الثقافة المصرية منفتحة على اآلخر تاريخيا وتستطيع استيعابه
إنتاج «صبغة الطرابيش» بدًال من استيرادها.. تجربة من الماضى قابلة للتكرار «االستيراد على حساب اإلنتاج».. أهم مشكلة مصرية غائبة عن الخطاب الثقافى أغانى «سيد درويش» نموذج للخطاب الثقافى المتفاعل مع مشكالت المجتمع
> عندما تكون هناك مطالبات بتجديد اخلطاب الثقافى، فهذا يعنى أن به مشكالت، فما هى أبرزها من وجهة نظرك؟
يشير إلـى خبر كـان يتحدث عـن غـاء أسعار بعض السلع فى صحيفة كان يقرأ منها، قبل بداية احلوار، قائا: املشكلة أن املثقف ال يعبرعن مثل هذه املشكات التى يعانى منها املجتمع، فوظيفة املثقف احلقيقية املرتبطة مبعنى كلمة الثقافة هى التفاعل مع املجتمع والتعبير عن مشاكله، ومن ثم املطالبة بحلها. > وما العالقة بني ذلك ومعنى كلمة الثقافة؟ يلتقط أحد املعاجم اللغوية من رفوف مكتبته، قبل أن يقول: عندما تبحث فى هذا املعجم عن معنى كلمة ثقافة، ستجد أنها ليست فكرا فقط، كما يظن البعض، لكنها سلوك أيضا، فالكلمة جاءت من الفعل «ثقف»، فيقال مثا:»ثقف العود» أى هذبه وجعله صاحلا للعزف، وبذلك فهى تأخذ معنى تعامل اإلنــســان مــع البيئة واملجتمع، فاملثقف احلقيقى إذن، هو الذى يتفاعل مع املجتمع، ويستخدم وسـائـل الثقافة املختلفة سـواء كانت روايـــة أو مقاال أو خطبة أو فيلما سينمائيا، للتعبير عن مشاكله، ومن ثم مطالبة السلطة بحلها.
> حـــــاول الــبــعــض الـــربـــط بني اخلـــــطـــــاب الـــثـــقـــافـــى والــــديــــنــــى، فــــقــــالــــوا إن جتـــــديـــــد اخلــــطــــاب الـديـنـى ميكن أن يـحـدث عندما يكون رجل الدين لديه ثقافة حياتية.. فكيف ميكن أن يكون ذلك مساعدا فى التجديد؟
يشير بإصبعيه السبابة والوسطى، قائا بلهجة متحمسة: دعنا فى البداية نفرق بني اخلطاب الثقافى والدينى، فاخلطاب الثقافى يهتم صاحبه بالنظر للظروف املوضوعية، فليس معنى أن سعد زغلول، تصرف فى موقف ما بسلوك معني، أن أقوم بتنفيذ نفس السلوك فى عام ،2023 ألن لكل عصر مقتضايته، أما اخلطاب الدينى، فهو خطاب يهتم بالثوابت دون النظر للظروف املوضوعية.
منهج أرسطو
> لـــهـــذا الــســبــب ميــيــل الــبــعــض لــلــقــول إنــــه لن يحدث جتديد للخطاب الدينى إال إذا كــان رجل الدين مثقفا؟
يومئ باملوافقة قبل أن يقول: ميزة أن يكون رجل الدين مثقفا، هو أنه سيستخدم منهج أرسطو فى التفكير بشكل صحيح، فهذا املنهج يبدأ بالبحث عن العلة أى السبب و»إذا عرف السبب بطل العجب» كما تقول األمثال الشعبية، وإذا فشل اإلنسان فى معرفة السبب، يلجأ لتحكيم العقل، وأخيرا يأتى «القياس»، ولكن ما يحدث هو أن رجل الدين ال يستعمل غير «القياس»، فيغفل البحث عن العلة وحتكيم العقل.
ومشكلة هـذا النهج، أنـه يشل التفكير، حيث سيسعى رجــل الـديـن دومــا عندما تعرض عليه مسألة ما، إلى تشغيل منهج القياس بالبحث عن شبيه لها فى القرآن والسنة، دون أن يجهد عقله بالبحث عن العلة وحتكيم العقل.
> وما هى مصادر املعرفة التى تعني رجــل الـديـن على التفكير بهذه الطريقة؟
تـــخـــرج الــكــلــمــات مـــن فمه سريعة قائا: املثقف رجل واسع املعرفة، ال يقتصر إطاعه على اجتاه واحد فقط، لكنه يقرأ فى األدب والتاريخ والسياسة والفن وغيرها، ورجــل الدين املجدد، هــو الــــذى ال يقتصر إطـاعـه على ما جاء فى الكتاب والسنة، ولكنه يكون واسع الثقافة، حتى يستطيع فهم مشاكل املجتمع فهما صحيحا، ويخرج بخطاب دينى حديث يتفاعل معها.
وبــاملــنــاســبــة، آيــــات الــقــرآن الكرمي، تدعو لهذا املنهج، فقد خلصت إحدى الدراسات إلى أن 70 فى املائة من آياته، كانت فى األخـــاق، و03 فـى املـائـة فقط فى العبادات، وهذا يعنى أنها كانت متفاعلة مع املجتمع.
املثقف العضوى
> مبا أن احلديث عن مشكالت املجتمع وقضاياه هــــى الــــتــــى تــــفــــرق بــــني املـــثـــقـــف احلـــقـــيـــقـــى وغــيــر احلقيقى.. ما هى املشكلة األبرز التى كنت تتوقع اهتماما من املثقفني بها؟
يشير بسباته قائا: دعنا فى البداية نسمى األمور مبسمياتها، فا أفضل استخدام مصطلح «مثقف حقيقى» و «مثقف غير حقيقى»، ولكن يوجد «مثفف عـضـوى» و»مثقف غير عضوى»، واألول هو الذى يهتم مبشكات املجتمع ويتفاعل معها ويضع لها حلوال ويطرحها على الرأى العام، ومن بينها السلطة احلاكمة، أما الثانى، فهو الذى ينأى بنفسه عن الضجيج، وينشغل بقضايا بعيدة عن مشاكل املجتمع.
ولألسف، فإن فئة املثقفني العضويني أصبحت نادرة للغاية، لذلك غاب عن اخلطاب الثفافى كثير من مشاكل املجتمع وهمومه، مثل مشكلة االعتماد على االستيراد على حساب اإلنتاج احمللى، فهذه القضية هى أسـاس أزمتنا االقتصادية، والسبب الرئيسى فى أزمة النقد األجنبى وارتفاع األسعار، ورغــم ذلــك لـم يتم التعامل معها ثقافيا، سـواء مبسرحية أو فيلم سينمائى أو روايـــة أو حتى مقاالت.
> ومـا هى الرسالة التى تنتظر أن تركز عليها تلك الوسائل الثفافية فى هذه القضية؟
بلهجة متحمسة يــقــول: فــكــرة االسـتـسـهـال، فأصحاب رأس املال وجدوا أن أسهل طريقة للربح، استيراد سلعة مثا بعشرة جنيهات وبيعها بـ»51 جنيها»، والسؤال الذى ميكن معاجلته ثقافيا: إذا كانوا ميلكون املال لاستيراد، ملاذا ال ينفقونه فى إنشاء مصنع لإلنتاج احمللى للسلعة.
> لـــأســـف فـــــإن خــطــابــنــا الـــثـــقـــافـــى صـــار»غـــيـــر عضوى»، فأصبحنا مشغولني باستدعاء قضايا من املاضى، مثل اجلــدل حـول آراء الشيخ الشعراوى، وإقامة نقاش حولها...
بلهجة سـاخـرة يـقـول: هــذا نــوع مـن «الفلس» والـهـروب، فاملثقف الـذى نحتاجه هذه األيــام هو «املثقف العضوى»، الذى يهتم باملشكات القائمة حاليا، ويطرح من خال قراءاته حلوال لها، بغض النظر عما إذا كانت هذه احللول، ستجد قبوال لدى السلطة القائمة أم ال.
> رمبـا يخشى البعض حــدوث صــدام أو مشاكل بسبب التفاعل مع املشكالت احلقيقية؟
يأخذ رشفة من املاء، قبل أن يواصل احلديث وقد تخلى عن نبرته الساخرة: األمر يتوقف على لغة احلـوار، حيث يستطيع املثقف باستخدام لغة هادئة ال تتضمن ألفاظا جارحة توصيل رسالته وتصوراته حلل املشاكل.
> لو أردنـا أن نستلهم من قراءاتك حلوال ألهم
مــشــكــلــة مــــن وجـــهـــة نــــظــــرك، وهـــــى اإلســــــــراف فـى االستيراد، ماذا تقول؟
تظهر مشاعر احلماس على وجهه وهو يقول: سأعيدك إلى جترية محمد على باشا، مؤسس مصر احلديثة، مع سلعة «صبغة الطرابيش»، فالرجل بعقليته التجارية، ألنه فى األصل تاجر دخــان مـن ألبانيا، جــاء إلــى مصر فـى ظـروف إخــراج احلملة الفرنسية، وكــان مدركا ألهمية أن تـكـون منتجا، ولـيـس مــســتــوردا، فـوجـد أن مصر تستورد بكميات كبيرة «صبغة الطرابيش» احلمراء، فسأل عن مصدر هذه الصبغة، فعرف أنها تأتى من نبات اسمه «فوه»، فجلب بذور هذا النبات، ومتت زراعته فى املنطقة التى تعرف اآلن بنفس اسـم النبات، وهى «فــــوه» فـــى كـفـر الــشــيــخ، كما اهـتـم ايـضـا بـزراعـة «الكركم» لـــلـــحـــصـــول عــــلــــى الــصــبــغــة الـصـفـراء، و»النيله» للحصول عـلـى الـصـبـغـة الـــزرقـــاء.. ومـا أحوجنا أن نعود لهذه الثقافة «ثـقـافـة اإلنـــتـــاج»، وهـــذا ليس معناه، العودة إلى القطاع العام، حتى ال يقول البعض إن الزمن جتـاوز ذلـك، ولكن تكون لدينا مصانع لرجال أعمال ينتجون محليا السلع الـتـى نحتاجها، السيما االستراتيجية منها.
استيعاب اآلخر
> مبا أنك طرحت جتربة من عصر محمد على، وهو رجل فى األســاس غير مصرى، فهل هـذا يعنى أننا قــادرون عــلــى اســتــيــعــاب اآلخــــــر، مـــع االحـــتـــفـــاظ بـالـهـويـة املصرية؟
يومئ باملوافقة، قبل أن يقول: مبا أننا نتحدث عن جتديد اخلطاب الثقافى، فمن األمور املهمة هو القدرة على االنفتاح على الثقافات املختلفة مع االحتفاظ بالهوية املصرية، واستيعاب املصريني حملمد على، وهو غير مصرى، منوذج واضح على ذلك، وهذا يعود فى البداية إلى املوقع اجلغرافى، فمصر تقع فى منطقة جغرافية وسيطة، ولديها مناخ معتدل طـول الـعـام، وجعلها ذلـك مقصدا للغرباء املـجـاوريـن وغـيـر املــجــاوريــن، ولــم يكن املصريون يأخذون موقفا من القادم، بل إن هذا القادم عندما يريد أن يستقر فى مصر، يتخلى بالتدريج عن ثقافته ويندمج فى ثقافة املصريني وال يصبح غريبا، بدليل أن هناك عائات أصلها قد يكون كرديا أو مغربيا أو سوريا، وال تشعر
أنهم غير مصريني، وهذا دليل على أن الشخصية املصرية بطبيعتها معتدلة وغير متطرفة.
> عــــــــودة لــــلــــرابــــط بـــــني اخلــــطــــابــــني الـــديـــنـــى والــثــقــافــى، وســـؤالـــى: ألــيــس مــن املـفـيـد أن يكون رجــل الــديــن ملما بـهـذه الــــدروس الـتـاريـخـيـة فى اسـتـيـعـاب اآلخــــر، حــتـى يـسـتـطـيـع إنــتــاج خـطـاب مختلف ؟
بنبرة صوت حزينة يقول: لألسف ثقافة رجل الدين لدينا ال تتجاوز الكتاب املقدس، وهذا ال يجعله قادرا على الفهم احلقيقى ملا فى الكتاب املقدس، فمثا عندما يقول القرآن الكرمي «لكم دينكم ولي دين»، وعندما يقول
َُ «فـمـن شــاء فليؤمن ومــن شـاء َفـلْـيـْكـُفـْر»، فـهـذه دعـــوة لقبول اآلخـر، ولكن ال تفهم مثل هذه اآليــــات الـفـهـم احلـقـيـقـى، ألن رجـــل الــديــن ال يـحـمـل خلفية ثقافية تعينه على ذلك.
> تقصد أن تقول إن الثقافة ســـتـــســـاعـــد رجـــــــل الـــــديـــــن عــلــى الفهم الصحيح آليات القرآن؟
بالضبط، فمشروع مثل حياة كرمية، حتى يتحدث فيه رجل الــديــن، ويـبـني للناس أهميته، يـحـتـاج إلــى ثـقـافـة تعينه على استخراج آيات من القرآن تؤكد أهـمـيـة هــذا املــشــروع، وبـذلـك يــكــون رجـــل الـــديـــن، هـــو ذلــك «املثقف العضوى» الذى يتفاعل مع قضايا مجتمعه.
فن سيد درويش
> أحد الكتاب استند إلى أن فنان الشعب سيد درويش كان يحمل لقب شيخ، وتساءل ما املانع أن يـتـذوق رجــل الـديـن املـوسـيـقـى، بـل واعـتـبـر حـدوث ذلك من عالمات التجديد.. هل توافقه الرأى؟
سـيـد درويــــش حـصـل عـلـى لـقـب شـيـخ بعد تخرجه فى املدرسة الدينية التابعة ألحد مساجد اإلسكندرية الشهيرة، كما أنه درس ملدة عامني فى األزهر الشريف، وبعيدا عن خلفيته الدينية، فقد كانت أغانية منوذجا لـ «املثقف العضوى» الذى يتفاعل مع مشكات املجتمع، فمثا انتقد التوجه نحو االستيراد من اخلـارج، عندما قال «لــيــه عـفـشـى مــســتــورد وأنــــا جنـــار دوالــبــكــم»، وكانت سينما تلك الفترة أيضا كسينما «جنيب الـريـحـانـى» قائمة أيـضـا على انتقاد األوضــاع االجتماعية، وليس عيبا محاولة استلهام مثل هذه التجارب من املاضى، ونحن نحاول تقدمي حلول للحاضر.