Al Masry Al Youm

المثقف والسياسى.. أندريه مالرو وشارل ديجول

المثقف )الوطنى( يملك الفكر والخيال والرؤية والوعى التاريخى النقدى وحلم التغيير والتجديد، والسياسى ورجل الدولة )الوطنى( يملك الإرادة وأدوات السلطة والرؤية الواقعية التى تمكنه من إحداث التغيير على الأرض وجعل ما ينبغى أن يكون هو الكائن بالفعل.

- د. أحمد عبدالعال عمر يكتب:

المثقف الحقيقى ليس هو الإنسان الذى قرأ الكتب وحصل على أعلى الدرجات العلمية والمناصب التنفيذية وعاش فى برجه العاجى منفصلً عن مشكلت الواقع والمجتمع حوله، بل هو فى معناه الدقيق الأكثر شمولًا الإنسان المُتعلم الذى يشتبك مع مشكلت وقضايا مجتمعه وعصره بفهم عميق وقدرة على النقد والتحليل، مع امتلك شجاعة قول الحقيقة وإرادة السعى لجعل ما ينبغى أن يكون هو الكائن فى الحاضر والمستقبل، بعد التمييز بواقعية وفهم بين «ما هو كائن بالفعل فى الحاضر» وبين «ما ينبغى أن يكون فى المستقبل» وبين «ما يُمكن أن يتحقق على أرض الواقع مما ينبغى أن يكون» فى ضوء ظروف الواقع المحلى والإقليمى والدولى وخصوصية المرحلة التاريخية التى تمر بها بلده، وفى ضوء الإمكانات المتاحة.

وهذا يعنى أن عمل المثقف الحقيقى فى مجاله وجوهره وغايته يختلف عن مجال وجوهر وغاية عمل السياسى؛ فعمل المثقف «وصفى تقريرى» فى تحليله وتشريحه

بموضوعية ونزاهة لما هو كائن فى الحاضر والواقع، وهو كذلك عمل «معيارى» فى نقده لما هو كائن فى ضوء ما ينبغى أن يكون، وفى سعيه لجعل ما ينبغى أن يكون هو الكائن بالفعل فى وطنه ومجتمعه وعصره.

أما مجال عمل السياسى - فى الأغلب الأعم- هو الحاضر فقط، وغايته هى الدفاع دائمًا عما هو كائن فى الواقع، وتكريس حضوره وتجميله والترويج له باعتباره أقصى ما يمكن تحقيقه، مع فتح الباب لإمكانية التغيير فى المستقبل.

ومع ذلك فإن نظام الحكم الرشيد الذى يملك مشروعًا لنهضة وتقدم بلده لابد من أن يُقيم فضاءً للتواصل والحوار والتفاعل بين مجال عمل المثقف الوطنى وبين مجال عمل السياسى ورجل الدولة الوطنى، وردم الهوة بينهما لأنهما معًا ركيزة تقدم المجتمع والدولة؛ لأن المثقف )الوطنى( يملك الفكر والخيال والرؤية والوعى التاريخى النقدى وحلم التغيير والتجديد، والسياسى ورجل الدولة )الوطنى( يملك الإرادة وأدوات السلطة

والرؤية الواقعية التى تمكنه من إحداث التغيير على الأرض وجعل ما ينبغى أن يكون هو الكائن بالفعل.

وهذا هو الدرس الذى نتعلمه من قراءة كتاب «سقوط السنديان» الذى يعرض تفاصيل علقة نادرة وحوارًا ثريًا بين قائد عسكرى وزعيم سياسى عظيم هو الرئيس الفرنسى الراحل شارل ديجول )22 نوفمبر 1890 - 9 نوفمبر (1970 وبين فيلسوف ومفكر وكاتب روائى ومثقف تولى العديد من المسؤوليات فى جهاز الدولة الفرنسية وأشهر وزراء ثقافة فرنسا هو أندريه مالرو )3 نوفمبر 1901 – 23 نوفمبر (1973 اللذين جمع القدر بينهما فى لحظة فاصلة من تاريخ الجمهورية الفرنسية. كما يُعلمنا هذا الكتاب أيضًا أن مصير الأوطان يصبح أكثر وضوحًا وإيجابية عندما تُكمل رؤية رجل الفكر والخيال عمل رجل الفعل والسياسة، ويصبح غامضًا وسلبيًا عندما تتلشى الجسور فى مراحل بؤس الأوطان بين رجل الفكر وبين رجل السياسة ليعيش كل منهما فى جزيرة منعزلة عن الآخر.

الكتاب من تأليف أندريه مالرو ذاته، وهو يُوثق فيه تفاصيل آخر حوار دار بينه وبين زعيم ورمز فرنسا الأشهر الجنرال شارل ديجول قبل وفاته عام ،1970 بعد علقة مميزة بينهما امتدت لعقود طويلة سابقة، وهى العلقة التى جعلت أندريه مالرو يرى فى شارل ديجول أحد أهم رجال القدر فى تاريخ فرنسا؛ وهم الرجال الذين يظهرون فى مراحل تاريخية متباعدة أو متقاربة دون انتظار ليُحرضوا شعوبهم وأوطانهم على التغيير والبحث عن معانى وغايات جديدة للحياة، ثم ينتهون وتعود الحياة من بعد رحيلهم إلى سعيها الرتيب مع فارق بسيط هو ما تركوه من أثر فيها.

فى ثنايا الكتاب نجد شارل ديجول الذى عاد لحكم فرنسا مرة أخرى عام 1958 بعد أن ترك رئاسته الأولى عام 1946، يُعيب على الفرنسيين أنهم صاروا شعبا بل همة أو طموح وطنى، وأنهم لا يُريدون صُنع أى شىء من أجل فرنسا، ولهذا قال بحسم لأندريه مالرو: «يجب أن نعرف إذا كان الفرنسيون يريدون أن

يبعثوا فرنسا أو أن يناموا، أنا لن أبنيها من دونهم، لكننا سوف نُجدد المؤسسات، وسنُعيد إلى فرنسا نبلها ومكانتها».

وهذا ما تحقق بالفعل بعد أن نجح العسكرى والسياسى العظيم ورجل القدر شارل ديجول مدعومًا بدور ومعاونة ملحقه الإعلمى بمجلس الوزراء ووزير ثقافته لاحقًا أندريه مالرو فى تحفيز الفرنسيين للإصلح والتغيير وتأسيس الجمهورية الخامسة، وفى إقرار دستور جديد يُقوى الفصل بين السلطات مع تعزيز مكانة ودور رئيس الجمهورية، كما نجح طوال سنوات حكمه فى حماية وتعزيز هوية فرنسا الثقافية، وفى تحقيق استقلل سياسة بلده الخارجية عن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، قبل أن يستقيل من رئاسة الجمهورية الفرنسية عام 1969 وقبل وفاته عام 1970، لتسقط برحيله- كما كتب أندريه مالرو- شجرة السنديان الفرنسية الوارفة التى سوف تظل فى كل زمان ومكان سنديانًا شاهدًا على هشاشة سواها من أعشابٍ لا تُماثل شموخها أبدًا.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Egypt