Al Masry Al Youm

«السرقة الأنيقة»... والصحافة الغائبة

-

الشطر الأول من العنوان أعله؛ أى «السرقة الأنيقة»، ليس لى، ولكنه للكاتبة المتميزة الأستاذة أمينة خيرى، وقد استخدمته فى مقال نشرته ب «المصرى اليوم» الغراء، يوم الخميس الماضى، واصفة به واقعة شغلت المجال العام فى مصر وخارجها أخيرًا، بسبب سخونتها، وتقاطعها مع أطر ومصالح ومعان كبيرة ومؤثرة.

والواقعة، كما قد يعرف كثيرون، تتعلق ب «شبهات قوية وقرائن دالة» على حالة «سرقة فنية»، وأهميتها لا تنبع فقط من «مخالفتها المُفترضة» لقواعد وأدبيات الملكية الفكرية ذات الصلة بالعمل الإبداعى، ولكن أيضًا لأنها تمس المصلحة العامة، بسبب تأثيرها فى صورة الأداء العمومى، وعلقتها بأساليب إنفاق المال العام وحمايته. ورغم أن مثل تلك الواقعة تستحق الكثير من البحث والتنقيب بسبب أهميتها الواضحة، فإن هذا المقال سيُعنى فقط بالطريقة التى تعامل بها الإعلم معها، باعتبار أن الإعلم الحر والجيد يظل إحدى أهم ضمانات صيانة المصلحة العامة. يقول الصحفى المخضرم بيل موير، الذى ترأس المركز الأمريكى للإعلم والديمقراط­ية، إن «حرية الإعلم هى أن تعلن بكل أريحية الاستنتاج الذى قادتك إليه الأدلة فى موضوع يقع ضمن اهتمامات الجمهور».

ولكى يتوصل الإعلمى إلى مثل ذلك الاستنتاج، فإن أمامه مسار عمل طويلً وشاقًا يجب أن يقطعه، وهذا المسار لن يكون متاحًا إلا فى منظومة إعلمية تتمتع بالحد الأدنى اللزم من المهنية والاستقللي­ة والتعددية.

يفترض هذا الاستخلص أن قدرًا مناسبًا من حرية الإعلم ومهنيته مُستحق وموجود، من جانب، وأنه مرتبط بضرورة البرهنة على صدق ما يرد عبر الممارسة الصحفية وإثباته، من خلل جهد منظم يبذله الصحفى، وتسهر عليه وسيلة الإعلم، بما يخدم انشغالات جمهورها، من جانب آخر. لكن فى الميدان، لا تكون الوقائع على هذا القدر من البيان الناصع والحسم القاطع، فثمة حالات وقضايا تتضارب فيها الرؤى، وتبرز خللها الحجج المتناقضة لأطراف المنخرطة فى الصراعات، وتتصادم الإفادات، بل إن الوثائق أحيانًا «تكذب» أو يتم التلعب بدلالاتها، إلى حد أن الصحفى المُجيد نفسه يرتبك، ومهما كان متخصصًا فى موضوعه أو خبيرًا بتطوراته، فإن قدرته على إدراك «استنتاج» مستند إلى أدلة تتضاءل. وفى هذا الأثناء تبرز أهمية الموضوعية فى العمل الإعلمى كقيمة مطلوبة وضرورية، ومن حسن الحظ أن الموضوعية ليست وصفًا ترفيًا أو معنى وهميًا فى هذا الإطار، بل هى معيار ومبدأ، وثمة آليات واضحة لإدراكها أو الاقتراب منها بالدرجة التى تخدم مصالح الجمهور وتبقيه فى النور.

يتطلب الأمر لإنجاز عمل إعلمى موضوعى يلقى الضوء على قضية جدلية، تشهد تضارب إرادات وتنازع مصالح، أن يكون الصحفى دقيقًا، ومحايدًا، ومتوازنًا، ومُلمًا بالموضوع، وأن يعمل على إيراد وجهات نظر الأطراف ذات المصلحة وذات الصلة بالقضية الخاضعة للمعالجة، وأن يمنح تلك الأطراف مساحات متكافئة لعرض مواقفها، وألا ينسى أن يورد أيضًا رأى الخبرة المستقلة التى لا ترتبط بمصالح مع أى من الأطراف المتنازعة. لكن لأسف الشديد، فإن تلك الصورة «المثالية» أو «المعيارية» لم تكن موجودة حين تصدى الإعلم المحلى لقضية «السرقة الأنيقة»، فلم تجتمع الأطراف ذات المصلحة والصلة بالقضية فى حصة إعلمية واحدة، ولم تتوافر الإفادات والدفوع اللزمة لإلقاء الضوء على جوانبها المختلفة. كما لم يتم اللجوء إلى الخبرة المستقلة التى تمتلك الفهم، ولا تتورط فى المصالح، أو تخشى الكلم، وبالتالى لم يتم توفير المعطيات الموضوعية لإقامة الاتهام بحق الأطراف المُقصرة إن وجدت، ولم يتم تعيين المسؤولية عن إهدار المال العام إذا كان أُهدر، أو عن المصلحة العامة إذا كانت تضررت. وعوضًا عن ذلك، فقد تصدى لأمر إعلم محابٍ، عمل كذراع دعاية وليس كأداة استقصاء، وفى المقابل، تلقفت منصات إعلمية «معادية» القضية، وقدمتها من وجهة نظر أحادية أيضًا ولكن فى الاتجاه المضاد. وبين هذا وذاك، اندلعت «الحفلت» فى «السوشيال ميديا» استغللًا ل «الفراغ»، وتنفيسًا عن الغضب، وتراشقًا بالمواقف السياسية والمعانى الكبيرة، فى غياب المعالجة الموضوعية المهنية المطلوبة والضرورية.

يقدم هذا «الانكشاف»، وما تله من «انحراف»، وما نجم عنه من «تشاحن»، صورة لمعالجات لم تقم بالدور المطلوب والمسؤول والمتوقع، لتخلو الساحة لهجمات مرتدة وعشوائية، زادت الوضع ضبابية وتهافتًا، ما أدى إلى الإخفاق فى تحديد المسؤولية عن «المخالفات» المُفترضة.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Egypt