Al-Akhbar

سيرة موالنا أحمد الطيب

- د. محمد أبوالفضل بدران badranm@hotmail.com

من النادر أن يتحدث موالنا الشيخ األكبر أحمد الطيب شيخ األزهر عن نفسه فقد تخلى عن األنا إذ َهّذب النفس ما استطاع إلى ذلك سبيال، ولذا فهو الزاهد عن اقتدار ومن يره جالسا بجلبابه البلدى على «دكة» فى ساحة جده الطيب بجوار شقيقه األكبر شيخنا الشيخ محمد يدرك قيمة هذا العالم خريج جامعة السربون الذى وهب وقته كله للدعوة وإلصالٍح بني الناس؛ ولذا لم أستغرب حينما رأيتُه باجللباب فى الروضة الشريفة بني الناس؛ فى الشهر املاضى ذهبت إليه مساًء مع أصدقائي، استقبلنا بترحاب شديد وأصّر أن يقف للسالم ثم أجلسنى بجواره على الّدّكة، يحكى عن «الكتاب» الذى حفظ فيه القرآن الكرمي وكيف كانوا يغدون من الفجر فى حضرة شيخ ُّ الكتابيحفظ­هم ويسمع لهم حتى بُعيد العصر؛ وبينما كان يحكى هّب فجأًة واقفا عندما أبصر أخاه األكبر الشيخ محمد قادما، وقف احتراما وتوقيرا ألخيه ليضرب لنا املثل والقدوة، طلب منه أخـوه اجللوس بإحلاح قائال له: أنا حلفت أال تقف لي، لكنه يصر على القيام ألخيه توقيرا واحتراما حتى يتخذ أخوه مجلسه ، هكذا تكون القدوة، حتدث موالنا عن املـرأة بكل تقدير واحترام وعن ظلمها فى عـدم تزويجها إال من أبناء قبيلتها عند بعض القبائل ورآه «الـوأد العصري» ثم أردف «إن كان لهؤالء أب غير آدم فليفعلوا ذلك»، وطالب بدور املثقفني واملتعلمني ودور اجلامعات فى القضاء على هذه الظاهرة التى تخالف النقل والعقل. كانت أكواب الشاى والينسون تلف على احلاضرين فى الساحة واألحاديث تترى، وإذا حتدث أخوه األكبر توقف منصتا، أي أدب هذا وأية قدوة نراها وجنلس بجانبها، لقد كان الناس يسألون حوائجهم ويحلها باتصاله تليفونيا مبن ميلك قـرار احلل (تليفونه تليفون بزراير صنع فى القرن املاضي) ويستدعى أطراف املشكلة؛ وألن الساحة ال يحكم فيها إال بالعدل فإن الناس تلجأ إليها مرتضني مسبقا حكمها ويتباركون بهذه الساحة املباركة، لقد كـان أبوهم شيخنا الشيخ محمد يدعو دائما «اللهم أعِط كّل سائٍل ُسْؤلَه» تبدأ جلسات الصلح وحل املشكالت العويصة فى يسر وعدل بينما يقف أبناؤهم يخدمون زوار الساحة فى ترحاب وكرم أصيل ويأتى الطعام ليجلس موالنا الطيب وشقيقه جنبا إلى جنب املريدين وضيوف الساحة يأكلون معهم ويحادثونهم فى أثناء األكل «إن احلديث من القرى»

أهدانى موالنا كتابا صدر عن سلسلة الثقافة اإلسالمية بعنوان « من دفاترى القدمية» ضمنه مقتطفات من سيرته الذاتية معتذرا فى تواضع نـادر عن سردها قائال: «أبـدأُ باعتذارى للقارِئ الكرِمي عَّما قد يبدو ِمن بِني الُّسطوِر ِمن حديث عن النفس- تصريحا أو تلميحا- قد ال تهم القارئ ُّ ‪ُُّ ًُ ًِ‬ معرفته، أو ال يستحق- فى نـظـره- أن يكون محل رضا ‪َِّ ٍُ‬ ََّّ ُِ وتقدير...ولدتفى منزل بسيط، يتصل به مبنى فقير يسمى «الساحة»، وهو أشبه بعنبر كبير يؤوى إليه الفقراء والعباد ‪ُِ ََّ‬ ُِ واملنقطعون، ويلتصق به مسجد متواضع مفروش باحلصير ٌِ املتخذ من نبات احللف، وكان ملمس احلصير قاسيا يؤثَر فى وجوه َّ املصلنيفيخ­رجون وقد علق الغبار بجباههم، وارتسمت فيها تعاريج غائرة من أثر السجود على هذا الفراش. ولم تكن َُّ مهمةالساحة قاصرة على استضافة الغرباء وأبناء السبيل، بل كانت أشبه بساحة قضاء تعقد فيها جلسات الصلح بني ‪ِّ َُ‬ العائالت املتخاصمة، وكـان املكمون- وأغلبهم أميونُِ يتمتعون بحنكة خاصة ومـهـارة عالية فى وزن املشكالت َّْ وتقييمها؛ ألن كلمة واحدة غير محسوبة من أحد الفريقني املتخاصَمني قد تشعُل نيراًنا ال تنطفئ إال بالدماِء... الساحة واملعبد وميضى الدكتور أحمد الطيب ساردا ذكرياته عن ساحة جده العامرة:» وعلى مسافة كيلو متر تقريبا من موقع الساحة واملسجد، يطل من اجلهة الغربية- ومن بني أحضان جبل عال- معبد حتشبسوت، أو «الدير البحري» فى شموخ صامت يتحدى الزمن منذ خمسمائة وثالثة آالف عام تقريبا، وهو معبٌد جنائزٌي شَّيَده املهندُس «سننموت» ِمن (أبناء أرمنت) للملكة حتشبسوت.. وينفرد هذا املعبد بطراز معمارى وحيد ‪ٍُِ ُُْ‬ من بني سائر املعابد الفرعونية فى ُطول مصر وعرضها، ويقع فى ثالثة طوابق، والطابق الثالث منحوت فى بطن اجلبل على خالف املعابد األخرى؛ فإنها تبنى وتشيد وال تنحت فى ‪َِّ ََّّ‬ ‪ُّ َُ‬ َِْ ِِ الصخر. وكان وقوع املسجد والساحة على رأس الَّطريق املؤدى ِّ للمعبد مغريا لراكبى الدراجاِت ِمَن الَسائحني لالستراحِة فى ََّ ًُ الساحة، وشرب املاء والشاي، واملشاركة فى الَّطعام البسيط ُِ أحيانا، وبعضهم كان يعود ليًال ويحضر مجالس الذكر. ومن ًِِ ‪ٍُ َُ‬ هؤالء من دخل اإلسالم متأثرا بإيحاءات غامضة انبعثت فى خاطره وقلبه من هذا كما حَّدثنى أحُدهم فيما بعد. ويحكى الشيح الطيب عن أسرته وعن بداية التحصيل ٍَِ العلمى «أنتمى إلى أســرة عرفت َّ بالتدين،وعرف لها أهل القرية- والقرى املجاورة- مرجعيتها فى الدين، وأيضا فى األحداث االجتماعية التى كانت تشغل الناس أيامئذ؛ فقد كـان والــدى ِمــَن الُّشيوِخ الذين أُّمتــوا تعليمهم فى األزهــِر ُِ الــقــدمي، وكــان والـــده أيـضـا شيخا أزهـريـا مهيبا. وكانت ‪ََّّ ًَُ ُِِ‬ ‪ُّ ُُ‬ الظاهرة الغريبة فى هـذه األســـرة هى الـعـزوف التام عن الوظائف ‪َّ َّ‬ الرسميةالت­ى تتاح ألمثالهم ممـن َّ تخرجوافى األزهر فى ذلك الوقت...وهكذا لم يشأ اجلد بعد أن أنهى

فترة املجاورة فى األزهر أن يسعى وراء الوظائف َّ العامة،بل َُ ‪َُ َِ‬ حزم كتبه وأمتعته وعاد إلى قريته (القرنة)- على البر الغربى من مدينة األقصر- مكتفيا مبا تدره عليه قطعة األرض التى َُ ُِ ُِّ ميتلُكها، وُمفرغا نفسه لتعليم الناس وتنويرهم ومساعدتهم ََِّ على حل مشاكلهم األسرية واالجتماعي­ة، وملتزما بالعبادة التى لم تكن لتفارقه ليال وال نهارا. ومن الصور املفورة فى ذاكرتى صورة هذا «اجلد» الَّطاعن فى السن وهو محمول ٌِ إلى املسجد، ومسبحته ُّ تلتفحول يده النحيلة َُِْْ املعرورقة، َِ والناس يزدحمون من حوله ليسمعوا منه مشورة أو فتوى ‪ِِ ًََّ ُُ ََّ‬ فى الدين...ثم جاء دور الوالد، فحاول أن يتقدم المتحان العاملية بعد أن تأهَل لها قرابة خمسة عشر عاما فى حلقات األزهِر الَّشريف، إال أن اَجلَّد أوَصد الباَب فى وجهه بعبارٍة حاسمة: إن تقدمت المتحان العاملية، فأنا غير راض عنك ال ُِ فى الُّدنيا وال فى اآلخرِة!. ولم يكن أماَم الوالد إال أن يَْسلك نفَس الطريِق الذى سلََكه اَجلُّد...وقد كان «وميضى الشيخ الدكتور أحمد الطيب متحدثا عن تصوف آبائه وأجداده وعن الطريقة اخللوتية التى ينتمى إليها فيقول: «وِمن ُحْسِن حَّظى أَّن «الَّتصُّوَف» الذى تفَّتَحْت عليه مـدارُك طفولتى لم يكْن ٌُِ تصوفا نظريا يهيم فى الالمعقول، أو من هذا النوع الذى ‪ًِّ ُُّ‬ ‪ِِ ًِ‬ يروج للخوارق والكرامات، أو يعتمد على الدعاوى للتكسب واالرتزاق، بل كان «تصوفا» منضبطا- بشكل صارم- بأحكام الشريعة شكًال ومضمونا.وبرغم أن مكتبة «الوالد» كانت تزخر بكتب التصوف- وفى مقدمتها «إحياء علوم الدين»- إَّال َِّ أن الكتب التى اضَطلع بتدريسها للناس فى املسجد لم تتعد كت َب الفق ِه املالك ّي، وكت َب احلدي ِث ال َّشري ِف... وكنت أُال ِح ُظ عليه حتكيَم الَّشريعِة فى التصوف ووزنه بها، وكان يتصدى ‪َِِّ ِْ‬ ُِّ للَّدْروشة التى تخرج على حدود الشرع، ويصفها بأنها من وحي الشيطان. وملا تقدمت بي السنون علمت أن الَّطريقة ‪َُ َِّ‬ ََّ الصوفية التى اهتم- هو ووالده- بنشرها فى ربوع الصعيد تشترُط فى شيوخها أن يكونوا من علماء الشريعة، وعرفت أَّن ِمن شيوِخها َمن كان شيًخا لإلسالِم؛ كالَّشيِخ أبى املكارم ُمحَّمد ابن سالم احلْفنّي (ت =ـه1181 )م1768 ويكفى أن الشيخ أحمد الدردير (ت. )م1786=ـه1201 الفقيه املشهورأحد شيوخها، وهو صاحب املصنفات الفقهية التى تدرس َُِ َِّ فى األزهر وفى اجلامعات اإلسالمية حتى وقتنا هذا...وقد كانِت الَّضوابط الَّشرعية مبثابة تصحيح مستمر للسلوك فى ‪ٍِّ َِِ‬ ِّ َُِّّ هذه الّطريقة، بناه على أساس من القرآن والسنة النبوية، َُّ وحال بينه وبني اخلروج على أوامر الشريعة ونواهيها. وقد عاصرت بنفسى أبناء هذه املدرسة فى بساطتهم والتزامهم بالكسب احلالل، وتفانيهم فى مساعدة الناس، إلى جانب َِّ العبادة والذكر، وتصفية القلب وتهذيب النفس، ورأيت بنفسى

أموًرا حَدثْت على أيدى الَّصاحلني منهم ال يَقِصدون إليها، وهى ِم َن الغراب ِة بحي ُث ال يَُص َد ُقها َمن لم يُشا ِهدها، ولكن أ َّنى للعاقل أن يتشكك فى يقني رأته عيناه وحارت فى تفسيره كل ِْ قواعد املنطق التى حصلها فى أروقة املعاهد واجلامعات؟! التكوين العقلي استطاَع بعُض أصدقاِء والدى أن يقنَعه بأْن أَْسلُك نظاَم الَّتعليِم العام، وفعًال َّمتِت الَّترتيباُت الَّالزمُة، وشراءُ الَّزَي اخلاَص باملدارس، لكن والدى غَّيَر رأيَه فجأة فى صباح اليوم الذى بدأت فيه الدراسة، وبدل أن أذهب إلى املدرسة ذهب َُّ ٍَََ ِِ ِّ بى إلى مكتب حتفيظ القرآن الكرمي، وكان يُسَّمى «الكتاب» ُْ ويسمى املـفـُظ «اخلـطـيـب»؛ ألنــه كــان يخطب اجلمعة. ََ وهكذا كان القرآن الكرمي هو أول عناصر التكوين العقلي والنفسي فى غالبية أبناء القرى فى ذلك الوقت، يقضى أغلَبِ يومه مع هذا الكتاب الكرمي؛ فالدراسة تبدأُُ مبكرة مع ُِ شروق الشمس، والبساطة الشديدة هى القاعدة أو الطابع الَّسائُد؛ حيُث يَجلُس الَّتالميُذٍ الَّصغاُر على األرض، بينما ِِ ُِِ يجلس «اخلطيب» على «حصيرة» وإلى جواره أدوات التأديب التى ال تتوانى فى التعامل مع أي تلميذ يقصر فى حفظ املقرر، أو يحاول اخلروج على الئحة السلوك املتعارف عليها ‪َِ ُِ‬ فى «الكتاب».وال أنسى درس الوصايا الذى كان يتلى علينا ِّ َُ فى نهاية اليوم الدراسي قبَل االنصراف مباشرة، وأذكر من ‪َِ ِّ‬ هذه الوصايا تقبيَل يدي األم واألب، وأن أقول لهما: «نعم، حاضر»، وأن أَخ ِف َض صوتى بحضر ِتهما، وأن أقرأَ «املا ِض ِي»؛ وهو الَقْدُر املتراكم الذى َّمت حفُظه ِمَن الُقْرآِن، وكان علينا أن نذهب دون إفطار لنبدأ فى حفظ اللوح وتسميعه على ‪ٍِِ ََََْ‬ ُِ اخلطيب، وكان االعتقاد السائد أن احلفَظ قبل اإلفطار يثبت ُِ فى الرأس وينتقش فيه. وبعد التسميع نؤمر مبسح األلواح، َِّ ُِ وكتابة القدر اجلديد الذى ميليه اخلطيب ثم تأتى عملية «التصحيح»، وهى عملية مرعبة؛ ألن اخلطأ فى اإلمـالء ‪ٌَِّ َُّ َِّ‬ ‪َِّ َُ‬ يُعّرض التلميذ للضرب على الَّظهر أو األقدام، ومن املستغرب َِّ ََّ أن اخلطيب لم يكن يصفع التالميذ على وجوههم، ولعل هذا ‪ًْ ََّّ‬ التقليد كان مقصودا، أو هو أثر للحديث الشريف الذى يأمر ُُُ ِِ بتجنب الوجه فى الضرب للتأديب. وبعد التصحيح يسمح ُِ لنا باإلفطار، ثم يبدأ احلفُظ والــقــرا­ءة والتسميع وتعلم الهجاء وشيءِ من قواعد احلَساب، ويستمر احلال هكذا إلى َِِّ ما بعد الُّظهر. فإذا ما عاد التلميذ للمنزل. وأَكل واستراح َِّ قليَال، فعليه أن يبدأ رحلة املساء مع احلفظ مرة أخرى إلى املغرب ...وقد استطاع هذا النمُط من التعليم- على فقره ومحدوديته- أن يقّوَم لسان الَّطفل منُذ نُعومة أظفاره فى نطق الكلمات ومخارج احلروف، ويكسبه القدرة على النطق ‪ُِ ُُ‬ الصحيح، وهى ميزة تتميز بها األلسن التى حفَظت القرآن»

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Egypt