Al-Akhbar

مشاهد من الحملة الفرنسية

- محمد السيد عيد

هذا العام يوافق مرور مائتني وخمسة وعشرين عاماً على مجىء احلملة الفرنسية إلى مصر )1798( ، وهذه فرصة لنتعرف على األطماع األوروبية القدمية فى وطننا الغالى مصر. واحلقيقة أن هذه األطماع أقدم من احلملة الفرنسية بكثير. وفى هذه اليوميات نرصد معاً بداية هذه األطماع، ونرى كيف جتسدت بعد ذلك فى احلملة الفرنسية. املشهد األول بدأت فكرة احتالل مصر عند فيلسوف أملانى شهير، هو ليبنتز. يقول التاريخ إنه فى عام 1٦72 ذهب الفيلسوف األملانى إلى فرنسا ملقابلة امللك لويس الرابع عشر، امللقب بامللك الشمس. لم يستطع أن يقابل امللك، لكنه جنح فى مقابلة وزيره كولبير. سأله كولبير: مصر. ماذا تريد من جاللة امللك لويس الرابع عشر؟ - أريد أن أقدم له هذا املشروع لغزو قال هذا ورفع فى يده حافظة أوراق تليق بأن يقدمها مللك. لم يهتم الوزير باحلافظة قدر ما أدهشه الرد. السؤال. غزو مصر؟!! ولم مصر بالذات؟ القراءة: إسمح لى أن أقرأ ما كتبته رداً على هذا وفتح ليبنتز احلافظة، وبدأ مصر. «ال يوجد بني أجزاء األرض جميعها بلد ميكن السيطرة منه على العالم كله، وعلى بحار الدنيا بأسرها غير

ألى داع تخسر املسيحية تلك األرض املقدسة التى تصل آسيا بإفريقية، والتى جعلت منها الطبيعة حاجزاً بني البحر األبيض املتوسط والبحر األحمر، ومدخًال لبالد الشرق كلها، ومستودًعا لكنوز أوروبا والهند؟» ابتسم كولبير ساخرا وهو يسأله: والدنيوية؟ وملاذا تتحدث عن املسيحية وأنت تتحدث عن االحتالل واملصالح االقتصادية مصر ألنى أريدها حرباً صليبية جديدة. مصر. احلرب الصليبية ينبغى أن تستهدف القدس وليس لوزيره: سنصل إلى القدس من خالل رفض لويس الرابع عشر فكرة احتالل مصر. قال - إننى لم أنس ما حدث للويس التاسع فى املنصورة. لقد خسر جيشه كامًال، ووقع أسيراً هو نفسه فى أيدى املصريني، ولم يخرج من األسر إال بعد أن دفع فدية هائلة.

األوروبية؟ لكنك يا موالى غزوت هولندا وغيرها من دول أوروبا، فهل ترى أن مصر أصعب من الدول

- فعًال. إنهم حني يواجهون حتدياً يخرج الفرعون الكامن داخلهم، وال يهدأون حتى ينتصروا على عدوهم. ال يا كولبير.

لن أغزو مصر. املشهد الثانى بقيت الفكرة حية، ألن األفكار ال متوت. وحدث بعد ذلك مبائة وثمانية عشر عاماً أن كـان القائد الشاب نابليون بونابارت يحضر جلسة فى اجلمعية الوطنية، وفـى هذه اجللسة حتدث أحد التجار ويدعى «ماجللون» أمام احلضور فقال:

- حـــــــــ­ـضــــــــ­ــرا الــ «بـاسـم جتــار فرنسا فـى مصر أطـلـب أن تـقـوم احلكومة الفرنسية بعمل مسلح فى مصر، ولتعلموا أننا إذا تركنا مصر فال سبيل أبداً لالتصال بني فرنسا وبالد الهند الشرقية عن طريق السويس، وستحرمون من حاصالت البنغال.

