أمريكية مع أولياء الله

فاليرى فى صعيد مصر فى صعيد مصر حيث يذهب السائحون ليروا حضارة مصر القدمية دون أن يلتفتوا إلى مصر املعاصرة تسافر امرأة أمريكية إلى مناطق وعرة حيث اجلبال والثأر والقبلية، لكن HOFFMAN .VALERIE J فاليرى هوفمان األستاذة بجامعة إلينوى فى كتابها عن التصوف والصوفيني واملقدسني فى مصر احلديثة تذهب إلى أسيوط وإلـى قنا واألقصر وجبل حميثرا، حيث تطوف بـاألضـرحـة وتلتقى الشيوخ حتاورهم لكى تكتب لنا هذا الكتاب املمتع الذى قَّسَمته إلى عدة فصول تدور حول التصوف فى عصر التغير وجتارب الصوفيني وأساليبهم ومناهجهم ومــدى تأثير آل البيت الروحى فى املصريني ثم تتناول األولياء والُّطرق الصوفية وأسسها ومفاهيمها ودور املرأة فى التصوف؛ تورد أمثلة من األولياء كالشيخ أحمد رضوان (ت )1967 ودوره فى التصوف املعاصر فى الصعيد حيث التقت الكاتبة بابنه الشيخ محمد الذى حتدث لها عن جتربة والده الروحية ومراحلها الثالثة «اجلذب والعلم واالطمئنان» حيث درجة الوالية ثم حتدثت عن الشيخ محمد الطيب احلسانى (ت )1988 الذى زارته فى أيامه األخيرة بخلوته فى القرنة غرب األقصر حيث ذكرت أنه ميثل املتصوف الزاهد الـذى يعيش معظم أيـام السنة صائما يتقوى على رشفات من اللنب وكيف أنه عالم وذكرت أن معظم الصوفيني يعدونه قطب العصر بعد وفاة الشيخ أحمد رضوان وقد حضرْت إحدى مجالس الِّذكر وقالت إن طريقته اخللوتية تتميز باالنضباط واألدب وليس فيها خروج عن التصوف كما حتدثت عن خلفاء الشيخ أحمد رضوان ومن أهمهم الشيخ أحمد ابو احلسن (ت )1994 الذى التقت معه فى مولد اإلمام احلسني بالقاهرة وسط آالف من أتباعه الذين نزحوا من صعيد مصر كى يلتقوا بشيخهم ويحتفلوا مبولد احلسني وقد قال لها «التصوف هو جوهر اإلسالم» وحكى لها عن قصة حياته من الضالل إلى التوبة فالوالية فى رحلته الصوفية. كما التقت الشيخ عز العرب الهوارى والشيخ أحمد الشرقاوى ويلحظ أنها قد ركزت على الصوفيني فى صعيد مصر وهذا فى حد ذاته جانب إيجابى إذ قلما تتناول الدراسات الصوفية مشايخ التصوف فى صعيد مصر وحتى األولياء الذين وفــدوا من العراق كأبى احلجاج األقصرى )1244ت( أو الذين وفدوا من املغرب كعبد الرحيم القنائى )1258ت( لم يجدوا أتباعاً كثيرين مؤيدين إال فى صعيد مصر، وكذلك اإلمـام أحمد الدردير )1777ت( الذى نشر الطريقة اخللوتية فى صعيد مصر.

بيد أن الكاتبة فاليرى هوفمان لم تركز إال على املشايخ دون املريدين ونسيت بعض املشايخ كالشيخ حسني معوض وأحمد التونى وهؤالء لهم مريدون كثر ولم تتوقف حيالهم.

وقـد ذكـــرت بعض الشيخات كاحلاجة زكية )1982ت( وأثـرهـن فـى التصوف املعاصر كذلك حتدثت عـن بعض املقدسات القبطيات كإليزابيت إبراهيم؛ وفى آرائها عن التصوف جند فهما دقيقا وموضوعية بحثية واضحة.

التصوف فى الصعيد تعد هذه الدراسة من أهم الدراسات التى تناولت التصوف فــى مصر وبـخـاصـة فــى صعيد مـصـر، ويلعب التصوف دورا كبيرا فـى احلـيـاة السياسية واالجتماعية والدينية واالقتصادية والثقافية فى مصر فلو نظرنا إلى املوالد التى تقام فى مصر والتى تزيد عن 2850 مولداً فى السنة ألدركنا مدى ما يكنه املصريون من حب آلل البيت واألولياء؛ واملولد هو مناسبة اجتماعية إذ يتالقى املريدون وغير املريدين خللق مجموعة اجتماعية خارج أطر النظام القبلى أو العائلى أو املعرفى؛ كما أنه محاولة للتنفيس عن الضغوط النفسية التى تصاحب اإلنسان منذ مولده حتى وفاته إذ يقوم املجتمع بدور الرقيب احملافظ الذى ال يسمح بالضحك أو الرقص أو الفرح حيث تقوم أساسياته على الرزانة أو على حد لهجة املصريني «التقل»!

أستطيع أن أصـنـف هــذا الكتاب حتـت أدب الـرحـالت إذ حتدثت فيه عن مشاهداتها ويـرى د. عويس فى مقاله «الطرق الصوفية فى املجتمع املصرى (الهالل )1985/6 «أن أكثر من نصف سكان مصر يحضرون املوالد» ويندر أن توجد مدينة أو قرية أو جنع فى كل مصر دون شيخ وقبة وضريح ومولد، وقد استطاعت هذه االحتفاالت أن تنمو وتزدهر.

املوالد الصوفية وجــدت الطرق الصوفية فى مصر والتى تزيد عن 67 طريقة فى املوالد وسيلة للدعاية للطريقة ولشيخها ومريديها كما أن املشهورين من املنشدين فى األذكار يتبرعون بإحياء ليالى املوالد مجانا على سبيل التبرك والدعاية. وتنشأ املوالد من خالل كرامات حتكى عن الولى املتوفى وسرعان ما تتناقلها األلسن حتى يتم االعتراف بالشيخ ومبقامه ومولده، وقد نقلت فاليرى هوفمان VALERIE J. HOFFMAN أن الشيخ أبوالقصان املدفون فى «غرب األقصر» قد ظهر ألحد

لـــو نــظــرنــا إلــــى املــــوالــــد الـــتـــى تـــقـــام فـــى مــصــر والــتــى تـــزيـــد عــــن ٠58٢ مــــولــــدا فــــى الـــســـنـــة ألدركــــنــــا مـــدى مـــا يــكــنــه املـــصـــريـــون مـــن حـــب آلل الــبــيــت واألولــــيــــاء ضباط البوليس فى املنام وقال له «فى مولدى ال للمخدرات وال للسالح!» وقد أجـرت عدة حــوارات مع مشايخ الطرق الصوفية وهى حــوارات ممتعة إذ صـرح فيها املشايخ عن بعض خواطرهم وجوانب حياتهم وانتقالهم من املعاصى إلى االميان والوالية وهى أشبه بالسير الذاتية.

ولـم تغفل فاليرى هوفمان املــرأة ودورهـــا فى التصوف إذ التقت مع نسوة مريدات ووليات وحكت لها واحـدة من املريدات أنها رأت أمها املتوفاة- التى كانت من األولياءفى املنام وقالت لها: «يجب أن تتبعى قطب العصر فى كل األرض» وحاولت –على عجالة- أن تلقى ضوءا على التصوف املسيحى واليهودى واجلماعات األصولية فى اإلسالم ولكن جـاء سريعا ورمبــا كـان مبرر ذلـك أنها تهدف إلـى دراسـة التصوف اإلسالمى املعاصر فى مصر.

عاشقة التصوف حتدثت فى كتابها عن مشاهداتها وشعورها ويتضح من الكتاب أن السيدة فاليرى هوفمان قد عشقت التصوف حلد أنها آمنت بالكرامات التى وقعت معها شخصيا ومنها ما ذكرته أن الشيخ الشرقاوى قد أخبرها مبا جرى بينها وبني رفيق سفرها الذى شك فى جتربتها الروحية كما حكت أن طفلتها الصغيرة تركتها بصحبة أبيها فى القاهرة وعانت من غيابها كثيرا ولكنها أردفت «وآمل فى النهاية أنها ستكسب من بركة الشيوخ؛ كما روت كرامة الشيخ عز العرب التى أعانتها على عبور الطريق دون أن يُقتلوا أو يُسرقوا خلطورة املنطقة فى الصعيد وغير ذلك رغم أن الشيخ أحمد بن الشرقاوى قد ذكر لها فى حوارها معه: «إن 99٪ من الكرامات التى حتكى «كذب» وقد وصفته فاليرى هوفمان بأنه إنسان كامل. وفى مناقشتها عن التصوف واحلداثة رأت أنهما ال يلتقيان وهو ُحكم يجب مناقشته إذ يحاول بعض مجّددى التصوف إيجاد عالقة بني التصوف واحلداثة، وعلى هذا فإن مقولتها: «إننا ال نستطيع أن ننكر أن الطرق الصوفية قد خسرت كثيرا من نفوذها السياسى واالجتماعى بالنظم االقتصادية واالجتماعية احلديثة» هذه املقولة فى حاجة إلى املراجعة وقد ملست فى اآلونـة األخيرة األخيرة عكس ما ذكرته إذ التف الشباب حول الطرق الصوفية التى تنتشر فى صفوفه ألسباب كثيرة. يبقى للباحثة جهدها الكبير فى إلقاء الضوء على ظاهرة التصوف املعاصر ومحاولتها تقييمه من عني ُمحبة للصوفية على غرار املستشرقة األملانية أَّنارى شيمل ANNEMARIE SCHIMMEL التى ترى أن التصوف هو

جوهر احلياة الروحية فى اإلسالم؛ ولعل املتصوفني أنفسهم فى حاجة إلى إظهار السماحة الصوفية احلقيقية ليراها الغرب وأوربا، ولعل املتصوفني أنفسهم فى حاجة إلى عقلنة التصوف إن كـان األمـر مستطاعا؛ متى نـرى هـذا الكتاب مترجما للعربية؟

الكتاب ما يزال أكثر من خمسة ماليني زائر زاروا معرض القاهرة الدولى للكتاب فى دورته األخيرة، خبر أفرحنى كثيرا ألنه رد علمى على هؤالء الذين يشيعون أن الكتاب الورقى انتهى دوره ولم يعد له ُقراء وأن التابلت والتليفون والنت قد حلُّوا مكانه ولم يعد له وجود؛ هناك من يدعى أن الشعب ال يقرأ وأن الثقافة قد أضحت من املاضى التراثى العتيق، وأن شباب األجيال احلالية ال يعرف الثقافة والكتاب وهو كالم مردود عليه أن معظم زوار معرض الكتب من الشباب ولم يفرض عليهم أحد أن يزوروا املعرض وإنا يذهبون فرحني، قد ال يشترون من الكتب إال من القليل أقـال.. نعم، لغلو سعر الكتب الرتفاع سعر الورق وحبذا لو دعمت الدولة دور النشر ألن الكتاب ال يقل أهمية عن اخلبز، أعـود إلـى معرض الكتاب الذى أضحى طقسا سنويا تأخذ األسرة أبناءها ويذهبون، الطالب والشباب يروحون فرادى وجماعات واألطفال ميرحون بني أرفف الكتب ويستمتعون باألنشطة الفنية والثقافية، هذا احلضور البشرى الكثيف يفرض تفاؤال باألجيال القادمة ومبستقبل التنوير لذا أهنئ أخى األستاذ الدكتور أحمد بهى الدين رئيس الهيئة العامة للكتاب وفريق عمله على هذا النجاح املفرح الذى يؤكد دور مصر الثقافى الريادى وقوتها الناعمة كما أسعدنى دور الشباب املتطوعني الذين يرشدون الزائرين املترجلني وأصحاب السيارات نحو مقصدهم مع كثرة قاعات العرض وهذا الشاب الواعد مصطفى عز العرب الذى جمع آالف الشباب يقودهم فى عمل تطوعى فى مودة واحـتـرام وحسم وهـذه من صفات الـريـادة التى يتمتع بها وزمالؤه الذين التفوا حوله من محافظات مصر كافة. أعود للكتاب الذى سيظل سفر اخللود وكنز املعرفة وبوح األسرار وهمسة العاشق ودمعة احملزون وآهة الشاكى ورقصة الفرح.. مرحى مبعرض الكتاب وبقوة مصر الناعمة وشباب مصر الذين يبهرون الرائى.. هى دى مصر.

قال النفرى: «إنا أحدثك لترى فإذا رأيت فال حديث»