Al Shabiba

الحب في الزمن الجميل

كان الحب جميلًا في الماضي، حب يقوم على الثقة والإخلاص لا يرتبط بالماديات، كان »عش الزوجية« يبدأ من لا شيء تقريبًا، ويمتلئ على مدى سنوات

-

تروي مـــا بيـــن الحبيبين من هيـــام ولهفة وغـــرام، ليظل الحب والتفاهم إلى ما شـــاء الله، ثـــم تمضي الأيام ليكون هـــذا الحب هو الطريق للزواج إن شـــاءت الظروف، ليأتي الأطفـــال ويكبرون وســـط حديقة غنّاء مـــن الحب والمودة والتفاهم بين أعضاء الأســـرة، ولم نلحـــظ ما نراه الآن من شـــحوب مشاعر العشـــق وتراجعها بســـبب روتين الحياة، فالروتيـــ­ن الذي نحيـــاه اليوم لم يختلـــف بالأمس، فروتين الحياة واحد مهما اختلفت العصور والأيام. ولكن في الزمن الجميـــل كان المحبـــون يتغلبون على أوجاعهـــم الحياتية، ولم نكن نســـمع كلمات مثل »الحب الذي بيننا انتهى« لأن الحـــب لا ينتهي ويظل رافـــدًا للعواطف بين المحبين وكل أعضاء الأســـرة، رغم كل مشـــاكل الحيـــاة اليومية آنذاك، وطبيعي أن يمر الجميع بمشـــاكل ولكـــن ليس معنى هذا إغفال حق الحب على الجميـــع. كان حديث المحبين تلفه المشاعر والذكريات الجميلة والرومانسي­ة وضوء الشموع، بما يذهب الفتور والملل والشعور بالحياة المملة.

في زمن الحب الجميل، كان العشق صافيًا للقلوب، ومن أجله يضحي الجميع بالغالي والنفيس لكي يظفر بقلب نقي عاشق مخلص لصاحبه، وليس قلبًا مجنونًا يمر بكل ألوان الطيف في الساعة الواحدة وليس اليوم الواحد، وربما في الدقيقة الواحدة تتغيّر مشـــاعره من حـــب إلى غضب إلى غيرة إلى كـــره إلى هجران إلى نســـيان.. الحب في الزمن الجميـــل كان شـــعاره »تقديس المحب«، وهـــذا المحب أو الآخر إنســـان واحد فقط لا غير وليس بعدد خطوط وأرقام الهواتـــف النقالـــة. الحب فـــي الزمن الجميـــل يختار المرء إنســـانة واحدة من بين عشـــرات أو مئات الأخريات، وهي كذلك تختار فارســـها من بين المئـــات، ويظل هو الحبيب والرفيـــق، وليـــس مجـــرد رقـــم أو اســـم وهمي فـــي قائمة الاتصـــال­ات علـــى الهاتف المحمول من بين أســـماء وهمية أخـــرى. الحب في الزمن الجميل ظـــل يرتوي يوميًا وليس مجـــرد يـــوم واحد في العام تحـــت عنوان »عيـــد الحب« أو »الفالانتين داي«، كانت الورود والزهور عنوانًا دائمًا للحب، وليس مجرد هدية عطر غالٍ أو رخيص مرة كل فترة. كانت العيون هـــي لغة الحب في الزمن الجميل، ومن قبل ذكرت محمد عبد المطلب ومشقته ليرى حبيبته، فالعيون هي لغة التواصل بين الأحبة، وليس »الشات« وصورة سريعة ليس بها روح. فـــي زمن الحب الجميل، انتظـــرت الفتاة حبيبها وفارســـها بهيئته وليس بما يمتلكه من ثروة وسلطة وجاه، وفـــي المقابل أيضًا لم يكن للرجل أكثر من فتاة أو حبيبة، فمن تسكن القلب تظل به إلى آخر العمر.

الحب في الزمن الجميل كان الشاب يفصح فيه عن مدى احتياجه لقلب حبيبته، حتى يشعر معها بالأمان وهي كذلك، أمان اليوم وغدًا، فشمس الحب زمان كانت تولّد دفئًا ونورًا يبدد ظلام الحياة وبرودتها. كان الشـــاب أو الفتاة يكتب أو تكتب عـــن كونها الرحب الذي زرعتـــه وردًا وأزهارًا للآخر، كان كل طـــرف يمثل للآخر أشـــعة الشـــمس ونـــور القمر والطبيب والدواء، كان مجرد الحديث بين الحبيبين أو حتى الرؤية كافيًـــا لتبديد الخوف، وعندمـــا كان يتعهد الحبيب بقطـــع البحـــار والمســـاف­ات والجبال لم يكن يهـــذي وإنما يتحـــدث بقوة لأنه قادر على فعل هذا وذاك. كان الحب في الزمـــن الجميل حصنًا من الأمان، حصنًا يملؤه الحب والود والمشـــاع­ر الفياضة، حصنًا به أحلى باقات الزهور والورود والفرحة بـــلا حدود، حصنًا يضم طائرين معًا في حالة هيام دائم، لا تكفي كل السموات لطيرانهما معًا متعانقين وهما ذاهبان لنجمة عالية في الســـماء، حصنًا من الربيع الدائم، حصنًا من الأشواق والحب والعواطف بلا حدود.

وبما أنني أتحدث عن حب الزمن الجميل، فلم يكن هجر الحبيب قرارًا دائمًا، فســـرعان ما يتم التراجع عنه، بسبب الأشـــواق الملتهبة ورغبة في اللقـــاء بعد طول انتظار، وقد عبّـــرت كلمـــات أحمد رامي عـــن الهجران فـــي »هجرتك« بصـــوت أم كلثـــوم، فيما فجّرت كلمات الشـــاعر مرســـي جميـــل عزيز مشـــاعر الانتظار فـــي رائعته »أنا بســـتناك« بصـــوت نجاة الصغيـــرة.. لقـــد انتابت أم كلثوم مشـــاعر متضاربة مـــا بين رغبتها في هجر حبيبهـــا وما بين القدرة على نســـيانه، وفي النهاية لم تســـتطع بسبب الحب حتى إنها فكّرت فيه وهي ناسية، فلم تستطع الهجران لأن هوى حبيبها يجري في دمها.

وما بين الهجـــر والانتظار كانت للحب معانٍ جميلة، حب تشعر به كل حواس الإنسان، حب عفيف طاهر، والأهم إنه حب دائم، لا ينشغل حبيب عن حبه، ويكون ادعاؤه انشغاله بعمله ومتاعبه ونومـــه المتواصل، فمع رحلة »هجرتك« لم تســـتطع أم كلثوم نســـيان المهاجر، ومع الشوق للحبيب انتظـــرت نجاة بقلبها وعيونها، فكان الحب الذي لا نشـــعر به الآن.

إنه حب الزمن الجميـــل الذي كان مثل الفجر تنبزغ منه الشـــمس، مثل الزهرة تحتاج للماء كي تزهر وتنبت، وماء الحـــب لا ينضب، خاصـــة إذا اعتبرنـــا أن »كل ما لا يتجدد يتدهور«، وهذا هو الحب، يحتاج إلى تجديد حتى لا تعطش مســـامه وتجف، حب يتأسس بالتفاهم وليس بالاعتذارا­ت والبُعـــد والتعلل بأســـباب واهيـــة؛ لأن الحـــب احتواء مثل الشجرة التي تروى بالماء باستمرار، والحب في حاجة إلى الصـــدق والثقة كالنبتة إذا أهملناها ذبلت، والحب يتطلب ارتواء عواطفه حتى لا يقضي عليه الروتين اليومي للحياة، ومع ذلك نحن في انتظار »الفجر« لأننا لن نفرّط فيه.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Oman