أوراق أوروبية
يبـــدو أن التحالف عبر الأطلســـي -الذي أ ســـس لعقـــود من الزمن للاستقرار العالمي، وحَ صن الديمقراطية، وصان الغرب كما نعرفه- أصبح خاضعاً لضغوط شـــديدة، وبات مهـــدداً بالانهيار إلى الأبد. ولا شـــك أن الرئيـــس الأمريكي دونالد ترامب -الـــذي دأب على تحدي تحالفـــات أمريـــكا التقليدية، بما فـــي ذلك من خـــلال الهجوم على منظمة حلف شـــمال الأطلســـي- يتحمّل قدراً كبيراً من المسؤولية عن هذا التدهور. ولكن أوروبا، من خلال تقاعسها، ساهمت أيضاً في بلوغ هذه الحال -والآن يتعيّن عليها أن تسهم في إصلاحها.
يتفـــق القادة الأوروبيـــون على أن الهيكل المؤسســـي الحالي في منطقة اليورو معيب، وهم يعرفون ماذا يتعيّن عليهم أن يفعلوا. ولكن تظل آفة الجمـــود متمكنة منهم، ويقيّد الاتجـــاه المحافظ حركتهم، وتشغلهم السياســـة الداخلية، ويســـمح العديد من القادة لأنفسهم بالوقوع رهينة للتشكك الشعبوي في أوروبا. وقد فشلوا نتيجة لهذا في اتخاذ الخطوات اللازمة لضمان استقرار الاتحاد الأوروبي في الأمد البعيـــد، بما في ذلك الاتحاد المصرفي الكامل لدعم الموارد المالية الأوروبيـــة ونظام حقيقـــي للحوكمة الاقتصادية علـــى نطاق الاتحاد الأوروبـــي بالكامل.الخبر الســـار هنا هو أن الدعم الشـــعبي للاتحاد الأوروبي تحسّن بشكل ملحوظ منذ صوتت المملكة المتحدة لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي في يونيو 2016، الأمر الذي أتاح الفرصة لإحداث إصلاح حقيقي. ولكن نافذة الفرصة لن تظل مفتوحة لفترة طويلة. وحتى الآن، فشـــل قادة الاتحاد الأوروبي في الاســـتفادة من الدعم المتجدد للمشـــروع الأوروبي لعرض الحجج الداعمة للتغيير. هذا لا يعني أن الخطوات الإيجابية غائبة تماماً. ففي تناقض مرحّب به مع نزوع ترامب الجاهل نحو فرض تدابير الحماية، واصل الاتحاد الأوروبـــي دفع عجلة التجارة الحرة، من خلال إبرام اتفاقيات تجارية مع كندا واليابان، وفتح المفاوضات مع أســـتراليا، وكتلة ميركوسور في أمريكا اللاتينية، ونيوزيلندا. ولا بد أن يكون أداء قادة أوروبا أفضل فـــي التواصـــل مع المســـتفيدين المحتمليـــن من اضطـــلاع الاتحاد الأوروبـــي بوضـــع قواعـــد التجارة العالمية.
وينطبـــق الأمـــر نفســـه علـــى المجـــالات الأخـــرى حيـــث يُبدي الاتحـــاد الأوروبي زعامتـــه القيمة. على سبيل المثال، تقود المفوضية الأوروبيـــة الطريق نحو كبح جماح إساءة اســـتخدام انفتاح الحساب الرأسمالي -وبشـــكل خاص، من خلال الحد مـــن التهرب الضريبي مـــن جانـــب الشـــركات متعـــددة الجنسيات داخل الاتحاد الأوروبي وأماكـــن أخرى.وينبغـــي للقـــادة الأوروبييـــن أن يعملـــوا على إبراز هـــذه الجهود. فبعد مـــرور ما يزيد على العام قليـــلاً منذ أكدت أوراق بنما علـــى حجم التهرب الضريبي من قِبَل أثريـــاء العالم، جاء إطلاق مـــا يُســـمى »أوراق الفـــردوس« ليفضـــح مرة أخرى أولئك الذين ضخـــوا مبالغ طائلة من المال إلى ملاذات ضريبية آمنة في الخارج -بما في ذلك عدد كبير من الوزراء فـــي حكومة ترامب. والآن حان الوقت لكـــي يعكف الاتحاد الأوروبي على وضع ســـجل عام كامل لمالكي الائتمان المستفيدين، في حين يضاعف جهوده في سبيل الإصلاح العالمي.
ومن الخطـــوات الأخرى الإيجابيـــة التي من المتوقـــع أن يتخذها الاتحاد الأوروبي هذا الشهر، في إطار قمة جوتنبرج الاجتماعية، إقرار الدعامـــة الأوروبية للحقوق الاجتماعية مـــن قِبَل المجلس الأوروبي، والمفوضيـــة الأوروبية، والبرلمان الأوروبي. تركـــز الدعامة الأوروبية للحقوق الاجتماعية على ضمان تكافؤ الفرص والقدرة على الوصول إلى ســـوق العمـــل، وظروف العمـــل العادلة، والحمايـــة الاجتماعية والإدمـــاج..إذا أخفـــق الاتحاد الأوروبـــي في اغتنـــام الفرصة لتنفيذ الإصلاحات الفعّالة، فقد تستعيد الاتجاهات السياسية غير الليبرالية داخل الكتلة قوتها، وخاصة إذا سُـــمِح للـــدول الأعضاء التي تتحرك بالفعل في هذا الاتجاه -بولندا والمجر على وجه التحديد- بالاستمرار على مسارها الحالي. وخارج حدود الاتحاد الأوروبي، يتعيّن على قادة الكتلة أن يســـارعوا إلى عرض نوع جديد من العلاقات لا يقوم على الانضمام إلى الاتحـــاد الأوروبي في نهاية المطاف على تركيا، حيث ركز الرئيس رجب طيب أردوجان السلطة السياسية بين يديه.
لا تملك أوروبا أي اختيار سوى التحرك الآن. فعلى نحو شبه يومي، تظهر أدلة جديدة تشـــير إلى أن ترامـــب يظل ملتزماً بنهج »أمريكا أولاً«، الـــذي يتبـــرأ مـــن دور الولايـــات المتحدة التقليـــدي بوصفها المدافع الرئيسي عن الديمقراطية الليبرالية. وسيواصل الشعبويون -المنتمـــون إلى اليمين والأنظمة الاســـتبدادية في أوروبا وغيرهامســـاعيهم الرامية إلى اســـتغلال فراغ الزعامـــة العالمية الناتج عن انسحاب الولايات المتحدة. والسبيل الوحيد لحماية النظام العالمي الليبرالي هو أن تتقدم قوى أخرى -بدءاً بالاتحاد الأوروبي- لشـــغل الفراغ.يتعيّن على قادة العالَم أن يقاوموا ضغوط القَبَلية السياســـية قصيرة الأجـــل وأن يتصدوا للتحديات الجيوسياســـية والاقتصادية التي تنتظرهم. وسيفشـــل الشـــعبويون وأنصار تدابير الحماية من اليمين واليسار حتماً في الوفاء بوعودهم التبسيطية. ولكن لا بد أن تكون القوى الوسطية والتقدمية في أوروبا جاهزة ومستعدة.
الأدلة تشي بالتزام ترامب ب B »أمريكا أولاً « متبرئاً من دور بلاده في الدفاع عن الديمقراطية الليبرالية