اليوم العاملي حلقوق اإلنسان بني العمل احلقوقي والسياسي
■ مع اقتراب اليوم العاملي حلقوق اإلنســان يبدو العالم أقل تفاؤال إزاء املنظومة احلقوقيــة التي رفعت طوال ثاثة أربــاع القرن األخير شــعارا ملرحلة ما بعد احلــرب العاملية الثانية. فبرغــم جهود رواد تلك املنظومة واملتحمســني لها ال تبــدو تلك احلقوق مصونــة بالقدر املتوقــع، كما ال يبدو منتهكوها أكثر عرضة للمحاسبة. بل رمبا وجهت القوى التي حتمســت لها في البداية ضربة شــبه قاضية لتلك املنظومة بسياســاتها وأســاليب تعاطيها مع «األنظمــة الصديقة». وبشــكل تدريجي أصبحت أحيانا كثيرة عرضة لاستهزاء بعد أن تضاءلت فعاليتها ولم تتمكن من حماية ضحايا القمع الســلطوي في أغلب البلدان، خصوصــا احملكومة بأنظمة شمولية متارس االستبداد والقهر.
ومن املؤكد أن املسؤولني مبنظمة األمم املتحدة وتفرعاتها خصوصا مجلس حقوق اإلنســان سيكررون في ذلك اليوم خطاباتهــم املتفائلة التي تؤكد أهميــة املنظومة ودورها في حفظ امن البشــر وحقوقهم، وســيكون لكامهــم وقع في أوســاط كثيرة، وســتعقد الندوات ملناقشة سبل تطويرها، وُتكتب املقاالت وُتنشــر التقارير لتأكيد ذلك. فاملناسبة لها موقع مهم في التاريخ البشــري احلديث، فهــو اليوم الذي أقــرت األمم املتحدة فيــه اإلعان العاملي حلقوق اإلنســان في العام .1948 لكن هؤالء املســؤولني يشــعرون في قرارة نفوســهم أن القمع الســلطوي يزداد توســعا وشراســة واضطهادا، وأن ضحايــاه تتصاعد أعدادهــم، وأن دوائر احلرية تزداد ضيقــا، وأن احلقيقة أصبحت أكثر تشوشــا مع تغول دور املصالح االقتصادية في عالم تتفاقم مشــاكله االقتصادية. فها هو الكيان اإلســرائيلي يتوســع في قمعه، فا مير يوم بدون أن يزهق أرواح عدد من الفلسطينيني بدم بارد بدون أن يخشى ردة فعل قاســية حتى من احلكومات العربية التي ولج بعضها باب التطبيع معه من أوسع أبوابه.
فما قصة صعود املنظومة احلقوقيــة وهبوطها؟ ما الذي دفعهــا لترتقي الســلم لتحظى باالهتمــام الدولي في فترة ما بعد احلــرب ولتصــل ذروة االهتمام الغربــي في ذروة احلرب الباردة، ثم لتتراجــع في الوقت احلاضر حتى تصل إلى أســفل قائمة اهتمامات دول «العالم احلر»؟ قد يســعى بعض رواد العمل احلقوقي ومنظريــه إلنكار ذلك، ولكن ما تفســير الصمت املطبق على ما يتعرض له ضحايا االحتال
في فلســطني ومعارضي االستبداد في أقطار العالم العربي؟ كيف ميكن تبرير حصر النقاش حول ظاهرة الاجئني الذين يخاطرون بأنفســهم في أعالى البحار بالوضع االقتصادي وال يتم نقاش األسباب السياسية واألمنية التي تدفع هؤالء للمخاطرة بأنفســهم؟ فحــني تتفاقم اإلعدامــات في بعض الدول احلليفة للغرب ويقابــل ذلك بالصمت، وعندما تضج املعتقات بنازليها في بلدان حليفــة أخرى، بينما يتواصل العمل الدبلوماسي بدون توقف، ما تفسير ذلك؟ األمر املؤكد أن هناك ردة أخاقية ومعنوية لدى الدول الغربية خصوصا الواليات املتحدة إزاء قضايا احلرية والدميقراطية وحقوق اإلنســان، وهناك انكفاء على الذات لديها، وتوجه لابتعاد عن «العمل اجلماعي».
