هواجس ألمانية
في حين يســـعى حزب الاتحاد الديمقراطي المســـيحي، وشـــقيقه البافاري حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي، إلى تشكيل »ائتلاف كبير« غير مســـبوق مع حـــزب الديمقراطيين الأحـــرار الليبرالي، وحزب الخُضر، تنتظر بقية أوروبا بقلق شـــديد البرنامج الحكومي الذي سينتج عن المفاوضات بين هذه الأحزاب.
الواقـــع أن المخاطر مرتفعة بالنســـبة لأوروبا؛ لأننـــا نعيش وقتاً غير عـــادي. فمع ظهور النزعـــة القومية الاقتصاديـــة، والتهديدات الأمنية المتنامية، وأزمة اللاجئين المستمرة، أصبحت الاستجابات الجمعيـــة أكثر ضرورة. كمـــا أصبحت الصين متزايـــدة العدوانية، وأوضحت إدارة الرئيـــس الأمريكي دونالد ترامب ازدراءها للاتحاد الأوروبي وتشككها في قوة الاقتصاد الألماني.
وفي الداخل، يخضع الأســـاس المنطقي الذي يقوم عليه الاتحاد الأوروبي للاختبـــار بفِعل الخروج البريطاني، فضلاً عن الحكومتين العصيتين فـــي بولندا والمجـــر -الدولتين اللتين ذَكَر كونســـتانز ســـتيلزنمولر من مؤسسة بروكنجز مؤخراً أنهما تستمتعان بفوائد عضوية الاتحاد الأوروبي وتتجاهلان ما يقابلها من التزامات.
في هذا السياق، كان انتخاب إيمانويل ماكرون رئيساً لفرنسا في مايو بمثابة الإغاثة لألمانيا. غير أن ماكرون وضع ألمانيا في موقف غير مريـــح يضطرها إلى الرد على مقترحاته بشـــأن الإصلاح على مســـتوى الاتحاد الأوروبي. فمن خلال الدعوة إلى إنشـــاء صندوق دفاع مشـــترك للاتحاد الأوروبي، والتنســـيق الضريبـــي، وميزانية مشـــتركة لمنطقة اليورو، يقلب ماكرون الوضـــع الراهن الأوروبي رأســـاً على عقب.السؤال الآن هو ما إذا كانت الدولة الأكبر والأكثر ازدهـــاراً في أوروبا ســـتوفر الزعامـــة التي تتطلبها هـــذه الأوقات العصيبة. الواقع أن كل حزب في محادثات الائتلاف يجلب منظوراً مختلفاً للغاية إلى الطاولة. فعندما يتعلق الأمر بالشؤون الأوروبية، يجلـــب حزب أنجيلا ميركل الاتحاد الديمقراطي المســـيحي، الذي ظل في الســـلطة لمدة 12 سنة متتالية، الاستمرارية إلى الطاولة، ولكـــن حزب الاتحاد الاجتماعي المســـيحي الأكثر محافظة ينجذب باتجاه اليمين بفعل المنافســـة التي يلقاها من الحزب الشـــعبوي البديل من أجـــل ألمانيا.أما عن الحزبين الآخرين، فقد تبنّى حزب الديمقراطييـــن الأحرار خطاً صارماً في التعامـــل مع أوروبا، حيث اقترح قادته أن اليونان ينبغي لها أن تترك اليورو، وأن آلية الاتحاد الأوروبي لإنقاذ الـــدول المتعثرة لا بد أن تُفَ كك. ومن ناحية أخرى، يحـــرص حزب الخُضر علـــى تعميق التكامـــل الأوروبي، ولكن هذا ليس أولويته الأولى، وهو الحزب الأصغر حجماً على الطاولة.
فـــي نهاية المطـــاف، من المرجـــح أن يعكس برنامـــج الحكومة الجديدة الاشـــتباه فـــي رغبة الـــدول الأعضاء الأخرى فـــي الاتحاد الأوروبـــي فـــي حل مشـــاكلها بالاســـتعانة بأموال ألمانيـــة بدلاً من تطبيق إصلاحات داخلية. ويقيم الساسة وصنّاع الرأي الألمان كل اقتراح على مستوى الاتحاد الأوروبي تقريباً من خلال هذا المنشور التوزيعـــي. وعلـــى نحو روتيني يجري تشـــريح المخططات التي لا يُقصد منهـــا أن تؤدي إلى عمليات تحويل بنيوية للتأكيد على أنها لن تتحوّل إلى موزعات نقدية لأعضاء آخرين في الاتحاد الأوروبي. على ســـبيل المثـــال، ينظـــر الألمان إلـــى الميزانية المشـــتركة ليـــس باعتبارهـــا وســـيلة لتمويـــل الســـلع العامـــة مثـــل البحـــوث أو البنيـــة الأساســـية، بـــل كوســـيلة لإجبـــار ألمانيا علـــى تغطية نفقات دول أخـــرى. وعلـــى نحـــو مماثل، يُنظَـــر إلى التأمين المشـــترك ضد البطالـــة علـــى أنه مخطـــط لحمل الألمان على تعويض عمال إســـبان أو فرنســـيين عاطلين. كمـــا يعتبر برنامج ضمان ودائع البنوك وسيلة لإرغام المودعين الألمان على سداد قروض معدومة في إيطاليا.
مـــن المؤكـــد أن كلاً مـــن هـــذه المخاوف قـــد يكون مشـــروعاً. ولا شـــك أن كل المقترحـــات ينبغـــي التدقيـــق فيها لضمان عدم إســـاءة اســـتعمالها أو إحـــداث مخاطـــر أخلاقيـــة. والتضامـــن الأوروبـــي لا يجري في اتجاه واحد.
ولكن فـــي الوقت نفســـه، يتعيّن على القادة الألمان أن يدركوا أن تركيزهم الحصري على التأثيرات التوزيعية أمـــر هَدّام للغاية. وينبغي لهـــم أن يتذكروا تلك اللحظة في العام 1979 عندما ذهبت رئيســـة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشـــر إلى القمة الأوروبية وقالت: »أريد اســـترداد أموالي«. وكان نفـــس المنطق معروضاً بعد ما يقرب من الأربعين عاماً خلال حملة الخروج البريطاني، عندما زعم الساســـة من أنصار »الخروج« كذباً أن الانســـحاب من الاتحاد الأوروبي من شـــأنه أن »يُعيد المال« إلى هيئة الخدمات الصحية الوطنية.
ولكـــن لماذا أصبحـــت ألمانيا مهووســـة بالخوف مـــن دفع ثمن أكبـــر مما ينبغي؟ تحتوي ميزانية الاتحاد الأوروبي على الكثير مما يســـتحق الانتقاد، ولكنها لا تعامل ألمانيا بشـــكل غير عادل. ربما تكون ألمانيا المســـاهم الأكبر، ولكن هذا يرجع إلى كونها صاحبة أكبر اقتصاد. وكنسبة من الدخل الوطني، تساهم دول مثل بلجيكا وفرنسا وهولندا أيضاً بحصة كبيرة من صافي دخلها.
وعلى نحو مماثل، لا تســـتند المخـــاوف الألمانية التي تتمثل في أن آلية الاســـتقرار الأوروبي تخدم كقناة لعمليات تحويل مســـتترة إلى أي أســـاس من الصحة. صحيـــح أن آلية الاســـتقرار الأوروبي تســـتفيد من تكاليف الاقتراض المنخفضة، التـــي يجري تمريرها في الأســـاس إلى الدول المقترضة. فإذا عجزت اليونان عن ســـداد ديونها، فسوف يعاني المساهمون في آلية الاستقرار الأوروبي من الخســـارة، ولا يعبر ســـعر الفائدة الذي تدفعه اليونان عن ثمن هذا الخطر. ولكن حتى الآن، كانت آلية الاستقرار الأوروبي تحقق ربحاً ثابتاً، وأي خسارة تتعرض لها سيجري نشرها بين كل المساهمين -بما في ذلك إيطاليا على سبيل المثال. وآلية الاستقرار الأوروبي بعيدة كل البعد عن كونها آلية دعم يموّلها دافعو الضرائب الألمان.
كما يشجب بعض الناس في ألمانيا ما يُسمى أرصدة تارجت 2، والتي تســـجل الفوائض الثنائية وعجز البنـــوك المركزية الوطنية فـــي مواجهة البنـــك المركزي الأوروبي. على ســـبيل المثال، يزعم الاقتصـــادي هانز فيرنر سِـــن من جامعة ميونيـــخ أن نظام تارجت تحوّل إلى قناة لعمليات مســـتترة تستفيد منها الدول المدينة في جنوب أوروبـــا. صحيح أن صافـــي الفائض لدى البنـــك المركزي الألمانـــي بلـــغ 878 بليون يورو (1.2 تريليـــون دولار أمريكي) في ســـبتمبر في مواجهة البنك المركزي الأوروبي، في حين بلغ العجز في إيطاليا 432 بليون يورو وفي إسبانيا 373 بليون يورو. وتعكس هذه المواقف الدرجة التي ما تزال التدفقات الرسمية عندها تحل بديلاً للتدفقات الخاصة.ولكن مـــرة أخرى، لم يكل ف هذا الترتيب ألمانيا ولو يورو واحداً. بل على العكس من ذلك، يُعَد نظام تارجت في الأســـاس مخططـــاً للتأمين الجمعي: فـــإذا تخلّف بنك مركزي وطنـــي عن الســـداد، توزع الخســـارة بين المســـاهمين في البنك المركـــزي الأوروبـــي. وبالتالي فإن هذا النظام يســـمح للمصدّرين الألمان بالاستمرار في بيع منتجاتهم في جنوب أوروبا؛ لأنه يضمن السداد. والادعاء بأن ألمانيا تخسر من هذا كاذب ببساطة.
مـــن مصلحـــة أي حزب سياســـي دومـــاً أن يســـتجيب لمخاوف الناخبين. ولكن من واجب الساســـة أيضاً أن يبلغوا الناخبين متى يتبيّن لهم أن مخاوفهم مفرطة أو لا أساس لها من الصحة. وتحتاج أوروبـــا إلى ألمانيا التـــي لا تتردد في الاعتـــراض على المقترحات غير المدروسة، ولكنها تحتاج أيضاً إلى ألمانيا القادرة على التغلّب على هواجسها ضيقة الأفق وتقديم الزعامة.
فـــي إطـــار محادثات الائتـــلاف الحاليـــة، يحظى القـــادة الألمان بالفرصة لتقييم التطورات العالمية الجديدة التي ستخلّف عواقب بعيدة المدى على أوروبا وألمانيا على حد سواء. ويتعيّن عليهم أن يقرروا ما إذا كان التقاعس عن التحرك أشـــد خطراً أو تولي زمام المبـــادرة. لا أحد يتوقع تحولاً كاملاً. ولكننا نأمل في الفوز بحكومة أكثر استعداداً لتقديم الحلول.
ينظر الألمان إلى الميزانية المشتركة ليس باعتبارها وسيلة للتمويل بل لإجبار ألمانيا على تغطية نفقات دول أخرى
أستاذ في كلية هيرتي للإدارة في برلين، ويشغل حالياً منصب المفوض العام لشؤون التخطيط السياسي للحكومة الفرنسية.