Al Masry Al Youm

البحث عن الهوية.. والحب فى مواجهة ضغوط المال والنفوذ

-

قضايا طرحها أسامة أنور عكاشة فى أعماله، البحث عن هوية مصر، مدى تماسك الحب أمام الضغوط المادية والحياتية، قهر المواطن أمام ضغوط المال والنفوذ والسلطة.

أسامة أنور عكاشة لم يكن كاتبًا عاديًا أو صانعًا يصنع أعمالًا بغرض الاستهلاك والترفيه فقط بل كان مفكرًا يحمل روح الأديب، ويحمل على عاتقه قضايا وأسألة ومشروع حقيقى يتجدد ويطرح من عملًا لآخر...بجانب إهتمامه الشديد بالصنعة الروائية للمسلسلاته وإبتكاره لفن جديد اسمه الأدب التلفزيونى.

أسامة أنور عكاشة تأثر كثيرًا بالأديب العظيم نجيب محفوظ، شرب عوالمه، وطريقة طرحه وتقديمه للشخصياته ولكنه كان تأثرًا لا تقليدًا، شرب لروح لا لتقليد لأسلوب، فقد ساهمت ثقافة أسامة أنور عكاشة وتأمله للبشر ومتابعته وتفاعلاته الحية لقضايا وطنه أن يصنع أدبه الخاص بجهده وإبداعه وفكره أولًا وثانيًا وثالثًا.

فى الدراما هناك نوعان شائعان، هما دراما البطل الأوحد، ودراما الشخصيات المتنوعة، عكاشة قدم النوعين، ففى «أبوالعلا البشرى» و«عصفور النار»، رأينا نموذجا لدراما البطل الأوحد لكن عكاشة ساهم فى المزج بين الأسلوبين، فرأينا دراما وحدوتة قائمة على بطل أوحد ولكنها تتحدث عن شخصيات كثيرة وعوالم متنوعة تصلح لأن تكون مسلسلات منفردة.

وفى «ليالى الحلمية» تابعنا الباشا سليم البدرى وصراعه الأزلى مع العمدة سليمان غانم، وحكايات نازك السلحدار وتأثر الأولاد بهذا الصراع وتفاعلاته لكننا رأينا شخصيات أخرى لا تقل عمقًا وجمالًا وإنسانية وحيوية أبرزها زينهم السماحى، سماسم العالمة، بسة والخمس، الأسطى زكريا، جميعها شخصيات تصلح لأن تكون مسلسلات منفصلة تكشف عن شخصيات شاهدناها وعشناها فى حياتنا العادية، شخصيات من قلب الشارع، لا من خبرات كتاب آخرين كما نشاهد فى بعض الأعمال هذه الأيام.

ذات الأمر، شاهدناه فى مسلسل «زيزينيا»، فبجانب الشخصيات الرئيسية مثل بشر عامر وعايدة، نشاهد شخصية تعد من أجمل الشخصيات التى قدمت فى تاريخ الدراما وهى شخصية عبدالفتاح ضرغام الولى العاشق، الملسوع بحب عايدة، والتائه ما بين الولاية

والزهد وعشقه الصوفى لعايدة، وكذلك شخصيات شارع زنانيرى، وشخصية خميس شقيق بشر عامر الذى يحمل بداخله عقدا وتركيبة نفسية معقدة ولكنه طيب القلب

وهنا تأتى روعة الصنعة العكاشية، فالاهتمام بالشخصيات المساعدة والثانوية لا يقل عن الاهتمام بالشخصية الرئيسية، لذلك شاهدنا ممثلين لمعوا وبرزوا من خلال مسلسلاته أبرزهم سيد عبدالكريم،

محمد متولى، سيد عزمى، شوقى شامخ، عطية عويس، فتوح أحمد، وغيرهم كانوا نجومًا بسبب الصنعة العكاشية واهتمامها بالشخصيات الثانوية.

ثانى عنصر فى تحليلنا لأدب أسامة أنور عكاشة التليفزيون­ى هو الصراع، فهو ليس صراعًا ساذجًا بين جانب يمثل الخير وجانب يمثل الشر، هو صراع ما بين أفكار ومبادئ وقيم، يحملها كل طرف، صراع يمثل مرحلة زمنية تعيشها مصر بكل تعقيداتها التاريخية والسياسية والاجتماعي­ة، ففى «الشهد والدموع» صراع حافظ وشوقى، انتهى لصالح حافظ، وتوفى شوقى طريد جنة رضوان، ولكن امتدت آثاره وتأثيره على الأجيال التالية وتحديدًا الأبناء ودفع حافظ ثمنه غاليًا فيما بعد، وانتهى الأمر بتصوفه وهزيمته أمام نفسه.

والصراع الأشهر فى «ليالى الحلمية» ما بين الباشا سليم البدرى والعمدة سليمان غانم، هو صراع يجسد

مرحلة هامة فى تاريخ مصر، وصراع فى عمقه إنسانى، فى سليم البدرى يحافظ على إرث والده، وسليمان غانم يحاول رد شرف والده وهيبته كفلاح كسر وهزم أمام إسماعيل البدرى، ليتعقد الصراع بينهما وينتج عنه تركيبة إنسانية ودرامية لم ولن تشهدها الدراما حتى الآن، على وزهرة وعادل.

والصراع العكاشى ليس بين طرفين أو قوتين فقط، فقد يكون صراعًا بين الإنسان وزمنه وعصره، مثل صراع حسن أرابيسك مع زمنه، فهو لا ينتمى لهذا العالم، هو غريب عنه، لذلك ليس لديه مانع فى هد المعبد من أساسه لمحاولة فهم جذوره وأصله، ونفس الأمر يتكرر مع أبوالعلا البشرى المصلح الاجتماعى الذى يحارب طواحين الزمن من أجل إثبات مبادئه وأفكاره.

الحوار عند أسامة أنور عكاشة من أهم أدواته، فثقافته وإطلاعه لم يجعلا حواره منمقًا أو يخص فئة معينة هى المثقفين، بل كان حوارًا شعبيًا فى كثير من الأحيان، ممتلئ بكثير بالتشبيهات الشعبية الحقيقية والواقعية، والأهم إنه مناسب لكل شخصيات، وإن يعاب عليه المباشرة فى بعض الأحيان لكنها كانت مناسبة لإيقاع هذا العصر واعترف بها عكاشة فى بعض الأعمال على رأسها «ضمير أبلة حكمت».

ويعد مشهد حوار د برهان والاستاذ وفائى فى «أرابيسك» أروع تجسيد على براعة الحوار عند أسامة أنور عكاشة.

الإيقاع عند أسامة أنور عكاشة هادئ فى كثير من الأحيان، لا تحتوى الحلقة الواحدة على أكثر من «بلوت» بلغة كتاب السيناريو، فأنت كمشاهد تتعلق بالدراما، وتعيش مع الشخصيات وصعودها وهبوطها، فى إيقاع هادئ فى كثير من الحلقات، وليس شرطًا أن ينتهى المسلسل بنهاية مغلقة ترضى وتشبع المشاهد بل فى كثير من الأحيان هى نهاية مفتوحة، قد لا ترضى المشاهد لكنها ترضى المنطق والواقع لأنها نهاية واقعية.

هل كان أسامة أنور عكاشة يهتم بالصنعة أو الحرفة الدرامية فقط؟ بمعنى أكثر وضوحًا، هل كان يقتصر قلمه على عدد الحلقات والصراعات بين الشخصيات أم كان يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك، قضايا وأفكار وتساؤلات عميقة توجد خلف أعماله، هموم وهواجس تسيطر عليه ويشاركنا فيها من خلال شخصياته بطبيعة وبدون مباشرة.

أكثر القضايا التى اهتم عكاشة بمناقشتها هى هوية مصر والبحث عنها، وما هو أصلنا وجذرنا الحقيقى، وهل نحن خليط ما بين الحضارات والأعراق المختلفة أم ننتمى لأصل واحد، وهل يصح الترقيع ما بين كل تلك الحضارات كما حاول دكتور برهان وزوجته الدكتور ممتاز أم الحل هو الهد والثورة والبحث عن الاسباب والجذور كما فعل حسن أرابيسك.

من القضايا والتساؤلات التى طرحها عكاشة كذلك هى: «هل هناك علاقة حب حقيقية فى هذا الزمن؟ وهل الحب الرومانسى سيصمد أمام الطموحات المادية والحياتية؟ وهل الحب وحده يكفى أم هناك أشياء أخرى»!؟ فعلى وزهرة، بشر وعايدة، حسن وأنوار، حسن وتوحيدة، ناجى وقمر السماحى، هشام أنيس وأمل صبور، مجدى البشرى ونجوى حتى سيد العجاتى وشاهندة فى رواية «منخفض الهند الموسمى .»

من القضايا التى طرحها الأدب العكاشى التليفزيون­ى كذلك، هى مدى قدرة الإنسان على الصمود أمام الضغوط؟ مدى صموده أمام قوى المال والنفوذ والسلطة، فإذا واجهتك قوى مثل فضة المعداوى، هل ستنجح فى مقاومتها أم سترفع الرايا البيضاء؟ هل سينجح ناجى السماحى فى كشف الفساد أم سيدهسه الفساد ويقتله فى النهاية مثل قتل والده على يد الاستعمار، هل سيصمد فن حسن أرابيسك أمام أموال ونفوذ رمضان الخضرى؟!، هل ستصمد سوكا وتحافظ على اخواتها وأشقاءها أم سيتغيرون بتغير الزمن ويتركونها وحدها بعدما أفنت عمرها من أجلهم؟!

بجانب ذلك نحن أمام وجهة نظر لمبدع فى أحداث تاريخية، فعلى الرغم من ميول عكاشة الناصرية إلا أنه تناول عيوب الحقبة الناصرية بكل موضوعية فى الجزء الثالث من «ليالى الحلمية،» ولم يشيطن عصر السادات بل حلل فساده بموضوعية وعمق، وفى النهاية ناقش تاريخ 4 حقب فى تاريخ مصر منذ الأربعينات حتى التسعينات فى ليالى الحملية بأجزائه الخمسة، لذلك لا نبالغ إذا قلنا إن من يريد معرفة تاريخ مصر من خلال شخصيات لحم ودم عليه بمشاهدة «ليالى الحلمية .»

كل الأسباب التى ذكرناها، جعلت أدب عكاشة يستمر ويبقى، ويمتد تأثيره حتى بعد وفاته ب13 عامًا، فعكاشة كان وسيظل رائدًا للأدب التليفزيون­ى.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Egypt