إن غزو مصر ليس مسألة صعبة، فسواحل اإلسكندرية وشواطئ دمياط معدومة احلصون، ولن تقدر على املقاومة. أما األسطول املصرى املوجود فى البحر األحمر فيتألف من أربعني قطعة رديئة، وعدمية النظام، وهى تسافر فى كل عام إلى جدة فى شهر مارس لتحمل الصمغ والنب والتوابل، فيمكن انتهاز هذه الفرصة ودخول بعض القطع الفرنسية فى ميناء السويس لالستيالء عليها»

أكرر: إذا أردنا أن نتخلص من منافسة اإلجنليز فى الهند فال بد لنا من السيطرة على السويس والبحر األحمر، وأن نستعيد طريق السويس إلى البحر األبيض.

خرج نابليون من االجتماع وفى عينيه بريق غريب. كان واضحاً أنه يفكر فى شىء ما. سأله صديقة الذى يسير معه، وهو األب تاليران: فيم سرحت؟ ماذا؟!! أحلم باحتالل مصر. - - لم تندهش؟ إننى أحلم بأن أعيد مجد اإلسكندر. لقد بدأ اإلسكندر ذات يوم من مصر، ثم انطلق بعدها ليغزو الدنيا. - اإلسكندر؟ طموحك شديد يا صديقى. اخليال. أعرف. لكن كل األعمال العظيمة تبدأ بطموح رجل واسع

ولم يلبث احللم أن حتقق، إذ تقدم نابليون مبذكرة رسمية للحكومة الفرنسية يقول فيها:

«إذا كنا نريد القضاء على اجنلترا حقاً فيتعني علينا االستيالء على مصر. إن اإلمبراطور­ية العثمانية التى حتتضر يوماً بعد يوم تفرض علينا التفكير فى اتخاذ اإلجــراءا­ت الالزمة حلماية جتارتنا فى الشرق».

وأصــدرت احلكومة الفرنسية أمرها بأن يتولى نابليون قيادة اجليش فى أكتوبر ،1797 وفى 5 مارس 1798 أصدرت احلكومة قرارها باحلملة على مصر. املشهد الثالث بدأ األسطول الفرنسى رحلته إلى مصر فى 19 مايو 1798 .

لكن من الـضـرورى أن نذكر أن نابليون كما اصطحب األسلحة والذخائر اصطحب معه مطبعتني، ومكتبتني، وجتهيزات ملعامل علمية، وكان فى صحبته أيضاً مائة وسبعة وستون عاملاً.

وصل الفرنسيون إلى اإلسكندرية وكانت مدينة صغيرة، سكانها أقل من عشرة آالف نسمة. ورغم هذا قاومت املدينة ببسالة، حتت قيادة بطل من أبطالنا العظام، هو السيد محمد كرمي، حاكم اإلسكندرية. ووقع الشيخ محمد كرمي أسيراً. وطلب نابليون أن يأتوا له بقائد املقاومة، فأحضروا له الشيخ محمد كرمي. وكانت املفاجأة أنه استقبله مبنتهى الود واالحترام. تقدم منه وهو يقول بإعجاب:

- إسمح لى يا شيخ كرمي أن أعبر لك عن إعجابي. أنا رجل عسكرى. أعرف معنى أن يحارب الرجل معركة خاسرة، ويقبل أن ميوت فى سبيل بالده. حتياتى وتقديرى لشخصكم الكرمي. لم يصدق الشيخ ما يحدث. لكن نابليون واصل إدهاشه: - تقديراً منى لشجاعتك سأقدم لك هدية. وأخـذ سيفاً من فـوق املنضدة القريبة، وقدمه لـه: هذا السيف هدية لك منى، تقديراً لشجاعتك.

بعد قليل قال له: مـاذا تتوقع منى أن أفعل بك يا شيخ كرمي؟ كان الشيخ حائراً فعًال. لذا قال له صادقاً: ال أدرى. بلدى؟ سأجعلك حاكماً على اإلسكندرية باسمى. هل تقبل؟ - أتعاون مع الرجل الذى احتل - إذا لم تكن ترغب فى ذلك فلن أجبرك. سأعني أحد رجالى حاكماً للمدينة، لكنى أفضل أن يتولى أمرها رجل مصرى، من أهلها. فماذا قلت؟

قبل الشيخ كرمي املهمة، لكنه كان يبيت النية على شىء آخر. ولم يلبث أن أعلن التمرد، فتم القبض عليه، وترحيله إلى القاهرة. وحكم عليه باإلعدام. ودفع الرجل حياته فى سبيل وطنه. املشهد الرابع

فــى أكـتـوبـر 1798 فــرض نابليون ضريبة ظـاملـة على الــعــقــ­ارات والـــوكــ­ـاالت واخلـــانـ­ــات واحلــمــا­مــات واملـعـاصـ­ر والسيارج واحلوانيت. وقرر الشعب التحدى. ونزل اجلنرال دى بوى وفرسانه إلى القاهرة ليروا ما اخلبر؟ وفوجئ دى بـوى بأهل القاهرة يتصدون لـه، ووقــف رجـل منهم يرفع هراوته: إلى أين يا قائد الفرنسيني؟ - اخفض سالحك يا رجل واذهب، فأنا ال أريد قتالكم. أنفسكم. لكننا نريد قتالكم، ألنكم حتتلون أرضنا، وحتملوننا ما ال نطيق من الضرائب. هيا دافعوا عن

ودارت املعركة لتكون نواة ثورة شعبية فى القاهرة. وسطر التاريخ أن القاهرة التى ظنوا أنها استسلمت ثـارت دون خوف. ثار الشعب ضد محتليه وانتصر عليهم. ولم يستطع نابليون أن يتمالك أعصابه:

رحمة. لن أسمح أن ينتصر املصريون على الفرنسيني. لن أسمح. لتضرب القاهرة بالقنابل. اضربوا بال

وانهمرت القنابل على البالد والعباد وهدأت الثورة لكنها لم متت. املشهد اخلامس رحل نابليون سراً عن مصر فى أغسطس .1799 وتولى احلكم بعده اجلنرال كليبر. وفى عهده ثارت القاهرة ثورتها الثانية، فعاملها مبنتهى الوحشية. ولم يتأخر القصاص. هـاهـو شــاب ســـورى، مـن حـلـب، إسـمـه سليمان احللبي، يدرس فى األزهـر يقرر أن يقتص للناس منه. وينجح فى الوصول إلى حديقة قصره. يقترب منه على أنه شحاذ يريد مساعدة. يتأفف كليبر. يزجره. لم يبتعد الشاب. اقترب أكثر. فجأة أخرج خنجراً من ثيابه. طعنه حتت سرته. صرخ كليبر صرخة مدوية. جاء املهندس العسكرى بروتان ليرى ما اخلبر. حاول اإلمساك بالشاب، طعنه الشاب هو اآلخر. سقط بروتان على األرض. عاد الشاب لكليبر ليجهز عليه. فى احملاكمة لم ينكر التهمة. وحكموا عليه بحرق يده التى قتل بها حياً، وأن يعدم بعد ذلك باخلازوق. حلظة إعدامه كـان رابـط اجلــأش. قـرأ الشهادتني ومـا تيسر من القرآن وذهب ملالقاة ربه. املشهد األخير تولى عبد اهلل جاك مينو قيادة الفرنسيني فى مصر بعد كليبر، ألنه كان صاحب أقدم رتبة فى اجليش الفرنسى. كان مينو قبل هذا قد اعتنق اإلسالم وتزوج من مصرية من رشيد. جرت مفاوضات مع اجنلترا وتركيا لالنسحاب. خرج الفرنسيون مبوجبها من مصر فى .1801 وانطوت صفحة االحتالل وبقيت مصر.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Egypt