Al-Quds Al-Arabi

عن البصيرة وهوس القراءة

عندما قابل ألبرتو مانغيل لويس بورخيس

- ترجمة:عبد اللطيف شهيد

يبلغ ألبرتو مانغيل ســتَّ عشرة ســنة بعقل تفور فيه الكلمات بشــتى اللغات، تعلَّم الألمانيــ­ة والإنكليزي­ــة على يــد حاضنته في طفولته، عندما كان الأب يشــتغل ســفيرا للأرجنتين في إسرائيل.

تعلَّــم الإســباني­ة في وقــت لاحق، عِشــقُه لــأدب الفرنســي جعله يكتســب اللغة الفرنســية، لهذا، ورغم أن أســرته لم تكن تُعاني مشــاكل مادّية، قبِل الاشتغال داخل مكتبة بجماليون المتخصِّصة بالكُتب الألمانية والإنكليزي­ة. هذا المساء عندما أنهى عملَه في المؤسســة، خرج بخطى ســريعة من شــارع كوريينتي حيث توجــد المكتبة، قاصدا شــارع مايبو رقم 994. دق جرس الشــقة 6 ب. شعر بفضول أكثر منه قلقا للمهمة التي سَــيُكَلَّفُ بها هذا المســاء. فتحت الباب خادمة كانت تدعى فاني ــ كاسم زوجة روبير لويس ستيفنســون ــ الــذي كان محَطّ إعجاب ألبرتــو، ثم ظهر رجُل يتــكأُ بأناقة على عــكازه، يضع رباط عنق أصفــر ويحمل منديلا مُعَطَّراً، إنــه خورخي لويس بورخيس، آنذاك كان عمره خمسا وستين سنة؛ كان مُؤَدَّبا ولكن مُقتَضَبا، بدون مُقدِّمات أو كلام فارغ للمجاملة.

اليوم.. كالفينو

تبعه ألبرتو، كان الكاتب يتحرك بدون صعوبة داخل المنزل حتى وصلا إلى المكتبة، أجــالَ ألبرتو عيناه كخبير على أطراف المكتبة، لم تكن رحبةً، لم يكن عدد كتبها يتجاوز ســتمئة غلاف، لكن لم يكن ينقص المكتبة أي شــيء. بورخيس كان يتنقل بين الرفوف بكل براعة ومهارة بالنســبة لرجل يعاني عســرا شديدا في البصر بلغ حد العمى. يعلم موقع كلّ كتــاب بين الرفوف. إن العمى هو الــذي جعل بورخيس يظهــر داخــل مكتبــة بجماليون ليطلــب مــن أصحابهــا، إن كان بالإمكان، إرسال أشخاص لبيته للقراءة بصوت عال حتى يُشــبِع نهــم القراءة الــذي يعتريــه. لأن أمّه السيدة ليونور هي من كانت تتكلف بهــذا الأمر في الســابق، لكن ببلوغها سن التسعين لم تعد قادرة على هذه المهمة لشــعورها بالتعــب عــن أقــل مجهــود. وهكــذا تطــوَّع ألبرتــو لإنجــاز هــذه الُمهمة لأســمى كاتب داخل جمهوريــة الأدب. وكان الكثيــر مــن الأشــخاص يتمنــون رؤيــة ميداليــة جائزة نوبل للآداب معلقة على صدر الكاتــب. كان عندما يجلس على الأريكة يمُــد كتابا لألبرتو الذي يجلس أمامه. كان يطلُبُ منه أن يقرأ بتمَهُّل، أن يحترم علامات الترقيم، لكن بدون مُبالغة في التمثيل أثناء القراءة. شرَع ألبرتو في قراءة رواية «الُمدن غيــر المرئِيــة « لإتالو كالفينو، وكان من وقت إلى وقت يشــاهد بطــرف عينه كيف كان بورخيس يتفاعل مع قراءته.. كان يومِئُ برأســه ويتتبَّع القراءة كأنه أمام أوركســترا، يسِــمُ الإيقاع برأســه. وبينما ألبرتو يلحظ الكاتب أغفَل قراءة سطرٍ، فتحرّك بورخيس بســرعة، فما كان من القارئ إلا أن أصلح الأمر توّاً. إنــه كضرير رواية «دليل تورميس الأعمى» (لكاتب مجهول( الذي كان يعد حبّات العنب عند اقتسامها، رغم أنه لا يراها.

فــي الواقــع كان بورخيس يعــرف هذه الســطور لكالفينو، هنري جيمــس، كبلينغ، جويس، شكســبير، أو ميلتــون. يعرف ذلك بذاكرته. ولكن يريــد قراءتها ولو صوتِيّا، بل هو من يعلن نهاية القراءة بإشــارة منه عندما يصل القارئ إلى نهاية المســافة التي حددها كالفينو لمدينة من مدنه الخرافية التي تخيّلَها.

هوس القراءة

ثــم يرافِق بورخيس القارئ إلــى مفصل الباب حيث تنتظره فانــي، وقبل أن يُوَدّعه يقول له بعض الجمل التي ســتظل راســخة في ذهنه كهدية ثمينــة على عمله وكنبوءة مــن الكاتب: «الكاتب هو من يكتبُ ما يســتطيع كتابَته والقــارئ عكس الكاتب يقرأ كل ما يُريد قراءتَه.»

ألبرتــو انتهى قارئا نهِماً إلى حدّ الهوَس. بعدها بســنوات ســيتوجّه ألبرتو مانغيل إلى أوروبا، حيث سيشــتغل قارئا في كبريات دور النّشــر.. دانول، غاليمار، الحروف الجديدة في باريس، وكالدير وبويار في لندن، وبعد ذلك اشتغل ناقدا أدبيا في جريدة «نيويورك تايمز» و«الواشــنطن بوســت». وأخيــرا تحوَّل إلى أكبر ناقــد عالمي لتاريخ القراءة. ســيتوفى بورخيس بعد مرور عشــرين ســنة من ذلك بدون أن يتســلم جائزة نوبل. وهذه من أكبر أخطاء الأكاديمية السويدية في تاريخها.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom