Al Shabiba

أمي..الحنان المتدفق

-

أحمد المولى عز وجـل أنـه لم يفوتني فطور أول يوم رمضان مع أمي طوال حياتي، وفي هذا نعمة كبيرة ربما لا يعرفها سوى الذين اضطروا بسبب أعمالهم ومشاغلهم الابتعاد عن خبز أمهاتهم سواء أول يوم رمضان من كل عـام أو كل أيامه المباركة. نحن هنا أهـل هـذه البلاد المباركة لم تجبرنا ظروفنا على مغادرة بلادنا بحثا عن لقمة العيش خارجها، فجميعنا تقريبا لم تضطرنا ظروفنا لأن نكون خارج البحرين خلال أشهر رمضان.

ولكن الأمر لم يسلم هذا العام بالنسبة لي على الأقل، بسبب مشاغلي وعملي بمصر، ولــذا، فالقاهرة هي وجهتي في وقتنا الراهن ومتطلبات الوظيفة قد تجبرني على البقاء في مصر.. بيد أن أمي نادتني، وجاءني صوتها الرقيق عبر آلاف الأميال ليناديني كي انضم لسفرتها العامرة كالعادة أول فطور في رمضان.. نعم فطور أمي، كم هو من أسعد أوقاتي وأحلاها وأكثرها فرحة خاصة في اليوم الأول من رمضان. ففي هذا اليوم وعبر سنوات عمري تعودنا أن نلتقي على سفرة واحدة نحيط بجدتي وجدي لأمي وخالاتي، إلى أن أخذ الزمن منهم من أخذ رحمهم الله وأطال لنا في عمر أمي الغالية. أمي الغالية التي لم تتغير عاداتنا إكراما لها، حتى بعد أن تزوجت وصــارت لـي أسـرتـي نحرص على أن نكون حولها أنا وأسرتي ولا نفرط في هذه العادة الحميدة طوال حياتنا والتي أتمني أن تظل كما هي عادة جميلة ما حييت.

أما فطور هذا العام فله حكاية، ففي ليلة إعلان رؤية هـلال شهر رمضان المبارك، تحدثت مع أمـي كعادتي مباركا ومهنئا لها بدخول الشهر الفضيل، ولكن الحديث هذا العام لم يكن مثل كل عام عندما أهنئ أمي بقدوم الشهر الفضيل، فأحسست بآلمها وتهدج صوتها وهي تقول: »ما أصعب دخول هذا الشهر الفضيل وأنت لست معنا«. لم يكن آلمها وحده الذي أحسست به، فانتفضت من داخلي وسرت بي قشعريرة هزتني من أعماقي، فأمي تناديني، فهي من رقتها كتمت صوتها المختنق في حلقها حتي لا تجعلني أشعر بوحدتها ورغبتها في أن نكون معا في أول فطور رمضان كعادتنا.

إحساسي العميق بنبضات قلبها وصوتها الحاني دفعني لأن اتخذ قرار مهم جدا، ما هو القرار؟.. أن أكون مع أمي في أول فطور رمضان، وكم كانت سعادتي وفرحتي عندما فاجأتها بدخولي المنزل. مبعث سعادتي وفرحتي ما رأيته من فرح في وجهها الطيب الصبوح حتى أغرورقت عيناها بدموع الشوق لابنها وفرحتها برؤيته من غير معاد، وكم كانت سعيدة لأن ابنها البار لم يخذلها ويبتعد عنها في فطور رمضان، بل لبى رغبتها وأسرع الخطى ليلتقيها. لا استطيع وصـف ما اعتراني من إحساس بلقاء أمي وفرحتها لا تضاهيها فرحة، ونظرات الرضي في عيناها الغاليتين. فالجنة حقاً تحت أقـدام الأمهات، وهذا قول حـــق، حـفـظ الــلــه لــي أمـي وأمـدهـا بالصحة والعافية وطــول العمر وجـعـل يومي قبل يومها، وهذه أمنيتي في الحياة.

ما دفعني لكتابة ذكرياتي عـن أول فـطـور رمـضـان ما كـتـبـه الأخ الـعـزيـز صـديـق الــعــمــ­ر الأســــتـ­ـــاذ خـلـيـل إبراهيم الــذوادي في مقاله يــوم الأربــعــ­اء الـفـائـت، فقد أثـــار شـجـونـي عـنـدمـا علق عـلـي سـرعـة اتــخــاذ قــراري بالذهاب للبحرين في الأول مـــن رمـــضـــا­ن كـــي ألـتـقـي أمــي وأكـــون بـجـوارهـا في سـفـرة الأول مــن رمـضـان، والأخ خليل لا يفوت شاردة أو واردة دون أن يدونها بتعليقاته وتوثيقه لأحداثها.

إنها أمـي، أعـز إنسانة لي في الـوجـود، الغالية علي قلبي ووجداني، فنحن مهما امتلكنا في هذه الحياة، لن نملك أغلى من الأم، وعندما أتمنى من المولى عز وجل أن يجعل يومي قبل يومها فهذا من قبيل يقيني أنني لا استطيع العيش بدونها، فهي قلب حياتي ونبض دمي وروحي التي أحيا بها، ويكفي أن اسمع صوتها لكي تزول كل همومي مهما كانت مثل زبد البحر، فكلمة حانية منها ونصيحة حكيمة كفيلة أن تعيدني إلى جادة الصواب.

أعلم أن من أصعب المواقف على أي أم هو أن تفقد ابنها مهما صغر أو كبر، فهو وليدها وفلذة كبدها، ولكني أيضا لا أتخيل حياة بدون أمي، حياة بلا حضن يضمني، بلا صـدر حانيا أرمـي عليه كل همومي وأحمالي مهما ثقلت، فلحظة في حضن أمي تمثل حياة لي، بل بداية حياة جديدة.

فمهما امتلكنا في دنيانا، لن يكون أعظم من أمنا، وكم يغمرني الحنين الى زمن طفولتي وقت أن كنت افتح عيني كل صباح على ضحكتها المليئة بالحنان وصوتها الهادي المفعم بالطمأنينة لأبدأ يوماً جديداً. فأمي هي أغلى ما في حياتي، أحسست فيها بالحنان وهي عنوان العطاء بلا مقابل.

وإذا كنا كثيرا ما نقرأ أو نسمع خبرا عن نشاط »المرأة الأولى« في أي بلد أو مجتمع، تكون أمي أول ما يتبادر الى ذهني وقلبي عندما أسمع هذا التعبير أو أقرأه، فأمي هي سيدتي الأولــي، هي من أنجبتني وكانت سببا في حياتي، فهي روحي وكينونتي، ضابطة شخصيتي، معلمي في هذه الدنيا، من علمتني أن أكون إنسانا منتجا في المجتمع.

عندما أتحدث عن أمي، أتذكرها صديقة قبل الأم، كم أنست وحدتي وأخرجتني منها وأرشدتني الى الصواب إذا هممت بفعل خطأ، إنها أمي التي غرست في أولادها كيف يكرمون ضيفهم، وأن الغني في القناعة، ومنها تعلمنا أن نرفع رؤوسـنـا عالياً، ونلتزم بــآداب الإسـلام وتعاليمه، وبمناسبة شهر رمضان المبارك كانت أمنا هي أول من علمتنا صوم الشهر الفضيل وأن نصبر على الجوع والعطش ونحن صغاراً، فهي تمتلك وسيلة إقناع قلما نجدها في غيرها من البشر، فكانت نعم المربي والمعلم ولا أبالغ إذا قلت نعم الشيخ الذي لقننا مبادئ الإسلام.

أمي التي سهرت ليالي طويلة وكثيرة لترعاني وأنا مريض، ولـم تبد أي تعب من سهرها مهما كـان مدى إرهاقها وشدة آلامها، ولم تشكو ألما ليلا حتى ولو حملت أعباء الدنيا نهارا..إنها أمي مقلة عيني، ولها أعود للبلاد مهرولا كي أنعم بفطور أول رمضان معها، أمي التي لا نقيس الدنيا معها أياما وسنينا وإنما سعادة ومحبة وعطاء، فهي وقبل أن ترضعنا من قوتها أرضعتنا حب الخير للآخرين وإيثار النفس من أجل الغير والقناعة بما وهبه الخالق لنا والرضب به، فهي اتسمت طوال حياتها بالرضاء بما حباها الله به من نعم، وغرست فينا هذا الرضاء، ولمن لا يعلم فإن الرضى من الخصال العظيمة التي يمنحها المولى سبحانه وتعالى للإنسان.

أدعو الله عز وجل أن يديم علينا نعمة أمنا وألا يحرمنا من طلتها علينا ودعائها لنا ومن لمسة يديها الحانيتين ونظرة عينيها، ويا رب أدعوك باسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت أن أسبق أمي إلى اللحد، وأدعـوك ألا تحرمني من حضنها وحنانها، فبدون هذا الحضن لا حياة لي، ويتوقف نبضي للأبد.

إذا كنّا كثيراً ما نقرأ أو نسمع خبراً عن نشاط »المرأة الأولى« في أي بلد، تكون أمي أول ما يتبادر إلى ذهني وقلبي عندما أسمع هذا التعبير

Newspapers in Arabic

Newspapers from Oman