Al-Quds Al-Arabi

السودان: مائدة مستديرة إلنقاذ الوطن

- د. الشفيع خضر سعيد٭ ٭ كاتب سوداني

أستاذ في قسم العلوم السياسية ـ جامعة الكويت

■ بســبب التطورات الدرامية في املشــهد السياســي الســوداني املضطرب، نســتأذن القارئ في قطع مناقشــتنا مبادرة منظمة أسر شــهداء ثورة ديسمبر/كانون األول حول مشــروع حق السودانيني في احلياة األفضل والتأســيس لدولــة العدالة والقانــون، والقائمة على ركيزتني أساســيتني هما إصــاح املنظومة العدلية وإصــاح املنظومة األمنية والعســكري­ة، حيث تناولنا في املقاالت السابقة الركيزة األولى، ونؤجل مناقشــة الركيزة الثانية، إصاح املنظومة األمنية والعسكرية، إلى مقال قادم.

أعتقــد من الطبيعي أن نتســاءل ملــاذا هذا االضطــراب أو «العيطة» باملعنى السوداني الدارجي وليس املغربي، في املشهد السياسي ما دامت النتائج واخلاصات الراهنة متوقعة؟

قد يكون البعض محقا في شكوكه بأن ظاهر وسطح املشهد السياسي ال يتطابــق مع باطنه، ولكن في اعتقادي، أيضا وفي كل األحوال وفي ظل العملية اجلارية اآلن، النتائج املعلنة متوقعة، وما سيترتب عليها متوقع. وعموما، املشهد السياسي واضح في ظاهره وسطحه، فهناك من يرفض عملية التفاوض من أساســها ويقول أنه غيــر معني بنتائجها، وإن كنت أعتقد أن هذه النتائج حتما ستؤثر على خططه وتكتيكاته.

وهنــاك من يقبل بالتفــاوض لكنه ال يرضى أن يكــون مجرد تابع ملا يقــرره آخرون، ويطلب أن يكون شــريكا من البدايــات في صنع نتائج هذا التفاوض حتى ال يوســم بأنه في منزلة أدنى، ألن هذا الوسم سيلقي بظال ســالبة على دوره في ترتيب أجهــزة االنتقــال القادمة. وهناك مــن يتعامل بعقليــة رأس احلربــة، أو القاطرة، مــع أن التجربة تقول إن هذه العقلية حتما ســتقود ألضرار جســيمة في العملية السياسية. الســوداني­ون علــى دراية تامة بحقيقــة أن احلريــة والتغيير/اجمللس املركزي ظلت في تفاوض أو تفاهمات مع املكون العســكري، وأن الوثيقة اإلطارية هي نتاج هذه التفاهمات. وأيضا هم على دراية بحقيقة العاقة بني ذات املكون العسكري واحلرية والتغير/الكتلة الدميقراطي­ة. كما أنهم على دراية بوجود مســعى للتفاهم بني اجمللس املركزي وبعض مكونات الكتلة الدميقراطي­ــة، مثلما هم على دراية بوجود كتلــة كبيرة من قوى الثورة املؤيدة للعملية السياسية، مبا في ذلك كتلة اجملتمع املدني، خارج العملية السياسية، ألن تصميم العملية، وهو بيد اجمللس املركزي، ال يجد قبوال عندهم.

من حــق احلرية والتغيير/اجمللــس املركزي أن تتــوج تفاهماتها مع املكون العسكري بالتوقيع على وثيقة

إطارية. ولكن ســتظل هــذه الوثيقــة خاصة بالطرفني فقــط، ما لم ينشط اجمللس املركزي في إدارة حوار مع أكبر عدد من القوى السياسية والثورية األخــرى لتنضم إلــى الطرفني املوقعني، وعندها ستكتســب الوثيقة اإلطارية قوة وثقا أكبر. وفي كل األحول ميكن أن تكون الوثيقة مدخــا، أو محطة أولــى، أو ورقة من ضمن أوراق أخــرى مقدمة آلليات احلوار األخرى التي ســتقترحها العملية السياسية بتسهيل وتيسير من بعثة اليونيتامس.

ومن ضمن هذه اآلليــات األخرى، رمبا تقترح اليونيتامس عقد مؤمتر مائدة مســتديرة يضم جميع مكونات الثورة في مؤمتر مائدة مستديرة، ليتصدى للوضع اخلطير الذي متر به الباد، والذي يزداد خطورة بحالة العجز املتمكن من قوانا السياســية وما تعانيه من تشرذم وانقسامات. إن ســاح جذوة الثورة املتقدة وبســاالت جلان املقاومة، رغم فاعليته ودوره األساسي، لن يستطيع وحده حســم املعركة، والتي تتطلب أكثر من ســاح وعدة أنواع من الذخائر. وكما ظللنا نكرر دائما، ال خير في أي عملية سياسية يكون هدفها الرئيســي فقط هو إقتسام كراسي السلطة. وكما تعلمنا مــن دروس التاريخ، فإن تبوؤ أحام الشــعوب مكانها في صدر أولويات أجندة القادة والزعماء هي التي بنت احلضارة البشرية، وفي اللحظة التي تتساقط فيها هذه األحام من أولويات أجندات أولئك القادة والزعماء ويعجزون عن االســتجاب­ة لهــا، أو يضعونها في موقع أدنى بالنســبة ألجنداتهم احلزبية واخلاصة الضيقة، تصاب احلضارة البشرية بالتصدع.

صحيح أن األوضاع الراهنة في البــاد، قد تصيب البعض باإلحباط واليأس من أن يتجسد حلم الثورة واقعا، وخاصة الذين ظلوا طويا في انتظارها، أو ظنوا أن قطف ثمارها سيكون صباح الغد. وحاالت اإلحباط املؤقتــة، والتي تصيبنا في حلظة معينة وزمان محدد، أعتقد أنها مفهومة ومقدرة ما دمنا لم نسقط املبدأ. ولكن، أن يتملكنا اإلحباط مطلقا، فهذا غير مقبول، وهو فــي النهاية، حلم ومنى طغاة األمس املدحورين. إن حماس النــاس، املنظم والواعي، قادر على قلب املوازين في اللحظات التاريخية احلاسمة. وما نشــاهده حاليا في منافسات كأس العالم في قطر، يذهلنا جميعا بقدرة املونديال على حشــد املايني من كل بلد، وتفجير حماسهم وتفاعلهم مع املنافسات حد الهوس.

ونحن في الدفاع عن ثورتنا أحوج ما نكون إلى مثل هذا احلماس وهذا التفاعل، ال حماس فرحة االنتصارات فحســب، بل وحتى دموع الهزائم املؤقتة، لهزمية الامباالة، ولرفع رايات األمل وشــحذ إرادة التغيير من أجــل االنتصار النهائي لثورتنا، ومن أجل دحر كل محاوالت اســترجاع حتالف الفساد واالستبداد.

إن اجلروح الغائرة في جســد الوطن، مغلقة كانت أم مفتوحة، قطعية كانت أم نزعية مصحوبة ببتر جزء من الوطن، انتفض شعبنا العظيم في ديسمبر/كانون األول 2018 من أجل رتقها، ولكن ال تتملكنا أي أوهام بأن الثوره ميكن أن تعاجلها في عامني أو ثاثة.

إن رتق جروح الوطن يحتاج إلى خيوط متينة وأيد ماهرة، وجميعها، لن تتوفر إال بتوفر اإلرادة والرؤية واألداة املناســبة عند قياداتنا. وهذه اخليوط تستمد متانتها، مثلما األيدي تكتسب مهارتها، من حقيقة أن بناء الوطن يحتاج إلى توسيع مبدأ القبول واملشاركة، إال من ارتكب جرما في حق الوطن، فهوالء مصيرهم املثول أمام العدالة.

األزمة في بادنا بلغت احللقوم، ولم نعد على شــفا حفرة من نار، بل نفترب من مستقرها، وال بديل أمامنا سوى أن نطلق حماسنا ونبث األمل من أجــل اإلنتصار لثورتنا، ومن أجل دحر محاوالت اســترجاع حتالف الفساد واالستبداد.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom