Al-Watan (Qatar)

محاولة لإنعاش ذاكرة اللبنانيين

- مدير مركز الحوار العربي في واشنطن

يشكّل لبنان «حالة نموذجية» فريدة في المنطقة العربية، فهو كان -قبل بدء الحرب الأهلية في 13 أبريل 1975- نموذجًا للعرب في ممارسة الحياة السياسية الديمقراطي­ة، والتعددية الحزبية، والانفتاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولمجتمع الحريات العامة بشكل عام، لكن بعد اشتعال الحرب الأهلية في منتصف سبعينات القرن الماضي، انكشفت مساوئ هذا «النموذج اللبناني» وما كان فيه من أمراض طائفية هدّدت الجسد اللبناني أكثر من مرة بخطر الانتحار الداخلي أو القتل المتعمد من الخارج. ودارت الأعوام والأحداث في لبنان حتى رست على صيغة اتّفاق الطائف عام 1989، والتي أثمرت وفاقًا لبنانيا مدعومًا بوفاق دولي/عربي على إعادة إحياء التجربة اللبنانية القديمة بطبعة جديدة منقّحة! وهكذا عاد «النموذج اللبناني الصالح» إلى الوجود بالمنطقة العربية، رغم التشوّه الذي حدث له بفعل سنوات الحرب في حقبتيْ السبعينات والثمانينا­ت. وعلى مدار ربع قرن من الزمن )من العام 1975 إلى العام 2000،) كان الخنجر الإسرائيلي هو الأكثر إيلامًا في الجسم اللبناني، بل كان هذا الخنجر المسموم يستهدف قتل «النموذج اللبناني» الذي أعطاه عام 1974 من على منبر الأمم المتحدة الرئيس اللبناني الراحل سليمان فرنجية كبديل عن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وكنموذج لتعايش الطوائف المتعدّدة في ظل دولة ديمقراطية واحدة. وقد استطاعت المقاومة اللبنانية، التي برزت عقب الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، أن تردع هذا الخنجر وأن تقطع يد الاحتلال التي حملته، فكان الانتصار اللبناني على الاحتلال الإسرائيلي عام 2000 بدايةً لنموذج لبناني جديد في المنطقة العربية وفي الصراع العربي الإسرائيلي. فإذا بتعبير «اللبننة» يتحوّل من معنى الإنذار بحرب أهلية والتحذير من مخاطرها، إلى معنى المقاومة الناجحة ضد الاحتلال والقدرة على دحره. لكن لبنان في العام 2005 وبعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، بدأ يتأرجح بين دفّتي الانقسام والفوضى، وأصبح المستهدَف الأوّل )بدلالة حرب صيف العام 2006) هو «النّموذج اللبناني المقاوم» ضد الاحتلال الإسرائيلي، لاستبداله بعد ذلك بنموذج «الاقتتال الداخلي» وصراع الطّوائف والمذاهب والمناطق. وكم هو مؤسف التركيز الآن على طرف واحد في مسؤولية التأزم السياسي اللبناني الحاصل وتجاهل ما جرى لحوالي نصف قرنٍ منذ العام 1975 من تداخل حروب الآخرين على الأرض اللبنانية، ومن مسؤولية إسرائيلية ودولية مباشرة عن تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيي­ن إلى لبنان عند تأسيس «دولة إسرائيل». فلِما التركيز فقط على «نتائج» الوجود الفلسطيني في لبنان وليس على «أسبابه»، ولماذا تتجاهل ذاكرة بعض اللبنانيين أيضاً ما قام به الكوماندوس الإسرائيلي من تدمير ل13 طائرة لبنانية في مطار بيروت يوم 28 ديسمبر عام 1968 قبل «اتفاق القاهرة» بين الجيش اللبناني و«المقاومة الفلسطينية» في العام .1969 وها هو لبنان الآن يعيش مزيجًا من تأثيرات التاريخ والجغرافيا على كيانه ونظامه، وعلى أمنه واستقراره، فماضي لبنان وتاريخ وظروف نشأة كيانه وكيفية بناء نظامه الطائفي، كلّها عناصر تاريخية سلبية دائمة التأثير في أحداثه، تمامًا كما هو أيضًا دور موقع لبنان الجغرافي، حيث الخيار هو فقط بين محيطه العربي وبوابته السورية، وبين الوجود الإسرائيلي الذي هو مصدر الخطر الدائم على أرض لبنان، وثرواته الطبيعية، وعلى وحدة شعبه. وإذا كان اللبنانيون لا يستطيعون تغيير دور الجغرافيا في تطوّرات أوضاع كيانهم الوطني، فإن بإمكانهم حتمًا تصحيح الخطيئة التاريخية المستمرّة في طبيعة نظامهم الطائفي السياسي الفاسد، وعندما يفعل اللبنانيون ذلك يصونون وطنهم من الوقوع في شرك الحروب الأهلية من جديد. إن الأمل بالتغيير والإصلاح في لبنان لا يمكن أن يتحقّق من خلال قيادات وآليات وقوانين انتخابية طائفية ومذهبية تصون مافيات الفساد فيه. فالوطن اللبناني الواحد بحاجة إلى وطنيين توحيديين لا طائفيين، ولن تكون هناك دولة لبنانية قوية وعادلة ما لم تقم مؤسسات الدولة على أسس وطنية لا طائفية، فما يتمّ بناؤه على خطأ لا يمكن أن يصل إلى نتائج صحيحة. وأساس المشكلة هو في النظام السياسي الطائفي الذي يتوارثه الزعماء السياسيون ويحرصون على استمراره حيث إنّهم به يستمرّون ويستثمرون.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar