Al-Akhbar

اصحى يا نايم

- توماس جورجيسيان

«اصحى يا نامي.. وحد الدامي». صيحة اعتدنا على سماعها من املسحراتى خالل شهر رمضان الكرمي. املسحراتى الذى يزورنا أو كان يزورنا مع اقتراب الفجر ومعه صيحته ومعه بالطبع طبلته. وبال شك لنا مع املسحراتى ذكريات نحن إليها وقد نلجأ إليها لنحتمى بها.. ونقول بعد مرور السنني «ياااه كانت أيام!»

فى ذكريات طفولتى وأيام صباى أجد املسحراتى.. بطبلته وصيحته «اصحى يا نامي» ونعم «اصحى يا توماس» أحيانا. إذ أن املسحراتى الذى كان مير فى حارة أديب تراك املتفرع من شـارع الترعة البوالقية بشبرا رمبا أراد حينذاك فى الستينيات من القرن املاضى أن يبعث الفرح والبهجة فى قلبى (وكله بثمنه) فكان يقول أيضا «اصحى.. يا توماس». وكـان مع نهاية شهر رمضان وقـدوم عيد الفطر يأتى إلى محل والدى الصغير اخلاص مبواد الصباغة الكائن بنفس احلارة ليأخذ العيدية ويسألنى أنا إن تواجدت باحملل إذا كنت سمعت صيحته وصحيت مثل أهل احلى واحلارة.. أنا توماس املصرى األرمنى املسيحى.

لن أنسى أبدا يوم أن عرفنى والدى بعم محمود املسحراتى. آسف رمبا لم يكن هذا اسمه إال أنى ما زلت أتذكر هيئته ووقفته.. كان يبدو ضخما بالنسبة لى وسألته بعد «..وبتعمل إيه فى شهور السنة الباقية؟؟» ولم يطل الوقت حتى وجـدتـه مـرة أخــرى بعد أيــام وهـو يبيع متجوال تلك التفاحات اخلضراء الصغيرة املغموسة فى السكر األحمر. وبالطبع كانت للمسحراتى وسائل أخرى لتوفير لقمة العيش خالل أيام السنة الباقية قبل رمضان وبعده.

و«اصحى يا نـامي» الصيحة والعبارة بشكل عام صارت جزءا من ثقافتنا املصرية وقاموس لغتنا الشعبية وحديثنا الدارج وقد تعودنا على تكرار قولها وسماعها فى كل األوقات وفى كافة قد نلتفت إليها أحيانا فى حالة انتباه وقد «نطنش عليها» غالبا. وذلك فى سياق اللهث اليومى وسباق اجلرى وراء لقمة العيش. وتبريرنا الدائم لـ «طناشنا» وتعايشنا مع دنيانا وما يحدث فى حياتنا.

جنيب محفوظ قام بتذكيرنا أكثر من مرة بحكمة قد تنفعنا فى مشوار حياتنا ومحطات عمرنا «كن كالتاريخ يفتح أذنيه لكل قائل وال ينحاز ألحـد ثم يسلم احلقيقة ناصعة هبة للمتأملني..». وكمسحراتى لنا فى كل أيامنا قال: «أن تؤمن وأن تعمل فهذا هو املثل األعلى، أال تؤمن فذاك طريق آخر

هو الضياع، أن تؤمن وتعجز عن العمل فهذا هو اجلحيم» كما أن محفوظ نبهنا : «إن حكمة احلياة هى أثمن ما نفوز به من دنيانا ذات األيام املعدودات»ـ وهو الذى قال ..« لن تخرج املعانى إال ملن يطرق الباب بصدق».

اجلـمـيـل احلـمـيـم يـحـيـى حـقـى كـــان وظـــل مـعـى دائـمـا «مسحراتى» فـى محطات حياتى مبـا كتبه ومـا قــرأت له ومبا تأملته فى «عشق الكلمة» و«أنشودة البساطة» و«عطر األحباب» و«خليها على اهلل».

وقد حرص يحيى حقى على أن يكتب فى مقدمة مذكراته «أسير فى هذه املذكرات مثلما سرت فى حياتى أفرد الشراع وأقول لزورقى والبحر املخوف أمامه: خليها على اهلل».

إنها فلسفة حياة.. وأسلوب تعامل مع تقلبات الدنيا وأيضا منطق حكيم للتأقلم مع كل ما يستجد.. وبالطبع أن تتجاوز اللحظة مهما كانت قسوتها أو مرارتها.

وقد ترددت على مسامعنا كثيرا نصيحة أو حكمة عندما تعرف نفسك تكون قد أخذت خطوة مهمة فى حياتك يجب أن تتبعها اخلطوة التالية وهى أن تكون نفسك (ما أصعبها من مهمة) ومن هنا قد يأتى الرضا مبا تقول ومبا تفعل.. وقــد يأتى الـسـالم والــوفــا­ق مـع النفس ويتم فــرد الشراع وحتريك الدفة أمام هبوب الرياح. كما أن حقى يذكرنا أيضا فى سيرة ذاتية كتبها عام ٤٧٩١: ..« ال ولوج إلى ساحة السعادة فى اعتقادى إال من أحد أبواب ثالثة: اإلميان والفن واحلب، ال شيء يشع بها مثل هذا اخلشوع الذى أراه فى املعابد. وإذا كان احلب هو أكثرها التصاقا بالصلصال واحلـمـأ املسنون، وبـالـزمـا­ن واملكان والصدف، فإنه شرط ارتفاع اإلنسان عن مرتبة احليوان. وكان اإلميان أكثرها طموحا ألنه يطلب اهلل ال الناس، اخللود فى اآلخرة ال العبور فى الدنيا، فسيبقى الفن وسطا جامعا للطرفني، يا لها من منزلة..».

رمضان كرمي .. اهلل أكرم األحد

كامل الشناوى ويوميات األخبار مازال كامل الشناوى يبهرنى بتفاصيل حياته وتنوع كتاباته. وهو حاضر معى فى محطات حياتى الصحفية مبا قرأت له ومبـا قـرأت وسمعت عنه. كـان صاحب اخليال املنطلق واألسـلـوب اآلســر. من رحـل عنا وهـو فى الـــ٥٥ من عمره «اصحى يا نـامي» الصيحة والعبارة بشكل عـام صـارت جـزءا من ثقافتنا املصرية وقاموس لغتنا الشعبية وحديثنا الــدارج وقد تعودنا على تكرار قولها وسماعها فى كل األوقات وفى كافة املواقف

وترك لنا إرثا مكتوبا كنوز وآللئ إبداعية علينا أن نتعرف عليها ونستفيد منها خاصة من يريد أن يعرف ويفهم كيف تكون الكتابة القريبة من قلب القارئ. وهو الذى نبه: «ما دام الكاتب ال يتخلى عن صدقه، فهو يعيش حيا فى قرائه. ولو انطوى على نفسه. وإذا ما تخلى عن الصدق فهو ال يعيش فى حياته، وال يعيش فى حياة القراء».

الكاتب والشاعر والصحفى كامل الشناوى هو أول من كتب هذا الباب يوميات األخبار فى العدد الصادر بتاريخ أول ديسمبر ٣٥٩١.. تواجد بقلمه املميز وأسلوبه الساحر على صفحات أخبار اليوم منذ مولدها.. كما أنه شارك فى رئاسة حترير األخبار من عددها األول الصادر يوم ٥١ يونيو ٢٥٩١..

كتاب «يوميات كامل الشناوى» الذى حررته رحاب خالد يعد مرجعا فريدا وغنيا ملن يريد أن يقترب من عالم كامل الشناوى وكتاباته اجلميلة التى احتضنت احلياة بتفاصيلها والبشر مبا لهم وما عليهم.

وقد رحل كامل الشناوى عن عاملنا فى مستشفى الكاتب فى الواحدة صباحا يوم الثالثاء ٠٣ نوفمبر ٥٦٩١ وكان إلى جـواره ساعة وفاته اثنان من أخواته، وابن شقيق له، ومن أصدقائه محمد حسنني هيكل وموسى صبرى. وذلك حسب ما ذكره موسى صبرى فى األخبار فى اليوم التالى لوفاته حتت عنوان: أجبنى يا كامل إذا كنت تسمعنى.. أجبنى يا كامل إذا كنت ال تسمعنى.

كامل الشناوى فى أول يوميات األخبار (١ ديسمبر ٣٥٩١) يكتب عن لقاء مع محمد عبد الوهاب : .. قال عبد الوهاب: إن خبر املوت، ولو كان كاذبا، يهزنى. وقلت له إن املوت هو احلقيقة الوحيدة املقررة، ومع ذلك فنحن نفزع منها، أو لعلنا نفزع منها ألنها حقيقة.

ورويت له كيف جترع سقراط السم بشجاعة ألنه فيلسوف، والفيلسوف يبحث عن احلقيقة وال يفزع منها. ومن أقوال أرسطو: نحن ال نواجه املوت أبدا. فإنه حني يجىء ال نكون، وحني نكون ال يجىء. الثالثاء

فيه ورقة ناقصة! ال جــدال أن دخولنا للحياة بــدأ بـورقـة تسمى «شهادة ميالد». كما أن خروجنا من احلياة ذاتها سيكون بورقة كمان اسمها «شهادة وفاة». «عالعموم مافيش داعى حتزن وتكتئب خصوصا أنك عمرك ما حتشوف الورقة دى»ـ

الورقة (بكافة صيغها) صارت حياتنا. ومن ثم إحساسنا بالنقص أو التقصير جتاهها حينما تتردد على مسامعك العبارة البيروقراط­ية إياها «فيه ورقة ناقصة.. الزم جتيبها»ـ

نعم حياتنا وحياتك مجموعة أوراق. دوسيه كامل من أوراق تثبت بها وجــودك وترصد بها حركتك على وجـه املعمورة (الكرة األرضية إياها). إنهم يطعمونك بورقة ثم يدخلونك طريق التعليم الطويل بورقة ومتتحن بورقة وتنجح بورقة وتسقط بورقة ويقولون «إنك اتعلمت» بورقة ويبصموا على خبرتك بورقة ويشيدوا بـ«حسن سيرك وسلوكك» بورقة.. وتتجوز طبعا بورقة وتتطلق كمان بورقة. «إنها دورة ورقية» أحيانا تبدو أنها خانقة (فينك يا عبد الروتني) لدرجة أنك ترتاح وتشعر بانفراجة عندما تسمع أن فالنا له واسطة وحيخلصلك الورقة الناقصة املطلوبة. وطبعا ينبهنى أحد األصدقاء بالقول: كل األوراق دى دخلت السيستم دلوقتى.. وطبعا أنت وحظك لو السيستم مش واقع! ـ

نعم إنها الورقة تلك التى تسجل تاريخنا فى دنيانا من يوم ميالدنا لغاية يوم.. إنها أيضا ورقة النتيجة اللى بتذكرنا بـ «النهارده» و«األيام اللى مرت» و«األيام اللى جاية» وورقة اليانصيب و«أنت وحظك».

وكمان ورقـة الشجرة اخلضراء «اللى بتقولنا إن الربيع مقبل علينا» - و«يوم مانشوفها اصفرت حنعرف إن اخلريف وصل والشتاء قرب»- وطبعا فيه ناس بتحب «تخلط األوراق» وفيه ناس غاوية «تلعب بالتالت ورقات»ـ وناس «بتضطر تستر عورتها بورق التني» ـ وإذا كانت حياتنا ومازالت امتحانات متواصلة اوعى تسيب الورقة بيضا وفاضية وتقول إن األسئلة صعبة أو مش مفهومة والورقة سواء كانت من غير أسطر أو كانت مسطرة أو حتى لو كانت كاروهات فهى محتاجة أفكارك وكلماتك وخطوطك وخدنى على قد قلبى وخللى قلبك دليلك وعلى فكرة انت مش محتاج ورقة علشان تثبت ذلك.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Egypt