انتصارات االحتالل التكتيكية وفشلها االستراتيجي
تتراوح ردود أفعال المسؤولين اإلسرائيليين على ما يجري في الضفة الغربية بين الهلع من حجم المفاجأة التي أصابتهم من تصاعد األنشطة المقاومة لالحتالل، والمبالغة في اّدعاء انتصاراٍت وهميٍة يحّققها جيش االحتالل وأجهزته األمنية في قمعه الشعب الفلسطيني. ورّدات الفعل، رغم طبيعتهما المتناقضة، يعّبران جوهريًا عن عجز مزمن في فهم الشعب الفلسطيني ودوافعه، بما في ذلك عجز عن توقع أفعاله، وخصوصا عندما يتعلق األمر باألجيال الشابة، كما يعّبران عن سوء تقدير وفشل في تقييم نتائج الصراع المحتدم على األرض . وال يختلف سلوك االستعمار االستيطاني اإلسرائيلي هنا عن أمثلة كثيرة ألنظمة استعمارية، فشلت بشكل متكّرر في فهم الشعوب التي تحكمها، وتضطهدها، ومارست غطرسًة غبيًة انتهت بها دومًا إلى انهيار المنظومة االستعمارية التي أنشأتها. وتعمق األيديولوجيا العنصرية للحركة الصهيونية، والفكر القائم على نفي اآلخر، باإلضافة إلى الحاجة إلنكار الجريمة الكبرى التي ارتكبت خالل النكبة عام 1948 ضد الشعب الفلسطيني . وتبدو المواقف الفكرية للمنظومة اإلسرائيلية محكوم ًة بخوف مزمن من أن أي اعتراف جزئي بإنسانية الفلسطينيين سيجر معه كارثة االعتراف بحجم الجريمة التاريخية التي ارتكبتها الحركة الصهيونية، وما يعنيه ذلك من انهيار كامل لبنيان الرواية اإلسرائيلية، التي قّدمت للعالم واإلسرائيليين أنفسهم لثمانية عقود . يتبارى حّكام إسرائيل في إراقة دماء الفلسطينيين وقودًا لحمالتهم االنتخابية، وال يتوّرعون عن استخدام األسلحة الفّتاكة ضد جمهوٍر مدني في األساس، ويطلقون يد المستعمرين المستوطنين لالعتداء على الفلسطينيين وبيوتهم، وممتلكاتهم، وأشجارهم، بحمايٍة كاملٍة من جيش االحتالل. وفي كل جولة مواجهة، سواء في القدس، وباقي الضفة الغربية، أو قطاع غّزة، أو الداخل الفلسطيني، تستخدم المؤسسة اإلسرائيلية أكثر األسلحة فتكًا، ومنظومة استخباراتية بالغة التطّور والتعقيد، وتستخدم العقوبات الجماعية، والبطش بالمدنيين واألطفال، ثم تعلن انتصاراتها التكتيكية، بالتدمير، وقتل الشهداء، وتصفية المجموعات، واعتقال اآلالف . سطحيًا، يبدو األمر كل مرة، وكأن االحتالل حقق انتصارات يبيعها لجمهوره المتطّرف، ويتفاخر بها. ال يمكن اعتبار هذه النتائج انتصارات، فالتفاوت في الخسائر أمر مفهوم في ظل الفارق الهائل بين القدرات العسكرية والبشرية التي يملكها جيش االحتالل وما لدى المقاومة الفلسطينية. ولكن االحتالل، يخفي، وربما ال يدرك، أن نجاحاته التكتيكية ليست سوى مظاهر خادعة لفشل استراتيجي كبير، ألن األمور ُتقاس، في نهاية المطاف، بنتائجها، وأولى هذه النتائج التي تؤّكد فشل المؤسسة اإلسرائيلية- الصهيونية، رغم النكبة والتطهير العرقي وعدواني 1956 و1967، أن الجزء األكبر من الشعب الفلسطيني نجح في البقاء والصمود في وطنه . وثاني هذه النتائج أن كل عمليات القمع، القتل، واالعتقال، لم تفلح في فرض الخنوع والرضوخ على الوجود البشري الفلسطيني، الذي صار وجود ًا مقا ِوم ًا، يستخدم كل أشكال المقاومة من أبسطها إلى أشدها تعقيدًا.
وتكمن النتيجة الثالثة في فشل مشروع أوسلو، الذي ُنصب فّخا للفلسطينيين، بهدف كسب الوقت للحركة الصهيونية لنشر االستيطان وإلجبار الفلسطينيين على الرضوخ الحتالٍل دائم تحت غطاء حكم ذاتي محكوم بالسيطرة اإلسرائيلية. إذ تجاوز الشعب الفلسطيني ذلك المشروع، وعاد إلى التالحم حول خيار استراتيجية المقاومة والكفاح لتغيير ميزان القوى، بدل الرضوخ الختالله لمصلحة إسرائيل . وكانت النتيجة الرابعة، عودة تالحم مكّونات الشعب الفلسطيني وساحاته حول رؤية لمشروع وطني مشترك، في ساحات النضال المشترك، التي رأينا نموذجًا ساطعًا لها في معركة القدس عام .2021 ولعل النتيجة اإلستراتيجية الخامسة ستكون تطور الوعي الجمعي الفلسطيني نحو إدراك أن الهدف الفلسطيني الجامع لم يعد إنهاء االحتالل فقط، بل ويشمل إسقاط كل منظومة األبارتهايد والتمييز العنصري في كل فلسطين التاريخية . بعد 74 عامًا من النكبة، وتدمير 500 قرية وبلدة فلسطينية وتهجير 70% من الشعب الفلسطيني، وبعد 55 عامًا من احتالل الضفة الغربية وقطاع غزة، يتكاتف الشعب الفلسطيني حول خيار المقاومة، والنضال، وتتعاظم فرص عزل إسرائيل على صعيد الشعوب دوليًا. ويبدو واضحًا حدوث تحول نوعي في وعي شعب بكامله، ويتعّمق اإلدراك بأن االستعمار االستيطاني اإلسرائيلي سيواجه المصير نفسه الذي واجهه االستعمار في بلداٍن عديدٍة أخرى، ويترافق ذلك مع وعي فلسطيني شامل بضرورة االعتماد على النفس، وتنظيم الذات، وتحّدي كل منظومة االحتالل واألبارتهايد العنصرية اإلسرائيلية. أما خيار إسرائيل بتدمير ما سّمي «حل الدولتين» وترسيخ واقع «دولة واحدة بنظام أبارتهايد» فال ديمومة له، ونهاية طريقه، إن استمر، ال يمكن أن تكون سوى زواله، وفرض المساواة التامة في الحقوق القومية والمدنية، وفي مقدمتها حق الشعب الفلسطيني المطلق في تقرير مصيره بحرية . وفي نهاية المطاف، ورغم القمع، ونكران الحقائق اإلسرائيلية، ينهض الشعب الفلسطيني مّرة أخرى ماردا مقاوما، مؤّكدا قول الشاعر والمناضل الفلسطيني توفيق زياد: «نحن لسنا أفضل من أي شعب في العالم، ولكن ال يوجد في هذا العالم شعٌب أفضل منا .»
بعد »74« عامًا من النكبة يتكاتف الشعب الفلسطيني حول خيار المقاومة والنضال