Al Masry Al Youm

لا انتصار حاسما فى أوكرانيا

هدف الأوكرانيي­ن هو أن يدفعوا روسيا إلى الاقتناع، عند نقطة ما، بأن عوائد هذه الحرب لا تُكافئ الكُلفة من ورائها. هذا ما يُفسر تشبثهم بالمواقع على هذا النحو المُذهل.

- ‪gamalx@ yahoo. com‬

تغير شكل الحرب كثيرا عبر التاريخ. التكنولوجي­ا كانت الدافع الأكبر للتغيير. العجلة، والحصان، والقوس والنشاب.. ثم البندقية والبارود.. كلها مثّلت نقلات حاسمة فى شكل الحروب، وطرائق شنها وإدارتها. بعض التغيرات منح ميزات حاسمة لشعوبٍ وأقوام، كما الحال مع البارود الذى مهد للتفوق الغربى الساحق على السكان الأصليين لأمريكتين، وغيرهم من شعوب الحضارات القديمة كالهند والصين والشرق الأوسط وإفريقيا. آخر التطورات التكنولوجي­ة الحاسمة ظهر فى الفترة ما بين الحربين العالميتين، مُتمثلا فى الطيران والرادار والمدرعات. ويرى الكثيرون أننا نعيش اليوم واحدة من هذه اللحظات التى تشهد نقلة أخرى كبرى - ربما أشد أثرا من أى نقلة سابقة فى التاريخفى التكنولوجي­ا العسكرية. أتاحت هذه النقلة استهدافا فائق الدقة لأهداف، من مسافات بعيدة للغاية، وبسرعات غير مسبوقة، فضلا عن توظيف تطبيقات الذكاء الاصطناعى بداية من الروبوتات، وانتهاء باستخدام هذا النوع من الذكاء فى اتخاذ القرار العسكرى.

على أن هذه التطورات كافة لم تغير فى طبيعة الحرب نفسها، منذ فجر التاريخ وإلى اليوم. الحرب نشاط يقوم على استخدام العنف المنظم من جانب جماعة بشرية لإجبار جماعة بشرية أخرى على القيام بأمر معين. كانت الحرب، ومازالت وستظل، عملية بالغة الخطورة، مشحونة بانعدام اليقين، ومليئة بالمفاجآت غير المتوقعة. الحروب نشاط بشرى، ولذلك فهى أيضا مُفعمة بشتى أنواع العواطف والانفعالا­ت: الخوف والغرور والاعتداد بالذات والكراهية وإنكار الواقع والرغبة فى الانتقام... إلخ.

هذه الانفعالات والمشاعر، التى عادة ما تُصاحب ظاهرة الحرب، هى ما تجعل التنبؤ بنتيجة العمل العسكرى أمرا عصيا حتى على أعتى المحللين. من الصعب للغاية الإحاطة بتفاعلات تنصهر فيها العواطف والانفعالا­ت، جنبا إلى جنب مع الحديد والنار والتكنولوج­يا. ربما الأصعب، خاصة فى الحروب الحديثة، أن يقف المرء على الأهداف الحقيقية لأطراف المتقاتلة، وأن يتصور بالتالى ما يُمكن أن تؤول إليه نتائج العمل العسكرى من تحقيق الأهداف، بعضها أو كلها، من جانب هذا الطرف أو ذاك.

ومهما يكن من أمر، فالحروب فى النهاية تنتهى. لا حرب تستمر إلى الأبد. أى حرب تُفضى إلى تسويةٍ ما تعكس نتائج العمل العسكرى على الأرض. فى أغلب الحالات، خاصة فى الحروب الحديثة، يندر أن يُحقق طرف من الأطراف مطالبه كاملةً، إلا إذا أحرز نصرا حاسما ماحقا لا مِراء فيه، كمثل انتصار الحلفاء فى الحرب الثانية وفرضهم الاستسلام على ألمانيا واليابان. وحتى فى هذه الحالة، اقتضى الأمر تسويات ومفاوضات لما بعد الحرب. انتهت هذه التسويات إلى وقوع أوروبا الشرقية كلها، وبعد تحريرها من النازى، فى قبضة أحد الحلفاء، هو الاتحاد السوفيتى.

تظهر هذه التعقيدات على نحوٍ واضح فى الحرب الدائرة فى أوكرانيا. تدور رُحى الحرب بلا هوادة فى مدنٍ أوكرانية، بما يُعطى الانطباع أن الهدف الرئيسى الذى يسعى إليه الطرفان هو السيطرة على الأرض. روسيا ترغب فى الاحتفاظ بالأقاليم الأربعة التى أعلنت ضمها فى الشرق، فضلا عن تثبيت وضع القرم. أوكرانيا تُريد تحرير الأرض التى احتلها الروس، والعودة إلى خطوط فبراير 2022، وفى مقولة أخرى خطوط فبراير 20١4، أو خطوط ١99١ )أى تحرير القرم أيضا(.

النظرة المُدققة تكشف أن هذا الانطباع ليس صحيحا، أو ليس مكتملا فى أقل تقدير. الأرض، والسيطرة عليها، جزءٌ من هذه الحرب بلا شك. على أن الحرب تدور على شىء آخر، أهم وأثمن كثيرا للطرفين المتقاتلين: بقاء أوكرانيا كدولة مستقلة ذات سيادة، وحقها فى الانضمام إلى الكتلة الدولية أو الحلف الذى تراه مُحققا لمصالحها الوطنية. هذا هو جوهر الحرب الدائرة. الصراع بين الخصمين يدور حول هذه النقطة الحاسمة: هل تظل أوكرانيا دولة مُستقلة، أم أنها - كما أعلن الرئيس بوتين فى بداية الحربليست دولة من الأصل، بل هى كيان مارق عن «الأم روسيا» ويحكمها عُصبة من «النازيين» لابد من تخليص البلاد من شرورهم؟.

من دون هذا الفهم لطبيعة الصراع، يصعب علينا الإحاطة بتحركات طرفيه وتكتيكاتهم المختلفة فى إدارة الحرب. بل يصير من العسير تفسير بعض «الرسائل» التى يتبادلها الطرفان فى ميادين القتال المُشتعلة. مثلا: استمر القتال فى مدينة صغيرة، هى «باخموت»، على مدى الشهور الماضية. اختلف الخُبراء فى تحديد الفائدة الاستراتيج­ية من المدينة، ولكنها - لسببٍ أو لآخر- صارت اختبارا مهما للإرادة.. إرادة طرفى القتال وقدرتهم على تحقيق الانتصار فى المعركة. الجانب الروسى وظّف مجموعة المرتزقة «فاجنر»، التى استعانت بدورها بآلاف من «المحكومين» من السجون، وألقتهم فى ميدان القتال باعتبار أنهم «أدوات» غير مكلفة، وتُساعد فى إرهاق الجيش الأوكرانى، فضلا عن الكشف عن مواقع القوات وتكتيكات القتال.

على الجانب الآخر، اعتبر الأوكرانيو­ن أن

هذه المعركة، التى تدور فى مدينة صغيرة، مهمة للغاية لإثبات قدرتهم على الصمود وإدارة قتال فعّال ومكلف للغاية للطرف الآخر، خاصة فى العنصر البشرى )الخسائر الروسية فى القتلى تجاوزت 20 ألفا باعتراف مؤسس جماعة فاجنر وقائدها(. هذه الرسالة، على ما تنطوى عليه من تضحيات كبيرة تكبدها الجانب الأوكرانى، حرصت كييف على إرسالها، ليس إلى موسكو، بمستوييها السياسى والعسكرى على حدٍ سواء، ولكن أيضا للحلفاء الغربيين. هؤلاء الحلفاء يتعين أن يعرفوا أن كييف قادرة على تكبيد العدو خسائر فادحة فى ميدان صغير ك «باخموت»، وأنها مستعدة لاستيعاب السلاح، وامتلاك زمام المبادرة والتصدى إن لزم الأمر. الأرض هنا ليست العنصر الأهم. المهم هو الرسالة نفسها. لأن الهدف من المعركة كلها، سواء فى «باخموت» الصغيرة أو فى عموم أوكرانيا، ليس الأرض بالذات، وإنما «استقلال أوكرانيا». هذا الهدف يتحقق فى الميدان بإظهار الاستعداد للإقدام على تضحيات كبيرة، وإبراز القدرة على التشبث بالمواقع والصمود.

بهذا المعنى، يُمكن فهم تطورات العمليات العسكرية حتى الآن، بل ويُمكن استشراف المستقبل. استعادت أوكرانيا 50% من الأقاليم التى احتلتها روسيا منذ بدء الحرب. هذا حدث بعد أن ظن الجميع، بمن فيهم جمهرة الخبراء العسكريين الغربيين، أن كييف سوف تسقط فى 72 ساعة لا غير. الوضع اليوم مختلف جوهريا. أوكرانيا تتحضر لهجوم مُضاد، وروسيا جربت هجمات لم تحقق الأهداف المطلوبة فى فصل الشتاء الماضى، وقبله. هى الآن تنتظر الهجوم الأوكرانى بعد أن استعدت له على نحو أفضل باستيعاب دروس المعركة. هذا فى حد ذاته يُمثل انتصارا كبيرا لأوكرانيا، لا سيما بالنظر إلى ما ذكرناه عما يُغلف الحرب من نزعات عاطفية وانفعالية وسيكولوجية، وكذا بالنظر إلى الطبيعة «غير الملموسة»، إن جاز التعبير، لأهداف هذه الحرب كما يتصورها الطرفان.

هدف الأوكرانيي­ن هو أن يدفعوا روسيا إلى الاقتناع، عند نقطة ما، بأن عوائد هذه الحرب لا تُكافئ الكُلفة من ورائها. هذا ما يُفسر تشبثهم بالمواقع على هذا النحو المُذهل. هدف الروس هو أن يُظهروا لأوكرانيين أن الحرب سوف تستمر إلى النقطة التى يشعر فيها حلفاء أوكرانيا الغربيون بأن الكُلفة تجاوزت العائد، وبالتالى يتخلون عن كييف. هذه الأهداف المتضاربة تجرى «تسويتها» فى الميدان، بالدم والنار. ما يُسمى الهجوم المُضاد الأوكرانى سيمثل منعطفا حاسما. قد ينجح هذا الهجوم بشكل كاسح )وإن كان هذا مُستبعدا بسبب تحسن الأداء القتالى لروسيا واستيعابها الأخطاء(، وقد ينجح نجاحا جزئيا أو محدودا، وقد يفشل، بطبيعة الحال. على أساس نتيجة الهجوم سوف تتحدد النتيجة النهائية للحرب. على أن هذه النتيجة، فى الأغلب، لن تكون حاسمة فى صالح أى من الطرفين. لن تتمكن روسيا من تحقيق هدفها النهائى بكسر إرادة أوكرانيا، ومحو استقلالها. هذا صار واضحا اليوم، بعد أكثر من عام على بدء العمليات القتالية. لن تتمكن أوكرانيا، فى المقابل، من تحرير كل أقاليمها التى احتُلت. هذا أبعد من قدراتها، ويتجاوز الاستعداد الغربى للدعم والمُساعدة. النتيجة ستكون، كما هو الحال فى كافة الحروب، «تسوية ما» بين هذا وذاك.. تحفظ لأوكرانيا استقلالها، ولموسكو ماء وجهها.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Egypt