Al-Akhbar

الحكيم.. يتأمل ويحكى

-

متعة احلكى ومشاغبة الفكر وتـدفـق التعبير.. هى مكونات أساسية لكتابات توفيق احلكيم التى تشمل مسرحيات وروايات ومقاالت فلسفية وسياسية وخطرات حوارية نشرت على صفحات عشرات من الكتب على مدى ستة عقود من القرن العشرين.. ولذا إعادة زيارة عامله وقراءة كتاباته ال حتتاج الى تفسير أو تبرير.

وال شك أن احلكيم كان عظيما ومبدعا فى حواراته أو خطراته احلوارية ولعل أشهرها حواراته مع حماره وعصاه. والعدد األول من صحيفة أخبار اليوم الصادر بتاريخ ١١ نوفمبر ٤٤٩١ يحمل حـوارا أو مقاال لتوفيق احلكيم بعنوان: «حمارى يشتغل بالسياسة» وهو يتحاور مع عصاه حول دور الفنان قال: «..البـد أن يكون هناك الفنان الذى يصور دنيا الناس ليروا أنفسهم فى عمله فيزدادوا معرفة بحقيقتهم.. كما أنه البد أن يكون هناك الفنان الذى ينقل الناس إلى دنيا أخرى من صنع خياله.. ليضيفوا إلى حياتهم املألوفة حياة جديدة.. يثرون بضمها ذهنيا ونفسيا». فجاءت كلمات العصا: «نعم.. إن الفن واسع ولكن عقول الناس هى الضيقة!».

وبالتأكيد كنت محظوظا أن أكـون فى حضرة توفيق احلكيم لفترة غير وجيزة فى مكتبه بـالـدور السادس بـاألهـرام فى بداية الثمانينيا­ت وأنـا استمع اليه كثيرا وأســألــه أحـيـانـا. كنت قـد قابلته مـن قبل فـى كازينو الشانزليزي­ه باإلسكندري­ة عندما تــرددت على جلسته الصيفية هناك أكثر من مرة. وحينما رآنى بصحبة صديق من األهرام زار مكتبه لتسليم رسالة له نظر الى وقال «مش أنا شفتك قبل كده». ثم قال لى مبا انى عرفت مكتبه على أن أكرر زيارته. بالطبع لم يكن ما دار وتكرر بيننا حوار صحفى أريد أن أسجله وأنشره ـ هذا ما طلبه منى حتديدا من البداية وحذرنى منه وهذا ما كان العهد الذى قطعته على نفسي. كان األمر بالنسبة لى محسوما منذ اللحظة األولـى وهو اجللوس إليه واالستمتاع بعبقريته وخبرته فى احلياة واإلبـداع والكتابة و»أن أعيش اللحظة إياها» وليس «أن اغتنم حــوارا» أو «أن أكسب مبنطق اخطف واجرى». و»اجرى على فني» اذا كنت أريد فعال أن أكون فى حضرة هذا املبدع الكبير ووسط أجواء مكتبه وتفاعله مع زواره واملترددين عليه. وأتذكر بأننى قلت له حينذاك

ما معناه.. هو أنا حمار؟ ايه األهم؟ أن أقعد وأتعلم من توفيق احلكيم وأال أنفرد وأنشر حوارا معه؟! كان هدفى وأمنيتى أن أشتم «زهرة العمر» معه وأن أكون مع «عصفور من الشرق».. مع احلكيم الذى حرك نفوس أجيال من القراء بكتابته الرشيقة واملمتعة وحترره مع سبق اإلصرار والترصد من قيود األفكار البالية والصياغات واحملسنات اللفظية وأيضا من سالسل التعقيدات اللغوية التى غالبا ما قامت بوأد املعانى فى مهدها.

كان نفسى وقتها أن أكون مع احلكيم وهو يتأمل مصر التى أعيش فيها وأن أفهم مالمحها الفكرية والثقافية وهى تواجه التحديات وتبحث عن الهوية. كنت أريد أن أتأمل أيضا العصا التى يتكأ عليها احلكيم فى نهاية يومه وكان قد حاورها أكثر من مرة وماذا عن البيريه الذى اشتهر به. كما أننى كنت أريد وأنا أساعده أحيانا فى ارتداء معطفه وقت خروجه من مكتبه أن أتذكر تعبير «معطف جوجول» ومعه أتأمل معنى تعبير «معطف احلكيم».

احلكيم من حني حلني عندما يكون مبفرده كان يذهب الى شباك مكتبه ليطل على القاهرة من فوق.. وأحيانا يكتب سطورا على أوراق أمامه على املكتب أو يقرأ أو يعيد قـراءة سطور كتبها من قبل. وأحيانا ميد يده ليخرج من جيب جاكتته الداخلى الكراسة الصغيرة ـ النوتة التى كتب فيها مجموعة مالحظات وتأمالت دونها على فترات من عمره الطويل. وقد قرأها أحيانا بصوت مسموع وأنا أسمع واستمتع بتغريداته. الصحفى الكبير صالح منتصر توقف منذ سنوات أمـام «نوتة احلكيم» وكـتـب عـن بعض مـن مـالمـح شكلها ومضمونها على صفحات «األهرام».

لتوفيق احلكيم عالم ساحر ومبهر وهـو يحكى عن الكتابة التى عشقها وتفنن فيها وتناول بها كافة أمور احلياة وقضايا االنسان.. له حكايات أيضا عن البخل الذى اشتهر به وأيضا عن النساء الالئى اجنذب اليهن وحـاول الهروب منهن. وبالطبع وهو يحكى عن احلمار الذى اقترب منه وحتاور معه وصار صديقا له. كان حكاء عظيما فـى كـل األحـــوال.. ونعم أغلب هـذه احلكايات كنت قد قرأتها فى كتابات له أو أحاديث معه اال أن ما كان يستهوينى وميتعنى بشدة فى تلك اللحظة البعيدة (التى استرجعها اآلن) هو حماس احلكواتى وتفننه فى اثارة الدهشة وإضفاء البهجة للحظة التى نعيشها معا. حماس هذا الفنان املفكر العمالق توفيق احلكيم وهو فى الثمانينات من عمره فى حكيه وسرده وهو يذكر لى لشاب فى العشرينات من عمره ـ ما عاشه وما كتبه وما يفكر فيه وما يشعر به. وحلظات لن أنساها أبدا وهو يتحدث عن ابنه إسماعيل الذى رحل مبكرا فى حياته.. وعن الوقت الذى لم ميضه معه كأب وكان يجب أن يفعل ذلـك حسب رأيـه واعترافه.. وقـد جـاءت اللحظة التى أتذكرها حتى وقتنا هذا وأنا أشهد حشرجة ما فى نبرة صوته وهو يحكى عن ابنه الغائب.. ونعم، رأيت الدموع فى عينيه.

وعن عالقته الشهيرة باملال.. أتذكر هنا ما قاله توفيق احلكيم فى يـوم ما بعد حضور فنان نحات الـى مكتبه واحلديث عن شروعه لعمل متثال للحكيم. إذ بعد أن منا الى مسامع احلكيم الرقم املنتظر باآلالف من اجلنيهات للفنان مـن أجــل نحت التمثال قــال احلكيم بسخريته املعهودة «ما يدفعولى الفلوس وأنا أقعد بدل التمثال.. ده أنا ممكن أتكلم كمان» وكنت كثيرا ما أتأمل املشهد إياه ـ املتكرر فى مكتب احلكيم مع قدوم أى ضيف وكيف أن حسني الساعى كان يطل علينا فى املكتب وكأنه يستفسر عما يريد أن يشربه الضيف املتواجد هناك ثم ينصرف ورمبـا بإشارة من احلكيم نفسه.. وكـأن ليس هناك أى طلب من الضيف بأى مشروب.

ولعل من أطرف املالحظات التى أبداها احلكيم بعد عدة لقاءات بيننا ـ اندهاشه بأننى أرمنى األصل.. مهتم وقـارئ ألدبه واألدب املصرى بشكل عام على أساس أن األرمن الذين قابلهم من قبل دار احلديث معهم إما عن املجوهرات والصاغة واما عن األكل كأصحاب مطاعم. وكان تعليقى القصير فى ذاك الوقت للحكيم «وهل هذا يعد حكما على بأن مصيرى هو الفقر واجلوع معا» مثلما كان األمر مع كل من أدركهم األدب. توفيق احلكيم خالل تـواجـده فى باريس فى القرن املاضى كـان يتردد على «املكتبة الشرقية» الشهيرة التى كانت متلكها وتديرها عائلة أرمنية «صامويليان» فى عاصمة النور. والفنان املخرج يوسف فرنسيس فى فيلمه «عصفور الشرق» ـ

٦٨٩١ ـ زار من جديد هذه املكتبة وصـور مشاهد بها. وهذا الفيلم شارك فيه توفيق احلكيم شخصيا كما أن نور الشريف جسد شخصية الكاتب الكبير.

شووف الطيور.. واتعلم

ـ «ان للطير شرفا ليس لالنسان» هكذا كتب الشاعر الفيلسوف جبران خليل جبران ذاكرا: «فاإلنسان يعيش فى ظالل شرائع وتقاليد ابتدعها لنفسه. أما الطيور فتحيا حسب الناموس الكلى املطلق الذى يسير بـاألرض حول الشمس».

ومبا أن غناء الطيور أو أغنياتها مهما اختلفت لكناتها حتاصرنا من كل جانب فى هذا الفصل من العام و»تعانق أذاننا» وأيضا «تثير فضولنا» فال مفر من االنتباه لها وتأملها والتفكير فيها وأيضا التفكير فى دنيانا.. وفى األغانى التى تتردد بداخلنا وحولنا.

وعلينا بالطبع أن نطرح من جديد التساؤل إياه كيف أن الطيور بتغريداتها املختلفة تغنى أو تتكلم أو تبتهج أو تبكي؟ وهل لغة الطيور فى مصر تختلف عن لغة الطيور فى إيطاليا أو اليابان؟ وهل الطيور سعيدة أم حزينة وهى تغرد وتغني؟ وماذا يفعل الطير املنطوى على نفسه؟ ومتى يخرج من صمته؟ ووسط هذه التغريدات ال مفر أن نسرح بالطيور ونطير معها.. وأن نعطى خليالنا وأفكارنا أجنحة.

وقـد نصحنا موالنا جـالل الدين الـرومـى بأنه طاملا تكشف لك بأن لديك أجنحة فيجب عليك أن تطير فى السماء.. وال تفكر أبــدا فى الزحف على األرض. أما شاعرنا العبقرى صالح جاهني لم يتردد فى القول: يا عندليب ما تخافش من غنوتك.. قول شكوتك واحكى على بلوتك.. الغنوه مش ح متوتك.. إمنا كتم الغنا هو اللى ح ميوتك.. عجبي وال يفوتنى أن أتذكر ما نبه به املخرج التشيلى اليهاندرو خودوروسكى قائال: «إن الطيور التى تولد فى األقفاص تعتقد أن الطيران نوع من األمراض».

فى كل األحوال طير.. ودع غيرك يطير!!

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Egypt