مرارة الهزيمة وحالوة االنتصار
يف ذاكـــــرة مــصــر مـــخـــزون اســتــراتــيــجــي مـــن الــتــجــارب واخلبرات، مينحها الوعي املتوازن، فا تقدم على قرارات مصيرية إال إذا كان ذلك يخدم مصاحلها العليا وأمن وسامة املصريني.
ولـــو عــدنــا بــالــذاكــرة إلـــى الـنـكـسـة عـــام 1967 جنــد أن الـرئـيـس جـمـال عبد الـنـاصـر لـم يكن مـشـغـوال باحلرب مع إسرائيل، بقدر تركيزه الشديد على بناء دولـة قوية اقتصاديا، وأثناء االحتفال بعيد العمال يف مايو 1967 بـاحملـلـة الـــ ُكـــبـــرى، كـــان الــرئــيــس مـبـتـهـجـ ًا وســعــيــد ًا وهـو يستعرض نتائج اخلطة اخلمسية األولــى، واالستعداد إلنفاق 3200 مليون جنيه يف اخلطة الثانية، واستخدم النكات على غير عادته وهو يهاجم ما أسماه "أبو دقن" الــذي "يتاجر بالدين لنسف فلوس املسلمني، ويعملوا بيها انقابات".
كـــان الـرئـيـس عـبـد الـنـاصـر مـتـفـائـًا جـــدًا باملستقبل بعد أن قطعت مصر شوطًا طويًا يف محاربة الفساد، والـقـضـاء عـلـى الـرأسـمـالـيـة الـفـاسـدة واإلقـــطـــاع، وســأل ناصر عمال مصر: "أجيب لكم مصانع وال حلمة".. وقال: "قلت مصانع أنا مجبش حلمة"، ونصح الشعب بتحديد النسل ألن عدد السكان كان ذلك الوقت 30 مليونا، وبعد سبع سنوات يزيدون مبقدار خمسة مايني.
ولــــم يــتــطــرق حـــديـــث عــبــد الـــنـــاصـــر إلــــى احلـــــرب مع إســـرائـــيـــل، وإمنـــــا عـــن الـــبـــنـــاء والــتــنــمــيــة ونــهــضــة مصر وحتـسـني أحـــوال شعبها وحتقيق الـعـدالـة االجتماعية ولكن بعد مرور قرابة شهر من خطابه التاريخي، كانت املصيدة قـد ُنصبت ملصر فدخلت حـربـًا يف غير أوانـهـا، وبـــدأت املـأسـاة عندما قــام فدائيو حــزب البعث السوري بعمليات فدائية داخل املدن اإلسرائيلية، وردت إسرائيل بهجوم كبير على دمشق، فوجدت مصر نفسها يف حرب دفاعا عن سوريا وشعبها وأراضيها، وحترير فلسطني.. والشرح يطول والدروس املستفادة كثيرة وأهمها:
أ- جـيـش مـصـر يـحـمـي وال ُيـــهـــدد، يــصــون وال ُيــبــدد، لــلــدفــاع عـــن أرض مـصـر وسـمـائـهـا وبـــحـــارهـــا، ولـــم يكن مستهدفًا لــدول شقيقة أو ملوثًا يديه بدماء شعوبها، وهو دائما يناصر أي دولة عربية تتعرض للعدوان، دون أن يكون هو املعتدى.
ب- إسـرائـيـل الـتـي كـانـت ترتعد خـوفـا مـن مصر قبل 67 جتـــرأت، وتـصـدت لها قـواتـنـا املسلحة الباسلة التي أعيد بناؤها يف شهور قليلة، وكبدت العدو خسائر كبيرة يف حـرب االستنزاف، ومهدت الطريق إلـى حـرب أكتوبر املـجـيـدة، التي محت مـــرارة الهزمية واالنـكـسـار، ورفعت رءوسنا عالية يف السماء.
جـ- شباب اليوم لم يعيشوا أيام الهزمية ولم يتجرعوا مرارة االنكسار، ولم يعرفوا معنى أن ينام الوطن وقطعة غالية مـن أرضـــه ال تبيت يف أحـضـانـه، والـــذي يجب أن نتذكره اليوم هو حـاوة االنتصار وليس مــرارة النكسة، فاملشهد كـــان مــأســاويــًا ومـــروعـــًا يف يـونـيـو ،1967 وآالف الدبابات املصرية يتم تدميرها يف صحراء سيناء.
وفى ست سنوات فقط استطاع اجليش الذي ُهزم دون أن يـحـارب، أن يـحـارب وينتصر ويقتحم قناة السويس رافـــعـــا عــلــم مــصــر وســــط صــيــحــات مـقـاتـلـيـه الـشـجـعـان "اهلل أكبر. اهلل أكبر"، وشتان بني مــرارة الهزمية وحاوة االنتصار.