وإذا كانت أزمة احلــرب األوكرانية قد أظهرت جانبا من العجــز الغربي في مواجهة التحديــات اإلقليمية والدولية، فإنها أكدت كذلك غياب االســتعداد لإلنفاق املالي او التدخل العســكري الباهظ فــي مناطق الصــراع. ومــن املؤكد أن جتربة التحالف األنكلو ـ أمريكي في إفغانســتان والعراق وتداعياتهــا السياســية أصبحــت رادعا لهــذه الدول من التورط في بؤر الصراع الســاخنة في الوقت احلاضر على األقل. هذا التردد ينعكس على مجال حقوق اإلنســان ليس في العالم اخلارجي فحســب، بل حتى داخل «العالم احلر» نفسه. فهناك توجه مستمر لتقليص مساحة احلريات العامة ومنح أجهزة األمن والشــرطة صاحيات أوسع، األمر الذي يدفع منظمات اجملتمع املدني ووســائل اإلعام إلبداء القلق والسعي لوقف تداعي مستوى احلريات التي لم تكتسب إال بعد تاريخ طويل من الصراع والنضال.
في األيــام القليلة املقبلة ســيهرع وزراء خارجية الدول الغربيــة حلضور ما يســمى «حوار املنامة» الــذي يعقد في البحرين سنويا بالتزامن مع اليوم العاملي حلقوق اإلنسان، وسيناقشــون قضايا األمن التي تهدد أمن املنطقة والعالم، وســوف يســهب هؤالء في النقاش واللقاءات السياسية، ولكن ســببا مهما يهدد أمن الشــعوب لن يتم التطرق إليه: غياب احلريات العامة وانتهاك احلقوق في العديد من بلدان العالم العربي، ومــن بينها البلد املضيف. وبينما تســابق هؤالء للتباكي على حقوق العمال األجانب الذين استخدموا لبناء املنشــآت في قطر استعدادا لكأس العالم، لم يرفع أحد حتــى اآلن عقيرته للتلميــح إلى معاناة شــعب البلد الذي سيحلون ضيوفا على حكومته. هؤالء السياسيون يفضلون عدم اســتحضار كام البابا خال زيارته األخيرة الشــهر املاضي، وير ّجحــون أن ال ُيطلب منهم تذكير الدولة املض ّيفة بالتوصيات الـ 257 التي أصدرها مجلس حقوق اإلنســان الشــهر املاضي خال املراجعة الدورية حلقوق اإلنسان في ذلك البلد. فلماذا هذه املفارقــات الصارخة في التعاطي مع قضايا الشعوب؟
ألم يكن من األجدى ترويج منظومة حقوق اإلنســان من خال إثارة أوضاع الســجون في العديد من بلدان املنطقة؟ أليــس مطلوبا من هؤالء التحلي بقدر من اإلنســانية ورفع الصوت عاليــا للمطالبــة بإخاء الســجون واإلفراج عن املعتقلني السياسيني في الســجون اإلسرائيلية التي مضى على بعض السجناء الفلســطينيني فيها أكثر من عقدين؟ أو في البحرين التي يقضي في ســجونها أكثر من 1300 سجني سياسي أغلبهم قضى قرابة االثني عشر عاما وراء القضبان ألنه النهم عبروا عن مواقفهم السياسية وطالبوا باإلصاح؟ مشكلة الساسة الغربيني أنهم ميارسون نفاقا سياسيا بدون حدود، فهــم ال ينظرون للمنطقة بلحاظ مصالح شــعوبها، او مبنظــار أخاقــي وقيمي بل مــن منظورين أساســيني: اقتصادي وعســكري. فاهتمامهم األكبر يتأسس على ضمان تدفق النفط مبعدالت وأســعار مناسبة، واستخدام أراضي بلدان املنطقة لبناء القواعد العســكرية بهدف ترجيح الكفة العســكرية حللف الناتو في مواجهة روسيا والصني بشكل خاص. كمــا يضعون أمن االحتال اإلســرائيلي على قائمة اهتماماتهم السياسيةز ولذلك يرون في طرح قضايا حقوق اإلنسان ضررا على هذين البعدين.
وتأسيســا على ما سبق ميكن طرح بعض املؤشرات على املتاعب التي يواجهها النشــطاء السياســيون في املنطقة. فقــد أدرك الكثيرون منهــم أن املنظومــة احلقوقية طرحت ألهداف سياســية بحتة ولم تنطلق من اعتبارات إنســانية إال بشــكل هامشــي. فقد اســتدرج الكثير من السياســيني بعيــدا عن العمل السياســي، وأصبح الكثيــر منهم يفضل وصفه بـ «الناشــط احلقوقي». وبهــذا تراجعت الضغوط الكبيرة التي مارستها الشــعوب من أجل التغيير خصوصا في إطار «الربيع العربي». فلم تعد أنظمة االســتبداد والقمع تخشــى من ضغوط سياسية من جانب حلفائها فــي الغرب. أما في اجلانب احلقوقي الذي توســعت دائــرة العمل فيــه، فقــد تفتقت عبقرية اخلبراء الغربيــني عن فكرة جهنمية قدموها ألنظمة االســتبداد احلليفة لهم: واجهــوا معارضيكم بالوســائل احلقوقيــة التــي يســتخدمونها ضدكم. وفجأة تأسســت منظمات حقوقية حكومية في أشــد البلــدان قمعا، وأصبح هناك «الهيئة الوطنية حلقوق اإلنسان» و «مكتب التظلمات» وطرحــت مقوالت تهدف للتشــويش وصــرف األنظار عن االنتهاكات التي تمارس بحق سجناء الرأي وراء القضبان، منها «االستراتيجية الوطنية حلقوق اإلنسان». وحتت هذا العنوان اســتطاعت هذه االنظمة استيعاب بعض من كانوا نشــطاء حقوقيني ووظفتهم ضمن هذه املؤسسات برواتب عالية، وأصبحت هذه املؤسسات احلقوقية اجلديدة متارس دور الدفاع عن ممارســات احلكومات بطرح صور مشوشة عما يجــري في طواميــر التعذيب. وقد أثــر االنغماس في املشروع احلقوقي على املشروع األســاس الهادف لتحقيق تغييــر سياســي ينهي عقود االســتبداد والقمــع، وحتول السياســيون إلى «نشــطاء حقوقيني» وســقطوا بذلك في بئر ســحيق يبعدهم تدريجيا عن مشــروعهم السياســي ويســتهلكهم في متاهــات العمــل احلقوقي الــذي تخلى الغربيون عنه واســتخدموه مصيدة للنشطاء السياسيني، وبذلك وفروا حماية حقيقية حللفائهم في املنطقة.
في اليوم العاملي حلقوق اإلنســان مطلــوب جذب أنظار النشــطاء لهذه احلقائق، وأن االنغماس فيها لن يقلل كثيرا من االنتهاكات، ولن يقضي على املمارسات احلاطة بالكرامة اإلنسانية كاالعتقال التعسفي والتعذيب ومصادرة احلريات العامة وانتهاك حقوق املرأة. مطلوب من الراغبني في التغيير مراجعة اإلجنازات واإلخفاقــات املترتبة على االنغماس في املنظومة احلقوقية، فلعل في ذلك عودة للمشــروع األساس املتمثــل بالرغبة في تطوير األداء السياســي فــي البلدان التي تعاني من االســتبداد والديكتاتورية واالضطهاد. فمن املستحيل حماية احلقوق في ظل االستبداد. 2022
Volume 34 - Issue 10827 Monday 5 December