ذكريات «رمضان» فى مرآة نجيب محفوظ
الــــصــــيــــام مـــــن الــــشــــعــــائــــر الـــقـــدميـــة املــشــتــركــة فـــى جــمــيــع األديــــــــان، وهــــواة اجلدل دائما يسألون : كيف يخلق لنا اهلل فمًا وأسنانًا وبلعومًا ومعدة لنأكل ثـم يـقـول لنا صــومــوا، كيف يخلق لنا اجلــمــال والـشـهـوة ثــم يـقـول لنا غضوا أبـصـاركـم وتعففوا، هـل هــذا معقول ؟ وأنــا أقــول لهم بل هو املعقول الوحيد، فــــــاهلل يــعــطــيــك احلــــصــــان لـــتـــركـــبـــه ال ليركبك، لتقوده ُِ وتخضعهال ليقودك هو ُِ ويخضعك،وجسمك هو حصانك املـخـلـوق لــك لتركبه وحتـكـمـه وتــقــوده وتلجمه وتستخدمه لغرضك، وليس الــعــكــس أن يــســتــخــدمــك هـــو لـغـرضـه وأن يقودك هو لشهواته، ومن هنا كان التحكم فى الشهوة وقيادة الهوى وجلام املـعـدة هـى عالمة اإلنــســان، أنــت إنسان فقط فى اللحظة التى تقاوم فيها ما حتب وتتحمل ما تكره، أمـا إذا كـان كل همك هـو االنـقـيـاد جلوعك وشهواتك فــأنــت حـــيـــوان حتــركــك حــزمــة برسيم وتردعك عصا، وما لهذا خلقنا اهلل.
اهلل خلق لنا الشهوة لنتسلق عليها مستشرفني إلـــى شــهــوٍة أرفــــع، نتحكم فــى الــهــيــاج احلــيــوانــى لـشـهـوة اجلسد ونـصـعـد عليها لنكتفى بـتـلـذذ العني باجلمال، ثـم نعود فنتسلق على هذه الشهوة الثانية لنتلذذ بشهوة العقل إلى الثقافة والعلم واحلكمة، ثم نعود فنتسلق إلـــى مـــعـــراج أكــبــر لنستشرف احلــقــيــقــة ونـــســـعـــى إلـــيـــهـــا ومنــــــوت فى سـبـيـلـهـا، مـــعـــارج مـــن األشــــــواق أدنــاهــا الــشــوق إلـــى اجلــســد الـطـيـنـى وأرفـعـهـا الــــشــــوق إلـــــى احلــقــيــقــة واملـــــثـــــال، وفـــى الــــذروة، أعـلـى األشــــواق لــرب الكماالت جميعها، احلق سبحانه.
ولـــــهـــــذا ســــخــــر اهلل لــــنــــا الــطــبــيــعــة بقوانينها وثـرواتـهـا وكـنـوزهـا، وجعلها بفطرتها تـطـاوعـنـا وتـخـدمـنـا، فنحن لم نبذل مجهودًا كبيرًا لنجعل اجلمل يحمل أثقالنا، أو الكلب يحرس ديارنا، أو األنـــعـــام تنفعنا بـفـرائـهـا وحلـومـهـا وجـلـودهـا، وإمنــا هكذا خلقت مسخرة طائعة، وإمنــا العمل الــذى خلقنا اهلل من أجله والتكليف الـذى كلفنا به هو أن نــركــب هـــذه الـــــدواب مـهـاجـريـن إلـى الهدف، إلى اهلل، إليه وحـده فى كماله «يـــا أيــهــا اإلنـــســـان إنـــك كـــادح إلـــى ربـك كـــدحـــا فــمــالقــيــه»، «ومـــــا خـلـقـت اجلــن واإلنس إال ليعبدون»، والعبادة ال تكون إال عــن مـعـرفـة، فـاحلـيـاة رحــلــة تعرف على اهلل وسوف يؤدى بنا التعرف على اهلل وكماالته إلى عبادته، هكذا بالفطرة ودون مجهود، وهل نحتاج إلى مجهود لنعبد اجلميلة حبا، إمنا تتكفل بذلك الـــفـــطـــرة الـــتـــى جتـعـلـنـا نـــــذوب حلظة التطلع إلــى وجهها، فما بالنا حلظة التعرف على جامع الكماالت والذى هو نبع اجلمال كله، إننا نفنى حبا.
ومـــا الـصـيـام إال التمرين األول فى هــذه الـرحـلـة، إنــه الـتـدريـب على ركـوب الـــفـــرس وتــرويــضــه وتــطــويــعــه بتحمل اجلــــوع واملــشــقــة وهـــو درس االنـضـبـاط واألدب والطاعة، وهذه املعانى الراقية اجلميلة ليس منها ما نعرف فى صيام اليوم من فوازير ونكات وهزليات وصوان ومكسرات وسهرات، وإمنا الصائم يفرغ نفسه للذكر وليس للتليفزيون، ويخلو لــلــصــالة وقـــيـــام الــلــيــل وتــــــالوة الـــقـــرآن وتـدبـر معانيه ولـيـس للرقص وتـرديـد األغانى املكشوفة .
وقــد كــان رمـضـان دائـمـًا شهر حــروٍب وغزوات واستشهاد فى سبيل اهلل، كانت غــزوة بـدر فى رمـضـان، كما كانت حرب التتار فـى رمـضـان، وحــرب الصليبيني فى رمضان، وحرب إسـرائيل فى رمضان، ذلـك هو الصيام الرفيع، ليس تبطال، وال نـــومـــًا بـــطـــول الــنــهــار وســـهـــرًا أمـــام التليفزيون بطول الليل، وليس قياما متكاسال فى الصباح إلى العمل، وليس نـرفـزة وضيق صــدر وتــوتــرا مـع الناس، فـــاهلل فــى غـنـى عــن مـثـل هـــذا الـصـيـام، وهـو يــرده على صاحبه وال يقبله، فال ينال منه إال اجلوع والعطش .
وإمنا الصيام هو ركوب لدابة اجلسد لتكدح إلى اهلل بالعمل الصالح والقول احلسن والعباد ة احلقة واسأل نفسك عـــن حــظــك مـــن كـــل هــــذا فـــى رمــضــان وستعلم إلى أى حد أنت تباشر شعيرة الصيام.
من كتاب «اإلسالم ما هو»
كتب الروائى الكبير جنيب محفوظ احلائز على جائزة نوبل فى األدب مقاال جلريدة «اجلمهورية» عام 1957 سرد فيه ذكرياته مع شهر رمضان منذ طفولته صعوداً ملراحل حياته كلها، فيقول: قالوا فى حكمة الصيام إنه فرض على املؤمنني ليخبروا فى أنفسهم آالم اجلوع فتنعطف قلوبهم نحو الفقراء وأنه وسيلة تربوية لشحذ اإلرادة واعتياد الصبر وتهذيب نوازع النفس وتطهير الروح، كل هذا حق غير أن املؤمن ال يُقبل على الصيام لداٍع من هذه الدواعى بقدر ما يُُقبل عليه من طاعة اهلل ومحبة فيه، ويجد فى ذلك السعادة دون تعليٍٍل أو تـأويـل، والصيام تذكرة ملن شـاء أن يوجه ضميره نحو هذه الواجبات لتأملها والــعــمــل عـلـى حتقيقها، فليكن لنا فى شهر الصوم فرصة طيبة ملراجعة النفس فـــى سـلـوكـهـا حــيــال احلـيـاة والناس، على ضوء مبادئ الدين اخلالدة، وأول هذه املبادئ: التوحيد مبعنى حترير الـــروح مـن عـبـادة أى شيء أو أى شخص، فال نعبد إال اهلل، ونعمق روح التضامن فى املجتمع اإلنسانى التى جتعل للفقير حقاً فى مال الغنى، ومن هذه املبادئ الدعوة احلقة إلى األخوة اإلنسانية واالجتهاد للمؤمن املفكر فى إيجاد حلول جديدة فى ظروف اجتماعية جديدة».
ويتضح ممـا كتبه أديـــب نـوبـل: أن شهر رمضان كان له مغزى دينى وفلسفى جعله يـتـحـدث عــن مـفـهـوم إخـــالص الــعــبــادة هلل ومـراجـعـة النفس وفـضـل روحـانـيـات شهر الصيام فى التضامن اإلنسانى بني األغنياء والفقراء وكمال التسليم ألوامر اهلل واجتناب ما نهى عنه، وذكر جنيب محفوظ فى أكثر من حديث صحفى أنه كان ينقطع عن الكتابة متاما فى رمضان ويتفرغ للعبادة وجللسات األصــدقــاء بعد اإلفــطــار. وكــان يتحني كل فرصة ليحيى فـى نفسه ذكـريـات رمضان لتغمره الـسـعـادة الـتـى كــان يشعر بها فى طفولته خالل هذا الشهر. ويـقـول أديــب نوبل للكاتب الكبير رجـاء الــنــقــاش: « أنـــا ال أنــســى مظاهر االحتفال بشهر رمضان وأيـام الــعــيــد فـــى بــيــت الــقــاضــى بــاجلــمــالــيــة، كــنــت أشـعـر بـــالـــتـــجـــلـــى فــــى أقــصــى درجـــاتـــه، وال يـــزال هـذا الــتــجــلــى مـــــوجـــــوداً فـى احلارات الشعبية القدمية وإن لم يكن بنفس املستوى، وإذا قلنا إن االحتفال بشهر رمـضـان تـراجـع درجـتـني مثًال، فـإن هاتني الدرجتني تظهران فى منطقة مثل الزمالك مثًال وكأنهما عـشـرون درجـــة، أمــا فـى حـى احلسني فإن االحتفال بالشهر الكرمي لم يختلف كثيراً عن األيـام اخلوالى، ففى نهار رمضان كان كل شـيء هـادئـاً، املقاهى واحملــالت مغلقة احـتـرامـاً للصائمني، ثـم يختلف األمــر فى الليل بالسهر حتى الفجر، واألطــفــال فى الشارع بالفوانيس، واإلضاءة فى كل مكان، وكأن هناك مهرجاناً ال ينقطع، أما فى العيد فكانت فرحتنا ال تقدر، ألننا كنا ننتظره من العام للعام».