــع ثرائها باملناقشــ­ات لآلراء االجتهاديـ­ـة، كـ»املغني» البــن قدامة و»احمللى» البــن حزم. ومما يســتندون إليــه في دعوتهــم لتنقية التراث، أن الفتــوى تتغير بتغير الزمان واملكان، وكأنهم قد أتوا بالشــاردة، وأي ُمّطلع على كتــب التراث يدرك، من دون عناء، أن هذا مــا كان عليه علماء األمة، حتى إن ابن القيم، رحمه الله، عد عــدم مراعاة اختالف العوائد واألمصــار واألعراف في الفتــوى جناية علــى الدين، فقال» َم ْن َأ ْف َتى ال َّنــا َس ِب ُم َجر ِد المنقول ِفــي الكتب َعلى ‪ُْ ََّ‬

‪ََِ َْ‬ اخ ِتلا ِف عر ِفهم و َعوا ِئ ِد ِهم وأز ِمن ِتهم وأم ِكن ِتهم وأحوا ِلهم

‪َِِ ْْ َْ َُ‬ َو َِ

َق َرا ِئــن أحوا ِلهم ََ فقدضل ََّ وأضل،وكانــ ْت ِجنا َي ُت ُه َعلى الِّدين أعظم ِمن جنايِة من طبب الناس كلهم َعلى اخِتلاِف

‪ََ َِ ِِ َِ َُْ‬ بلا ِد ِهم و َعوا ِئ ِد ِهــم وأز ِمن ِتهم وطبا ِئ ِعهم بما ِفي ِكتاب ِمن

‪ٍَ َِّ ُِ‬ كتب الطــب َعلى أب َدا ِنهم، بل هــذا الطبيب الجا ِهل وهذا

ِْ المف ِتي الجا ِهل أضر ما َعلى أديان الناس وأب َدا ِنهم». ومن املعلوم أن اإلمام الشافعي، رحمه الله، له مذهبان: القدمي إبان إقامته في العراق، واجلديــد بعد نزوله إلى مصر، وقطعا ليس املقصود باختالف بعض املسائل في مذهبي الشــافعي، ما يتعلق بأصول الدين واألحكام الشــرعية الثابتــة بدليل قطعــي الثبوت والداللة، وإمنا املســائل التي هي من مــوارد االجتهاد، فاألولى ال تتبدل واألخرى تتبدل باختالف الزمان واملكان، وهــذا يقوم به العلماء أهل الفتوى، وليس ذلك للسياســين­ي أو اإلعالميني ممن أقحموا آراءهم الشــخصية في الدين وطوعوا نصوصه ألهوائهم. يرى أهل دعوة تنقيح التراث، أنه يجب جتاوز آراء العلماء الذين حتللت أجسادهم حتت األرض، إلى ما يناســب هذا العصر، وكأن هذا اإلرث الذي تركه العلماء هو ســبب تخلفنا، إن علماء هذه األمة وفقهاءها من أهل الســنة، كانوا يوائمون بني الدين والدنيا، ويعيشــون عصورهم ويتعاطون مع قضاياه واحتياجاته، لم يكونوا منفصلني عنه، والشــافعي رحمه الله يقول: «ال تســكنن بلدا ال يكونن فيه عالم ينبئك عن دينك، وال طبيب ينبئك عن أمر بدنك».

إن جهــود العلمــاء والفقهاء نابضة ألنهــا موصولة بالوحيني، خصبة وصاحلة للتعامــل مع الواقع، لدرجة أن بعــض رجــال القانون فــي أوروبا أسســوا جمعية باسم «محمد بن احلسن الشــيباني» صاحب اإلمام أبي حنيفة، واصفــني إياه بأنه «رائد لفقــه القانون الدولي العــام». وحتى يتجاوز هؤالء التراث اإلســالمي، فإنهم يتبعون منهج التفسير السياسي، فينبشون في التاريخ اإلســالمي للتدليل على تأثير السياســة فــي االجتهاد وطرق االســتدال­ل ومواقف العلمــاء، والبرهنة على أن املوروث الفقهي لم يكن مبنيا على النصوص الشــرعية، وإمنا كان مبنيا علــى الواقع السياســي، كما يزعمون، فهذا من أشــد األدوات التي يســتخدمون­ها فــي قراءة التراث اإلسالمي وتناوِله، وكثيرا ما يوقعهم في االرتباك والشطط واخلطأ في سرد احلقائق التاريخية، فنصر أبو زيد يقول في بعض كتبه عن اإلمام الشــافعي، إنه الفقيه الوحيد مــن بني فقهاء عصره الذي تعــاون مع األمويني مختارا راضيا، مع أن مولد الشــافعي (سنة )ـه150 بعد زوال الدولة األموية بقرابة عقدين من الزمان.

إننا مع دعوة تنقيح التراث اإلســالمي إذا كان معناها تنقية كتب الســنة من األحاديث الضعيفة واملوضوعة، وهو ما قام عليه جمع غفير من العلماء.

ومــع دعوة تنقيــح التــراث إذا كان معناهــا تنقيح الفتــاوى واآلراء الشــاذة في كتب الفقهــاء، مع أن دأب العلماء في كل عصر الرد على مثل هذه اآلراء والفتاوى. ومع دعوة تنقيح التراث إذا كان معناها تنقية كتب السير والتراجم من الروايــات مجهولة الســند، واملبالغة في تقديس األشخاص، علما بأن هذا ما يقوم به علماء األمة. ومــع دعوة تنقيح التــراث إذا كان معناها تــرك التقليد األعمى، مع أنه مبدأ تراثي ال حداثي، ألن الشــرع قد فتح باب االجتهاد، وال ســبيل ألحد إغالقه في أي زمان أو أي مكان.

إن التراث ينقح نفســه، وجهود العلماء الذين إليهم هذا األمر، موصولة عبر احلقب اخملتلفة، لكنها دعوة إلى جتاوز املاضي بأســره، واعتماد منهج يقوم على مقاصد النفوس ال الشــريعة، والله غالب علــى أمره ولكن أكثر الناس ال يعلمون. *كاتبة أردنية

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom