Al-Watan (Qatar)

االنتخابات اإلسرائيلي­ة

يهودية الدولة أوال.. والقتل بـ«عقالنية» لم يعد كافيًا

-

رازي نابلسي

كاتب وباحث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية

جاءت نتائج االنتخابات اإلسرائيلي­ة برسائل مهمة جدًا على الصعيدين: الداخلي، إذ ُتعتبر انتصارًا كبيرًا لـ «المعسكر المؤمن» والهوية اليهودية للدولة في الصراع مع «الليبراليي­ن»؛ والخارجي، على صعيد الرسائل المهمة جدا للفلسطينيي­ن، وبصورة خاصة في الضفة الغربية وأراضي الـ .48 فبعد خمس جوالت انتخابية محتدمة، لم يستطع فيها أي من المعسكرات تشكيل حكومة مستقرة، يبدو أن المجتمع اإلسرائيلي استطاع حسم الصراع المستمر منذ عامين على هوية الدولة وشكلها، وكذلك عالقتها بالفلسطيني­ين في أراضي الـ 48 ودورهم ومكانتهم فيها. وبحسب النتائج، فإن نتنياهو سيشكل حكومة يمين-يمين ديني ضيقة، يتوقع لها أن تكون مستقرة وطويلة األمد، على الرغم من أنها ضيقة، لكونها متماسكة وقريبة من بعضها البعض، أيديولوجيًا وسياسيًا أيضًا. أما عن توجهات هذا المعسكر الفائز الذي يسمى «المعسكر المؤمن»، فيمكن القول إنه يميني إلى درجة يمكن فيها اعتبار نتنياهو األكثر عقالنية، واألقرب إلى «الوسط». انتخابيا، وقبل الخوض في الرسائل السياسية التي بثتها نتائج االنتخابات، تعد النتائج انتصار ًا مضاعف ًا لـ «المعسكر المؤمن». فمن جهة، تم ّكنه من تشكيل الحكومة منفرد ًا، دون حاجة إلى أّي من مرّكبات المعسكر المقابل، كما يشكل تحالف «الصهيونية الدينية» القوة الثانية في االئتالف، إذ ال يمكن التخلي عنها أو تجا ُهلها؛ ومن جهة ُأخرى، هزيمة ساحقة للمعسكر المقابل لنتنياهو، وبصورة خاصة الشق «اليساري» فيه، المتمثل في كل من «ميرتس» و«حزب العمل»، إذ لم تنجح «ميرتس» في عبور نسبة الحسم، ويتأرجح «حزب العمل» على حافتها بأربعة مقاعد فقط. وهو ما يعني، عمليا، أن الكنيست اإلسرائيلي المقبل، سيكون فيه 4 أعضاء كنيست فقط يمكن اعتبارهم «يسارا»-بالمفهوم الصهيوني لليسار طبعا. وهو ما يمكن أن يكون اإلشارة األولى إلى موت فكرة «اليسار الصهيوني»، بعد أعوام طويلة من التراجع واالحتضار. أما األسباب الكامنة وراء هذا االنتصار، فإنها تنقسم إلى جزأين: األول هو نسبة التصويت المرتفعة وتجند اليمين للتصويت بعد حملة نتنياهو التي ركزت كثيرا على «حكومة اإلخوان المسلمين»، كما نعتها، بسبب وجود القائمة الموحدة برئاسة منصور عباس، على الرغم من اعتراف األخير بـ«يهودية الدولة» وتهميشه البعد القومي للصراع؛ أما الجزء الثاني فهو عدم قدرة المعسكر المعارض لنتنياهو على رص صفوفه، إذ خاض االنتخابات بقوائم صغيرة، بدال من تحالفات، وهو ما أدى إلى سقوط «ميرتس» وضياع أصواتها، وكذلك تفكك «القائمة المشتركة» وعدم عبور التجمع لنسبة الحسم.

يهودية.. و«أغيار»

دارت االنتخابات حول قضيتين مركزيتين: األمن الداخلي-الشرطة وأجهزة القمع الداخلية؛ وملف القضاء والتغييرات التي ينوي اليمين القيام بها في بنية الجهاز القضائي للدولة. األولى، كلف بها إيتمار بن غفير، الذي وعد خالل الحملة االنتخابية بأنه سيطالب بملف «وزير األمن الداخلي» في حال فوز المعسكر وحسم االنتخابات، وكانت ذروة هذه الحملة عندما شَهر مسدسه في حي الشيخ جّراح في القدس. وهنا تحديدا، يجب العودة إلى ما قبل تشكيل الحكومة األخيرة التي ُسّميت «حكومة التغيير» الحقًا، وتحديدًا إلى «هّبة أيار/ مايو» التي اندلعت في القدس وأراضي الـ 84، وامتدت إلى عدوان على قطاع غزة. إذ تشير أغلبية التحليالت اإلسرائيلي­ة إلى أن هذا الملف كان الرهان الرابح لبن غفير، وهو ما أشار إليه كل المحلل العسكري في «هآرتس» عاموس هرئيل، والوزير السابق شاي بيرون، الذي قال إن «المجتمع اإلسرائيلي في حالة ما بعد-الصدمة بسبب أحداث حارس األسوار وما حدث في المدن المختلطة» وهذا يمكن أن يكون غاية في الدقة، لكن الغريب في هذا السياق هو لماذا لم يختر المجتمع اإلسرائيلي رئيسي هيئة أركان، وهما غادي أيزنكوت الذي أقر «عقيدة الضاحية»، ومن خاللها هدم الضاحية الجنوبية في لبنان خالل عدوان ،2006 وبيني غانتس زعيم حزب «كاحولالفان» الذي افتتح حملته االنتخابية األولى بفيديو هدم قطاع غزة؟ وخصوصا أن المنافسة كانت محتدمة ما بين «الصهيونية الدينية» و«المعسكر النظامي» على المكان الثالث في االنتخابات، وانتهت بانتصار بن غفير، الذي لم يؤ ّد الخدمة العسكرية كلي ًا، على جنرالين من رموز المؤسسة العسكرية، بفارق 4 مقاعد تقريبا. الحكومات اإلسرائيلي­ة جميعها تريد إعدام الطموح القومي الفلسطيني، والفلسطيني نفسه إذا طالب به. وطبعا، ال يمكن القول إن رئيسْي هيئة األركان اإلسرائيلي­ة السابقْين أفضل من بن غفير بتاتا، فكالهما أجرما بحق الفلسطيني والعربي. لكن من الخطورة عدم األخذ بعين االعتبار الفروق ما بينهما، وبصورة خاصة مع خيار المجتمع اإلسرائيلي الذي يحمل رسائل مهمة جدا في سياق األمن الداخلي، ويمكن اختصارها في مقولتين أساسيتين: أوال، إن الصراع القادم سيكون في الشوارع، في حي الشيخ جراح واللد والرملة وعكا والخليل، من دون «عقالنية» المؤسسة األمنية التي لطالما كانت تعمل في إطار «مؤسساتي»، وتحت سلطة وبنية الدولة بكل ما تحمله من «محاكم صورية وشكلية» وأوامر عليا وتوزيع سلطات- المجتمع يريد العنجهية في حرب الشوارع- اإلعدام من دون «محكمة صورية» حتى. وهو ما وعد به بن غفير، حين أعلن أن أحد األمور التي سيعمل عليها ستكون «وقف تكبيل أيدي الجنود ورجال الشرطة»، باإلضافة إلى تغيير قواعد إطالق النار-أي أن اإلجرام الحالي لم يعد كافيا للمجتمع اإلسرائيلي، وثانيا، أن الحرب المقبلة ستكون دينية أكثر مما هي قومية أو «مؤسساتية» تخوضها الدولة ضد الفلسطيني- فالفرق بينهما واضح في هذا المجال، بين معسكر

يطلق على نفسه اسم «النظامي»، وبين من يريد بناء الهيكل. وباختصار: القتل بعقالنية لم يعد كافيا في إسرائيل بعد هذه االنتخابات؛ وجهود التبرير و«المحاكم الصورية» لم تعد مطلوبة؛ الشرعية توراتية، والصراع سيكون على جانبي األخضر بالشكل نفسه من دون «خصوصية»، ومن دون «مواطنة». الرسالة الداخلية والخارجية: هل حسم الصراع على هوية الدولة؟ قد تكون نتائج هذه االنتخابات أهم بالنسبة إلى اإلسرائيلي «الليبرالي» منها إلى الفلسطيني والعربي عموم ًا، وهي فع ًال موجهة إليه، لدرجة أن أكثر الكلمات التي بحث عنها في محرك غوغل بعد االنتخابات كانت «جواز سفر أجني». هذا ال يعني قط أنها غير مهمة بالنسبة إلى الفلسطيني، لكن التغيير الذي سيطرأ على الصراع مع الفلسطيني سيشتق من التغييرات البنيوية التي ينوي «المعسكر المؤمن» القيام بها في هوية وبنية الدولة، وبصورة خاصة في مجال عالقة «الدينالدول­ة»، وفي المجال القضائي. فاألول-العالقة بين الدين والدولة، هو أساس تكتل المعسكر الفائز أصًال، واستنادًا إليه، كانت الساحة السياسية اإلسرائيلي­ة تنقسم طوال فترة األزمة، وإعادة االنتخابات، المرة تلو األخرى، من دون حسم. لذلك مثال، كانت أكثر الكلمات التي رددها الفائزون في االنتخابات خالل المقابالت في المقرات االنتخابية هي «هوية يهودية»، وهو ما يؤكده أيضا تجند الحريديم للتصويت وارتفاع تمثيل أحزابهم بشكل مهول، فللمرة األولى منذ 20 عاما، يحصل حزب «شاس»، بزعامة أرييه درعي، على 12 مقعدا، بحسب النتائج األولية، وهو بمثابة انتقام من ليبرمان والحكومة الحالية التي حاولت تقليص الميزانيات الموجهة إلى هذا الجمهور، بهدف دفعه إلى العمل والخدمة العسكرية. وفي المقابل، يشكل وصول «الصهيونية الدينية» إلى هذا العدد من المقاعد تهديدا حقيقيا لـ«حركة المثليين»، إذ من المتوقع أن تكون القرارات األولى: إلغاء «منع الجلسات العالجية»، والمواصالت العامة خالل أيام السبت، وإدخال الخميرة إلى المرافق العامة خالل عيد الفصح، باإلضافة إلى الميزانيات للمدارس الدينية، وإلى العالقة مع الغرب-وهي عقدة النخب اإلسرائيلي­ة القديمة تاريخيا. في الوقت الذي يتماسك «المعسكر المؤمن» وبات له اسم أيضا، ال يزال المعسكر المقابل غير متماسك وال يعرف نفسه بالضبط وماهيته. فهو من جهة، ال يمكن اعتباره «يسارا» ألنه ال يمكن اعتبار نفتالي بينت أو أفيغدور

ليبرمان وساعر «يسارا»، وهم العبون مركزيون فيه؛ ومن جهة ُأخرى، ال يمكن اعتباره معسكرًا «ديمقراطيا» ألنه ال يمكن أن تكون إسرائيل ديمقراطية حتى النهاية، لتعارض هذا مع يهوديتها. ولكن الصراع، كما يتم التعبير عنه في المواقف من قضايا «الدين-والدولة»، هو نقاش بشأن معادلة «يهودية-ديمقراطية» بحد ذاتها-اإلبقاء عليها كما هي، وعلى التوازن ما بين القطبين المتناقضين-وهو ما يحاول اليمين الديني تغييره بادعاء أن المجتمع تغير، وأن «العلمانية» لم تعد قادرة على قيادة الدولة بعد االنزياح إلى اليمين الديني، وهو مسار بدأ بعد احتالل المناطق المحتلة سنة ،1967 وال يزال يتعمق، من دون أن ُيحَسم داخليا. ومن هنا فقط، يمكن فهم اإلجماع داخل «المعسكر المؤمن» على التغييرات القضائية المتوقعة، والذي عبر عنه عضو الكنيست عن «الصهيونية الدينية» بالقول إنه سيكون «سيمفونية» بين مركبات االئتالف. أما الهدف منه، فهو منح الكنيست المنتخب األفضلية، أو المساواة على األقل، أمام المحكمة العليا التي يمكنها في الوضع الحالي إلغاء قوانين يسنها الكنيست في حال تعارضت هذه القوانين مع «قوانين األساس» أو «القانون الدولي»-بشرط أال يتعارض القانون الدولي مع قانون االحتالل طبعا، وما يسمى «األمن». عمليا، تلعب المحكمة العليا في إسرائيل دور الدستور، بسبب عدم وجود الدستور، وتشكل في الوقت ذاته أداة تشريع االحتالل أمام المحاكم الدولية، فتفسر وتمنع حاالت انجراف يمكنها أن تشكل خطورة على الدولة في المحافل الدولية، وتمنحها الشرعية القضائية لممارساتها االستعماري­ة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، تلعب المحكمة العليا دورًا مركزيًا في الدفاع عّما يسمى الـ «حيز العام» الليبرالي، في ظل أغلبية ساحقة لليمين الديني في الهيئة التشريعية. فيدعي هذا اليمين أن المحكمة العليا تكبل قدرته على الحكم مع كل سؤال يطرح عن وجوده طوال هذه األعوام والتغييرات التي أجراها. هذا باإلضافة إلى تغييرات مقترحة تفيد بتغيير التوازنات داخل هيئة اختيار القضاة للمحكمة العليا، حيث يريد اليمين الديني أن تكون األغلبية للكنيست المنتخب، وهو ما سيجعل المحكمة العليا في إسرائيل مرآة للتمثيل البرلماني-أكثر يمينية وأكثر ديني ًة-سياسي ًا وثقافي ًا ونظامي ًا أيض ًا. وعمليا، مع هذه االنتخابات، تلتقي الظروف المالئمة بشكل مثير إلجراء التغييرات: لدى نتنياهو المصلحة في تغييرات قضائية، بهدف إلغاء المحاكمة؛ لدى الصهيونية الدينية المصلحة بهدف االنتقال إلى واقع جديد في الضفة يتخطى «الحكم العسكري»، ويحكم باسم الشريعة التوراتية، وهو ما صرح به سموتريتش وشبيبة التالل؛ ولدى األحزاب الحريدية المصلحة بهدف منع «الليبرالية االجتماعية». عمليا، هناك إجماع بأن ينعكس الواقع الديني السياسي على النظام القضائي.

فلسطين: الصراع الديني.. والمواطنة المنقوصة

لهذه النتائج إسقاطات مهمة على تجمعين فلسطينيين ستتغير ظروفهما إذا استكملت إسرائيل مسارها: أوال أراضي الـ 84، حيث تستند الحالة السياسية والقانونية برمتها إلى «الهامش الديمقراطي»- أو ما يسمى أيضا «المواطنة المنقوصة»، والطموح هو تحويلها إلى مواطنة كاملة، فتنشط األحزاب والمؤسسات الحقوقية في فلك الشق «الديمقراطي»، وتحاول تغليبه على «اليهودي» كهامش العمل الوحيد عبر القضاء واستغالل التناقض الداخلي وفضح «ديمقراطية» إسرائيل دوليًا؛ وثانيًا، الضفة الغربية، وتحديدا السلطة، حيث عملت وتعمل على منع التحول النهائي عن «حل الدولتين» واإلبقاء على الخطاب والوضع القائم. فلهذه النتائج إسقاطات مهمة على الصعيدين: تحويل الدولة إلى دينية أكثر مما هي دينية، سيقلص «هامش المواطنة»، وفي حال توغل الخطاب، من الممكن أن يلغيه نهائيا، وبصورة خاصة مع التحريض المستمر على الفلسطينيي­ن حملة جواز السفر اإلسرائيلي في أعقاب «هبة أيار/ مايو»، على اعتبار أنهم «خطرًا استراتيجيًا». ومن هذا الباب، يمكن فهم التحالف ما بين بعض األحزاب العربية والمعسكر المعارض لنتنياهو، وخصوصا «القائمة المشتركة»بأنه الرغبة، على األقل، في الحفاظ على القائم أو البنية القائمة، ومنع التغيير الذي يريده اليمين-نحو الحسم. ومن المهم اإلشارة إلى أن هذا المعسكر «المعارض لنتنياهو»، ال يملك أي فرصة لتأليف حكومة إال بمساعدة أحزاب عربية، أو انتقال أحد أحزاب اليمين إليه، مثلما حدث مؤخرا مع نفتالي بينت. أما بخصوص السلطة الفلسطينية، فستكون أمام اتجاهين: األول، هو عودة نهج نتنياهو، الذي أراد تهميشها إلى أقصى حد ممكن، واإلبقاء عليها كهيئة خدماتية دون أي بعد قومي أو أي مفاوضات سياسية تمنحها مبرر وجود سياسي؛ والثاني، هو الهجوم المتوقع عليها بسبب الطرح الواضح والصريح من معسكر نتنياهو كما يعبر عنه كل من بن غفير وسموتريتش، اللذين يرفضان وجودها لمجرد كونها «جسمًا» فلسطينيًا بحد ذاته، فبالنسبة إليهما، على الفلسطينيي­ن أن يكونوا تجمعات من دون قومية أصال، حتى لو كانت على مستوى شعارات، يحكمهم الحاكم العسكري من جهة، إلى جانب هيئات خدماتية محلية ال تربط بينهم قطريا، أو حتى على صعيد الضفة وغزة فقط. هذا طبعا، باإلضافة إلى الضم الذي يمكن اآلن التعامل معه على أنه مفهوم ضمنًا، وخصوصًا أن أقوى شخصين في الكنيست بعد نتنياهو سيكونان: بن غفير الذي يستوطن في «كريات أربع» داخل الخليل، وسموتريتش الذي يستوطن في «بيت إيل»-المستوطنة التي تحاصر رام الله. لذلك، فمن المتوقع أن تتوقف حتى اللقاءات مع وزير األمن التي كان عليها الكثير من المالحظات بسبب البعد األمني وغياب البعد السياسي. أما األهم فلسطين ًيا دون عالقة بالتج ّمعات، فهو الدفع المتوقع من قبل االئتالف الحالي بالصراع إلى مكانة صراع ديني كامل ومتكامل، يشكل «بناء الهيكل» و«الدفاع عن المسجد األقصى» قطبيه الرئيسيْين واألساسيْين في المرحلة المقبلة.

 ?? ??
 ?? ??
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar