أناتول كاليتسكي
في ظل عودة الأوضاع الاقتصادية إلى طبيعتها بشـــكل أو بآخر في جميع أنحـــاء العالم بعد عقد من الأزمات المالية، باتـــت النزعة الشـــعبوية القومية الآن تشـــكل أكبر تهديد للانتعـــاش العالمـــي. كان هذا الشـــعور حاضراً بالنســـبة لـــوزراء المالية الذين اجتمعوا في واشـــنطن العاصمة هذا الشـــهر لحضور اجتماع الربيع الســـنوي لصنـــدوق النقد الدولـــي. لكن هل من الممكن أن يكـــون هذا الإجتماع قد بـــرز في الوقت الـــذي تعالت فيه أصوات الشـــعبوية؟ بدلاً من السياسة الشعبوية التي تقوض الانتعاش الاقتصادي، هل يمكـــن أن يؤدي الانتعـــاش الاقتصـــادي إلى تقويض السياسات الشعبوية؟
فـــي جميع أنحـــاء العالـــم، تبـــدو السياســـة الاقتصادية الشعبوية في حالة تراجع، على الرغم من عدم وجود بديل واضح لهذه السياسة حتى الآن. في الولايات المتحدة، يبدو أن الرئيـــس دونالد ترامب قد وضع حدا لغرائزه الحمائية، كما بدأت العلاقات الاقتصادية مع الصين في الاســـتقرار. وفي أوروبـــا، على الرغم مـــن تركيز وســـائل الإعلام على نجاح السياســـيين المتعايشـــين مع كراهيـــة الأجانب في هنغاريـــا وبولندا، يتحول البندول عـــن القومية الاقتصادية في البلدان المهمة حقًا: فرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا، حيث يتنافس الآن الحزبان الشعبويان اللذين حققا مؤخراً إنجازات انتخابية لإظهار دعمهما لليورو.
حتى فـــي بريطانيـــا، حيث فـــازت القوميـــة الاقتصادية بأكبـــر انتصار لهـــا على العولمـــة والتعدديـــة الثقافية في اســـتفتاء بريكســـت العام 2016، قد يتحول هـــذا التيار. بـــدأت الحكومـــة البريطانيـــة تـــدرك بشـــكل تدريجي أن الناخبيـــن لا يريدون الانفصال بشـــكل كامل عـــن أوروبا، كمـــا يطالب الأوروبيون المتشـــككون. لـــم يصبح أي من البديلين لعضوية الاتحاد الأوروبي اللذان قدما في استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي - وهو »ليتل انجلاند« الحمائـــي والتركيز على الداخـــل أو »الدول الناطقة باللغة الانجليزيـــة« بعد الإمبريالية القائمة على »العلاقة الخاصة« مـــع أمريـــكا والكومنولـــث - مجديـــا اقتصاديـــا أو جذابا سياســـيا للناخبين. في حين أن ٪-4 3فقط من الناخبين يعترفون بتغيير رأيهم بشـــأن خـــروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبـــي، إلا أن الغالبية العظمى تريـــد الاحتفاظ بمعظم فوائد التجارة الحرة، والســـفر المريح، والعمالة المهاجرة، فضلا عن القوانين البيئية، وصحة المستهلكين، والتنظيم الدقيق.
إن نفـــور الناخبين من العواقب الوخيمة لبريطانيا، على غرار الواقعية التـــي ظهرت تدريجياً في اليونان بعد رفض اســـتفتاء العام 2015 لمســـاعدة الاتحاد الأوروبي، يساعد على تفســـير التكتيكات المحيرة الأخرى لرئيســـة الوزراء تيريزا ماي وحزبها المحافظ. بعـــد البدء بإصدار تعليمات واضحة من الشـــعب »لاســـتعادة الســـيطرة« مـــن الاتحاد الأوروبـــي، قامت مـــاي تدريجيا بمحو خطوطهـــا الحمراء، وذلك عن طريق: إنهاء المســـاهمات فـــي ميزانية الاتحاد الأوروبي، والحد من الهجرة الأوروبية، والإعفاء من القواعد الأوروبية والأحـــكام القضائية. وبدلاً من المطالبة الصارمة باســـتعادة الســـيادة الوطنية غيـــر المحـــدودة في مارس 2019، فإنهـــا تطالب الآن بفتـــرة انتقالية، حيث لن يتغير أي شيء ملحوظ بالنسبة للناخبين.
ومـــن المفاجـــئ أن الحل الوســـط الذي قدمتـــه ماي تم قبوله بالكامل من قبل المتشـــددين الوطنيين الذين كانوا يهددون قيادتها في السابق. ما زال المتعصبون يأملون في حدوث انفصال كامل عن أوروبا في المستقبل، ولكن يبدو أنهم ليســـوا قلقين بشـــأن تأجيل يوم الحســـم حتى نهاية »الفتـــرة الانتقالية مع الحفاظ علـــى الوضع الراهن« لماي في ديسمبر العام 2020. لكن إذا كانت محاولة »الانفصال التام« عن أوروبا تشكل خطراً الآن، لماذا ستصبح مقبولة بحلـــول العام 2020؟ لن يكون الأمر كذلك - ويفترض أن هذه الحقيقة ســـوف تملي تمديد فترة الانتقال إلى ما بعد الانتخابات العامة 2022، وما بعدها.
وكما كتبتُ في العام الفائت، فالنتيجة هي أن بريكسيت الصعبة المتحاربة ستتحول إلى »بريكست« المزيفة: وهي عضوية الاتحاد الأوروبي المشـــتركة بالأسلوب النرويجي. لن يكون كل من مؤيدي ومعارضي الانســـحاب من الاتحاد الأوروبي راضين عن تلك النتيجة، التي ســـتحول بريطانيا إلى ما يســـميه مؤيدو بريكسيت »دولة تابعة«: بلد يخضع لقوانيـــن الاتحـــاد الأوروبـــي، لكن ليـــس لديـــه الحق في التصويت أو القدرة على التأثير في هذه القوانين.
لماذا تقبل بريطانيا بـــأن تكون تابعة؟ هذا ما يجرنا إلى العلاقة بين الشـــعبوية القومية والاقتصـــاد. المبرر الوحيد المتبقـــي لهذا الشـــكل الأســـوأ مـــن الارتباط مـــع الاتحاد الأوروبـــي، والذي تقدمه الآن ماي، هو الشـــعار الشـــعبوي »الشعب يتحدث .«
حتى وقت قريب، ســـمح اســـتخدام هذا الشـــعار لجميع خصـــوم السياســـة الحكوميـــة بوصفهـــم نخبـــة دوليـــة، باعتبارهـــم »مواطنين لا ينتمون لأي بلاد« والذين يكرهون »الشعب الحقيقي«. وبســـبب نزع الشرعية عن المعارضة السياســـية، بدا خروج بريطانيا من الاتحـــاد الأوروبي أمرًا حتميـــا، الأمـــر الذي منـــع الناخبين حتى مـــن التفكير في القضايا التي قد تغير رأيهم.
لكن الوضـــع السياســـي البريطاني يتغير. مـــع اقتراب موعد خروج بريطانيا في مارس 2019، فإن »انتقال« ماي قد يمتد إلى المســـتقبل البعيد، وجميع الوعود الملموسة لبريكست ستتلاشى مثل ســـراب الصحراء، كما سيعرف كل من البرلمان والـــرأي العام تحولا ملحوظا. وقد توصل حزب العمال إلى اســـتنتاج: على الرغم مـــن تأييد العديد مـــن ناخبي الطبقة العاملة قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبـــي، إلا أن معارضته توفر الفرصة الوحيدة لإســـقاط حكومة ماي.
ونتيجة لذلك، تعرضت مـــاي للهزيمة مراراً في البرلمان وأجبـــرت على التنازل عن تصويت برلماني كامل على أي اتفاق تتفاوض عليه مع الاتحاد الأوروبي.
هذه الصراعات البرلمانية تـــدل على أن معارضة خروج بريطانيـــا من الاتحـــاد الأوروبي لـــم تعد ســـيئة باعتبارها مناهضة للديمقراطية ونخبويـــة. إن الرأي العام، مع دعم الأغلبيـــة الواضحة »للتصويت الهادف« في البرلمان، على استعداد لاتخاذ قرار حول ما إذا كانت صفقة ماي النهائية مع أوروبا أفضل من الحفاظ على عضوية الاتحاد الأوروبي. عندمـــا يتم إجراء هذا الاقتراع (علـــى الأرجح في أكتوبر)، فـــإن التحالف التكتيكي لجميع أحـــزاب المعارضة مع 12 حزبا محافظا ومؤيدا لأوروبا قد يؤدي إلى هزيمة الحكومة. إذا كانـــت تبدو هذه الهزيمة وشـــيكة، فمـــن المحتمل أن تتحـــرك مـــاي لتفاديها من خـــلال اقتراح اســـتفتاء لاتخاذ القرار النهائي بين قرارها بشأن بريكست والوضع الراهن للاتحاد الأوروبي.
ولكن هل سيشـــكل هذا الاســـتفتاء، الـــذي تدعم فكرته حاليا حملة »تصويت الشـــعب«، خطوة أخرى نحو النزعة الشـــعبوية، بدلاً من اســـتنتاج ديمقراطـــي حقيقي لنقاش خـــروج بريطانيـــا مـــن الاتحـــاد الأوروبي؟ الإجابـــة هي لا. ســـيتم منح الناخبين فرصة الاختيـــار الصادق بين بديلين واضحيـــن: قبـــول أي اتفاق تفاوض عليه الحكومة بشـــأن الخروج من الاتحاد الأوروبي، أو البقاء في الاتحاد الأوروبي بعد ســـحب خطر بريكســـت قبل الموعـــد النهائي في 29 مارس.
على النقيض من ذلك، قدم الاســـتفتاء في العام 2016 للناخبيـــن خيـــارًا خادعًا بيـــن الواقع والخيال: بريكســـت الخيالـــي، والذي يمكنهم من خلاله التعبير عن أي آمال أو تحيـــزات توصلوا إليها. عكس النزعة القومية الشـــعبوية، هذه ليســـت نخبوية عالمية. وإنما واقعيـــة صادقة، والتي تقوم بريطانيا الآن باكتشافها.
في جميع أنحاء العالم، تبدو السياسة الاقتصادية الشعبوية في حالة تراجع، على الرغم من عدم وجود بديل واضح لهذه السياسة حتى الآن