Al-Akhbar

خواطر.. وتداعيات رمضانية

- محمد بركات

مهما تعاقبت علينا فصول العام وشهوره صيًفا أو شتاًء، وبينهما خريف هني ومعتدل أو ربيع عاصف ومترب،..، ومهما تغيرت من حولنا طبيعة اجلو ودرجــات احلــرارة، لتحيطنا ببرودتها القارصة فى الشتاء، مثل التى مررنا بها منذ أسابيع، أو تفاجئنا بدفء مفاجئ وغير متوقع مثل تلك التى زارتنا منذ أيام،..، مهما حدث ذلك وبالرغم منه، يظل لشهر الصوم «رمضان الكرمي» لـدى كل املصريني طبيعة خاصة ومـذاق متفرد، ال يشابهه شيء على اإلطالق، وال يدانيه فى طبيعته ومذاقه شهر آخر من الشهور.

ففى رمضان صيًفا أو شتاًء ترق القلوب وتصفو النفوس، ويتطلع املرء إلى مرضاة اهلل عز وجل، ويحاول جاهدا التقرب إليه، وتهفو إلى رحمته وغفرانه قلوب البشر ونفوسهم، آملة متوسلة راجية فى القبول والسماح من الرحمن الرحيم رب العاملني مالك يوم الدين، الذى وسعت رحمته كل شـيء،..، الـقـادر على املغفرة والـهـدايـ­ة، والسميع البصير مبكنون الصدور، وما يعتمل فى أغوار النفس البشرية ما ظهر منها وما بطن.

احلالة الرمضانية ويــدرك جميع املصريني هـذا الــذى أقـولـه، ويعرفون أن طبيعة الشهر الكرمي تهل عليهم مع حلظة اإلعالن عن ثبوت الرؤية لهالل رمضان، وحتيط بهم إحاطة السوار باملعصم فور هذا الثبوت وذلك اإلعالن، فإذا بنا جميعا نعيش احلالة الرمضانية، بكل ما فيها من روحانيات سامية، ورغبات جارفة للتوبة واملغفرة والهداية.

ولعلى ال أبالغ إذا ما قلت إنى كنت ومازلت على قناعة بأن كل املصريني فى ذلك سواء، يستوى فى ذلك أبناء املدن وساكنو الـريـف، الكل يعيش احلالة الرمضانية، كل على قدر استطاعته، والكل يسعى ملرضاة اهلل، ويأمل فى كرمه ورحمته، والكل يقشعر منه البدن ويرجتف الوجدان، وهو ينصت خاشعا إلى آيات الذكر احلكيم أو إلى أذان املغرب، بصوت الشيخ «محمد رفعت» رحمه اهلل، والكل ينتظر دقات املسحراتى ويطرب بها، وكنت والزلت متصورا أن كل الصبية مـازالـت تـراودهـم رغبات الـنـزول ملرافقة املسحراتى، فى جتواله إليقاظ وتنبيه من غلبهم النوم، بصوته املألوف ودقات طبلته احلـادة، كما كنا نفعل ونحن فى عمرهم منذ سنوات وسنوات، فى أيام وليال مازالت محفورة فى الذاكرة حتى اآلن

رغم مرور السنني.

ألف ليلة.. وليلة فى تلك األيــام ولياليها اجلميلة منذ سنوات وسنوات، كنا صغارا فى بواكير الصبا، وكانت أحالمنا كبيرة وخيالنا يسع الدنيا كلها وينطلق بال حدود فى مكان أو زمان، تغذيه حكايات وقصص «ألف ليلة وليلة» التى كانت سمة أساسية مميزة لشهر رمـضـان، مبا فيها من كسر للمألوف وقـدرة فائقة على جذب اإلنتباه، واالستحواذ على املشاعر واأللباب، تأخذنا معها للغوص فى أعماق البحار حيث ممالك اجلن. وتصعد بنا إلى قمم اجلبال على أجنحة طائر الرخ (وتعود لتطوف بنا فى أرجاء بعيدة من أطراف أرض اهلل الواسعة، لترينا بعني اخليال وتسمعنا فى ذات الوقت من خالل صوت املذياع «الراديو» ما ال عني رأت وال أذن سمعت). وكنا فى تلك السن وتلك األيام، حني نلتقى مع أقراننا فى املدرسة صباحا، أو أماكن وساحات اللهو واللعب باملساء نتسابق للحكى عما سمعناه من قصص «شهر زاد» وحكاياتها «لشهريار»، وعادة ما كنا نضيف من عندياتنا حواشى كثيرة للقصة واحلكاية على قدر ما أعطى اهلل لكل منا من خيال جامح ومنطلقا.

وكـان ذلـك يسعدنا أميـا سعادة، ونطلب املزيد منه ممن توافرت لديهم هذه املوهبة منا، وفى كثير من األحيان كانت قصص وحكايات هؤالء األصدقاء تبدأ مبا جاء فى ألف ليلة، ولكنها سرعان ما تتفرع بعيدا عن النص لتنسج قصصاً أخرى قائمة بذاتها، دون اعتراض من أحد منا، بل وسط تشجيع الكل وإنصاتهم النهم لكل ما جتـود به قريحة األصدقاء وخيالهم اخلصب.

وفـى تلك األيــام وتلك السن ما بني السابعة ومـا بعدها حتى ما دون الثالثة عشرة، كنا ننتظر مدفع اإلفطار وأذان املغرب ابتداء من بعد العصر صيفا أو شتاء ونحن منرح ونتسامر، واضعني فى جيوبنا بعض البلح اجلـاف «التمر» بعدد األصدقاء املقربني لكل منا، بحيث نسارع فور انطالق املدفع وبدء األذان لنتناولها معا، مع مشاعر دافقة من الود والسعادة،..، ثم ننطلق إلى بيوتنا لتناول األفطار على موعد اللقاء بعد ذلك فى املساء.

احلضرة.. والورد ليالى رمضان فى تلك األيـــام،

وفـى

وفـى

ذلـك املكان حيث إحدى قرى الدلتا، كانت لنا سهرات أسبوعية مع الكبار من األهـل، تضم اآلبـاء واألقــارب واألصـدقـا­ء من الرجال، حيث تقام بالتناوب فى بيت أحدهم ليلة للدعاء وقـراءة القرآن وبعض األوراد فى رمضان، ونطلق عليها «احلــضــرة»، وكـنـا ونـحـن الصغار حريصني على إثبات احلضور والتواجد ومحاولة مجاراة الكبار فى القراءة من كتب «األوراد» بصوت مرتفع حتى يشعر بنا اجلميع ويدركون مشاركتنا لهم.. وكنا كثيرا ما نخطئ فى القراءة، وكانوا كثيرا ما يصححون لنا فى حالة انتباههم،..، أما إذا كانوا قد دخلوا فى حالة من االنفعال والتدفق الوجدانى، فال ينتبه أحد منهم ألخطائنا وتعثرنا فى القراءة، ولذا كانت متر مـرور الــكــرام،..، أو هكذا كنت أظـن وأتخيل وأمتنى، حتى أتى اليوم الذى نبهنى فيه عمى الكبير بعد انتهاء احلضرة، وكنت قد أخطأت كثيرا فى قراءة «الورد»، وتصورت كالعادة أن أحدا لم يالحظ وتهيأت لإلنصراف لشأن من الشئون،..، فإذا به يستوقفنى وكان اجلميع قد انصرفوا حيث كانت احلضرة فى منزلنا، ونظر إلى فى رفق وهو يضع يده على كتفى ويقول، «فى املرة القادمة البد أن تقرأ الورد قبل بدء احلضرة حتى تستطيع جتنب األخطاء،..، وفى كل األحوال يستحسن أال ترفع صوتك كثيرا فــوق أصـــوات الــكــبــ­ار»،..، وكــم كــان خجلى كبيرا وموجعا فى تلك الليلة، ولكنى آليت على نفسى بعدها املواظبة على قراءة «الـورد» قبل كل حضرة، وأيضا كنت أخفض من صوتى قدر االستطاعة، حتى ال أتعرض ملا تعرضت له تلك الليلة.

وظللت على تلك الوتيرة عدة أيام حتى الحظ عمى ذلك وتنبه إليه، فإذا به يطلب منى فى أحد األيام أن أقرأ له ما فى الورد، فلما فعلت ولم أخطئ تهلل وجهه وقال، «اآلن ميكنك أن ترفع صوتك وأنت تقرأ معنا»،.. وكم كانت سعادتى كبيرة وأنا أفعل ذلك.

بداية التحول كان هذا هو واقع احلالة الرمضانية التى عايشتها وغيرى من األقران، فى واحدة من قرى مصر ومجتمعاتها الريفية املتشابهة مع غيرها من القرى والبلدات الريفية الصغيرة املمتدة بطول الدلتا وعرضها فى سنوات نهاية اخلمسينات وبداية الستينات، وما قبل ظهور وانتشار الشاشة الصغيرة «التليفزيون».

وفى ظنى أنه رغم اختالف املكان وطبيعة احلياة وتسارع أو رتابة وقعها، وارتفاع أو انخفاض صخبها بني القاهرة حيث العاصمة، وبني بقاع الريف املختلفة فى القرى واملدن الصغيرة فى احملافظات املختلفة، إال أن خصائص احلالة الرمضانية لم تكن تختلف كثيرا فى جنوحها للروحانية وميلها فى ذلـك الوقت من بداية الستينات فى الريف واحلـضـر، وهــو مـا أدى إلــى التأثير على مالمح وشكل احلياة فى مصر، وجعلها كلها تقريبا متشابهة فى الشكل واإليقاع.

ولكن بـدأ هـذا الشكل وذلــك اإليـقـاع يختلف نوعا ما ورويدا رويدا مع منتصف الستينات، نظرا ملا طرأ عليها من متغيرات على املستوى السياسى واالجتماعى والثقافى،..، وقـد طـال هـذا املتغير أيضا احلـالـة الرمضانية، بحيث أصبحت مختلفة عما كانت، وقد تباين هذا االختالف من مكان إلى آخر، وعلى قدر ما طال هذا املكان من متغيرات اجتماعية وثقافية.

وأنـا هنا ال أوجـه إدانـة إلى ما حدث من تغير أو حتول، ولكنى أقـــوم فقط مبـحـاولـة موضوعية للرصد وتسليط األضواء وقراءة ملا جرى دون إضافة أو نقصان.

وفــى هــذا السياق البــد أن نسجل أن الـزمـن قـد فعل فعلته وأتـت األيــام والشهور والسنون مبا تأتى به دائما مـن متغيرات ومستحدثات ومستجدات، طالت األمكنة والناس واملجتمعات فى كل القرى وكافة املدن بطول مصر وعرضها.

تخمة الطعام وفى أطـار الرصد ملا هو قائم اآلن، ومنذ فترة ليست بالقصيرة، يستوقفنى بشدة كلما هل علينا شهر رمضان الكرمي، ذلك اخللط السيئ الذى وقعنا فيه جميعا سواء فى الريف أو احلضر، باحملافظات أو العاصمة، بني روحانيات الشهر الفضيل، واإلغراق فى اإلسراف السفهى فى الطعام والــشــرا­ب،..، كما يستوقفنى أيضا ذلـك الـربـط الظالم واملتعسف الذى نقوم به دائما، بني ليالى رمضان املباركة، التى يجب أن نضيئها بوهج املعرفة ونحييها بنور التفكر والتعبد،..، وبني ما منارسه اليوم من الغرق اإلرادى فى دوامة التسلية والسمر والسهر.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Egypt