Al-Akhbar

شرعـيات متناقضة فى األمم المتحدة

-

ال نخال أن األمني العام لألمم املتحدة السيد أنطونيو غوتريش واجه ظروفا صعبة ومعقدة طيلة واليته على رأس أكبر منظمة دولية، كتلك التى عاشها خالل الشهور القليلة املاضية، وميكن اجلـزم أن قلة من سابقيه الذين يعدون على رؤوس األصابع عاشوا فترة قاسية من والياتهم كتلك التى عاشها خلفهم، وميكن املجازفة بالقول أكثر إن منظمة األمم املتحدة ميكن أن تكون خبرت طوال حياتها حلظات قليلة ونادرة ظروفا صعبة كتلك التى ال تزال جتتازها فى املرحلة الراهنة.

غوتريش ابن اليسار األوروبى التقليدى لم تنجح اإلكراهات الصعبة التى حتيط مبهمة األمني العام لألمم املتحدة والتى فرضتها إرادات القوى الكبرى شروطا رئيسية فى تولى هذا املنصب األممي، فى كبح جماح الرجل فيما يتعلق بتفاعله مع ما يجرى فوق أراضى غزة. وكان الفتا أن مترد الرجل على اإلكراهات وأعلن جهارا اختالفه مع القوى الكبرى فيما يتعلق بالتطورات هناك، ويكاد يكون األمر سابقة فى تاريخ هذه املنظمة التى متيز مسار أمنائها العامني السابقني بالتوافق املطلق مع إرادات معينة، إال فى حاالت نادرة وقع االختالف بشأنها فى التقييم.

القوى العظمى بقيادة الواليات املتحدة األمريكية وعلى ميينها و يسارها ومن خلفها بريطانيا وفرنسا وأملانيا وإيطاليا وكندا، وكل من تبقى من حلف الغرب، لم تدخر جهدا فى تعطيل الشرعية الدولية ملعاجلة قضية إنسانية كونية تتعلق بجرائم إبادة حقيقية تقترف ضد اإلنسانية فى جزء من خريطة العالم. ولم تكتف هذه األطراف بتوفير التغطية الدولية ملا يقترف ضد البشرية، بل وفرت لذلك جميع أدوات اإلبادة من مال وسالح وجند وذخيرة بسخاء كبير جدا، وطوقت مجتمعاتها بقرارات طارئة متنع التفاعل وحتى التعبير عن الرأي، وأحكمت قبضتها على وسائل اإلعالم. وبكل هذا الدعم غير املشروط تكون هذه القوى قد وفرت عن وعى وعن سبق إصـرار وترصد وعن عمد الظروف املناسبة واملريحة القتراف جرائم إبـادة حقيقية ضد البشرية. وكان الفتا أن األمني العام لألمم املتحدة بدا عصيا على التطويع من طرف هذه القوى وجهر مبواقف مختلفة ومناقضة، إلرادة اجلهات التى حتسم فى الشخص الذى يجلس على كرسى املسئول األول عن منظمة األمم املتحدة، بأن انتقل بآالف الكيلومترا­ت إلى حيث مينع املاء والهواء والـدواء على املواطنني ليعلن معارضته الواضحة لسياسات احلصار والتجويع، ومن مقر األمم املتحدة أعلن غير ما مرة عن معارضته للحرب وطالب بوقف فورى لها وبإطالق سراح جميع الرهائن. وحينما توقف اآلذان أخرج سالح القانون بأن استخدم مقتضى من ميثاق األمم املتحدة يتيح له استثناء، مخاطبة مجلس األمن الدولى وإثارة انتباهه إلى أمر يضر باإلنسانية، فى سابقة لم تتكرر فى تاريخ األمم املتحدة إال مرتني. ومع كل ذلك لم تتغير احلقائق التى فرضتها القوى العظمى التى بحكم كل ما سبق متورطة فيما يقترف من جرائم إبادة حقيقية ضد اإلنسانية.

هذه التطورات الكبرى كشفت الوجه اآلخـر ملنظمة األمم املتحدة، وساهمت فى ذلك بقوة كبيرة األحداث املتسارعة فى غزة من جهة، ولكن الذى زاد فى وضوح مشهد هذه الصورة اجلديدة هى مواقف األمني العام لألمم املتحدة املؤمتن على سير وحتقيق العدالة بالنسبة للشرعية الدولية.

صورة تكشف التباين بني مفهومني مختلفني للشرعية الدولية، مفهوم داخلى يتمثل فيما يجب أن تقوم به األجهزة األممية ومسئولوها، وهذا ما جتلى من خالل ما صدر عن األمني العام لألمم املتحدة جتاه ما يقترف فى غزة، ومفهوم خارجى متثل فى مواقف وتصرفات القوى الغربية العظمى، التى فرضت صيغة معينة لهذا املفهوم وقراءة واحدة ووحيدة له، ولم جتد صعوبة، وال أدنى حرج، فى إخضاع أجهزة األمم املتحدة، خصوصا مجلس األمن الدولى لهذه القراءة واالمتثال للصياغة األحادية ملفهوم الشرعية الدولية.

فى خضم هذه التفاعالت الصعبة يجد العامل األخالقى موقعا متقدما له، متجسدا فى إمكانية التعايش بني مفهومني متعارضني ومختلفني للشرعية الدولية، وفى استمرارية املسئول األول عن منظمة األمم املتحدة فى ممارسة مهامه مبا يتعارض مع قناعاته املعبر عنها، ليس فقط فيما يتعلق بشخصه، ولكن أيضا فيما إذا كان املفهوم اخلارجى للشرعية الدولية ال يحتمل أمينا عاما من هذه الطينة يتمرد فى الوقت الذى يطلب منه االمتثال وتنفيذ اإلرادات املمالة. وحتى وإن وقع التريث فى إلغاء هذا النموذج، فإن مرحلة احلسم قريبة، وآنذاك ستلقى الشرعية اخلارجية بنظيرتها الداخلية خارج بناية مقر األمم املتحدة .

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Egypt