Al-Quds Al-Arabi

متى يعود الراي ألبناء الراي؟

- ناصر

فرح الكثير مــن اجلزائريني بالقرار األخير ملنظمة اليونيسكو، التي اعترفت فيه بجزائرية غنــاء الراي، من دون أن يعني هذا بالضرورة، أن الراي مبعنى رجاحة العقل وحسن التفكير والتدبير التي حتيل اليها كلمة راي، عند اجلزائريني في األصل، وقــد عاد فعال للجزائريني ال لغيرهم من ســكان شــبه القارة املغاربية ككل، هم الذين مــا زالوا مصرين على الدخول فــي حروب وهمية الرابح فيها خاســر، بكل تأكيد، حول رموزهم وثقافتهم املشتركة منذ آالف القرون، يصرون على استعمالها كمعول هدم وفرقة.

فقبل حرب الراي التي حاول البعض من الداخل واخلارج

إشــعالها بني اجلزائريــ­ني واملغاربة، كانــت محاولة الزج بالكسكسي كمطعم مشترك ألبناء املغرب الكبير املمتد من بن غازي الليبية إلى أقصى األطلسي للقيام باحملاولة التدميرية نفســها، للكســكس الذي لم أكن أتصور يوما انه سيتحول إلى عامل فرقة وشــقاق بني أبنائه هو الذي يرمز إلى اللقاء والوحدة. مــرورا مبعركة الزليج التــي اندلعت بني املغرب واجلزائــر، بعد اإلعالن عن شــكل قميــص الفريق الوطني اجلزائــري لكرة القدم، في انتظار معارك أخرى، ما زال يصر عليها من ال راي لهم. من أبناء بالد الراي.

معارك وهمية تعكــس حالة التردي التــي أوصلت إليها النخب الرســمية احلاكمة، الشــعوب املغاربية، بعد معارك االســتقال­ل وبناء الدولة الوطنية. شــعوب كانت وما زالت تغني بالنغمة املوســيقي­ة نفســها، وتأكل الطعام نفســه، وتلبس اللباس نفســه وترقص الرقص نفسه. داخل نسيج دميوغرافي وثقافي متجانس إلى حــد كبير، وحده التاريخ منذ قــرون، وحده الزواج املشــترك والتنقــل بني مختلف مناطق املغــرب الكبير، مــا جعل الشــيخة الرميتي الوجه الراياوي املعروف فــي اجلزائر، تتحول إلــى جزائرية في مرحلة تاريخية محــددة، رغم أصولها املغربية املؤكدة -هو حال الشابة الزهوانية نفسه - كما هو حال الكثير من أبناء املــدن الغربية في اجلزائر، كنتيجة منطقية لهجرة واســعة بني البلديــن، قبل وبعد ظهور احلدود الدولية احلالية، التي لم تكن ال دائمة وال مستقرة، ونحن نتصفح التاريخ القريب والبعيد.

احلال نفســه الذي ينطبق على أبناء اجلزائر من أصيلي واليات معسكر، تلمســان ومســتغامن الذين نصنفهم اآلن كمغاربة مفتخريــن مبغربيتهم، عكس القــراءة التاريخية التي تقول إنهم جزائريون من حيــث أصولهم البعيدة على األقل، تنقلوا إلى ما يســمى املغرب اآلن ألسباب عديدة، كما كان يحصل عند كل شعوب األرض. وضع ينطبق على أبناء قبيلة الفراشيش على احلدود اجلزائرية التونسية - كمثال فقط - وغيرهــا من القبائــل الكثيرة التي تســكن املنطقة احلدودية، داخل شــبه القارة املغاربيــ­ة، متاما كما هو حال ســكان قبائل الطوارق في أقصى اجلنــوب، ونحن نتحدث عن تلك العائــالت التي ما زالت جتســر العالقات بني أبناء الشــعبني الليبي واجلزائري في بعدهــا االفريقي. عالقات ال ميكن أن تخفيها العني مهما كانت قاصرة ومســتعملة ضد منطق التاريخ واجلغرافيا، الذي تعاملت معه شعوب املنطقة بكل أريحية وسالسة لقرون عدة.

بديهيــات لم يكن من الضروري التذكيــر بها، لوال غياب الراي عند أبنــاء الراي، الذين أراد بعض مســؤوليهم عند وصولهم للســلطة بعد االســتقال­ل، وضع حواجز جمركية امام األغنية الشــعبية املتأصلة بني أبناء الشــعب الواحد، وأبناء شــعوب املنطقة، كما كان احلال مــع أغنية الراي في اجلزائر من قبل النخب الرسمية ومن ورائها النخب الفكرية واإلعالميـ­ـة املدافعة عــن توجهاتها، بحجــة «عدم أخالقية كلماتها». احلجة نفسها التي استعملت ضد األغنية الشاوية، كمــا تؤكده حالــة املطربة الشــعبية حدة بقار وألســباب سياسية أخرى عندما يتعلق األمر باألغنية األمازيغية، بكل أنواعهــا القبائلية والطرقية واملزابيــ­ة، وهي تتحول الحقا إلى سالح سياسي فعال ضد النظام السياسي الذي حاربها ونفاها إلى اخلارج، في وقت اجتهت فيه النخب السياســية احلاكمة في اجلزائر في محاولة فرض «أغنية وطنية « ال لون وال طعم لها رفضها الذوق الشــعبي العام، رغم ما مت توفيره لها من إمكانيات مادية واحتكار إعالمي من قبل مؤسســات الدولة، التي احتكرت األرض والسماء خالل هذه الفترة، في طريق بناء مشروع وطني يعقوبي رفض االعتراف بأي نوع من أنواع التميز واالختالف، مهما كان بســيطة ومقبولة في قارة ثقافية مثل اجلزائر. كما عبر عن نفسه هذا املشروع في ظل حكم الرئيس بومدين خالل ســبعينيات القرن املاضي. نظام سياسي يعقوبي لم يعترف فيه للشعب وحتى لنخبه، مبــا ميكن أن مييزها من انتمــاءات جغرافية وثقافية جعلها تتنكر كمســتهلكة ثقافية ألذواقها الفنية والغنائية وتتعامل معها كميدان خاص يجب الســكوت عنه فــي الفضاء العام، حتى لــو تعلق األمــر بأغنية أو نوع موســيقى غير حاصل على الشرعية الرســمية. وضع جعل الشاوي احلاضر بقوة على مســتوى مراكز القرار في اجلزائر خالل هذه الفترة، ال يبوح بعشــقه ألغاني حدة بقار إال فــي الفضاءات الضيقة، بني أبناء جهته ويتنكر لها لتركهــا متوت في حالة يرثى لها في مدينة عنابة، بعد طول تهميش، وهو يســتهلك «األغنية الوطنيــة « التي فرضها على الذوق العــام، من دون جناح. فشــل لهذه االغنيــة األحادية التي وصفــت بالوطنية على حساب تنوع الغناء الشــعبي املمثل لكل جهات الوطن، هو الذي يجعلنا نربط بينه وبني فشــل املشــروع الوطني على املســتوى السياســي، الذي لم تكن النخــب احلاكمة قادرة على منحه عمقا فنيا وثقافيا إنســانيا، كان كفيال بحصوله على القبول الشــعبي. مبا يفترضه من نوع من الهيمنة التي كانــت غائبة لدى هذه النخب السياســية الرســمية، التي بقيت ببعد واحد في عالقاتها بالشــعب، بعد سياسي جاف كما تصوره هذه الصورة احلزينة التــي تكلم عنها الدكتور أحمد طالب في مذكراتــه، وهو يتحدث عن الرئيس بومدين في أيامه األخيرة، وهو على فراش املوت في موســكو. كان بومدين يدنــدن بلحن أغنية شــاوية معروفــة في منطقة الشرق اجلزائري، لم يكن يســمح بحضورها في التلفزيون اجلزائري خــالل فترة حكمه ال هو، وال وزير إعالمه الدكتور طالب.

حروب وهمية الرابح فيها خاسر، بكل تأكيد، حول رموزه وثقافات مغاربية مشتركة منذ آالف القرون، يصرون على استعمالها كمعول هدم وفرقة

*كاتب جزائري

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom