Al-Watan (Qatar)

العنصرية األوروبية بتجلياتها الكروية

- عيسى الشعيبي كاتب وصحافي أردني العربي الجديد

بعد أن انطلق القطار بقوة زخمه الذاتي، وبالسرعة المجدولة سلفا، وبات على وشك الوصول إلى محطته النهائية، تجمعت في السماء البعيدة سحب سوداء متفّرقة، ال ُتبّشر بالمطر، وال تعد بحلول فصل الشتاء، إال أنها تخدع الرائي كليل البصر، وتخلط عليه ألوان الطيف، ال سيما إذا كان الناظر إليها قليل الخبرة في تقلب الفصول، عديم المعرفة بعلوم األنواء الجوية، بما في ذلك توقعات الطقس، وتنبؤات األرصاد في األيام المقبلة، خصوصا في موسم األمطار المحتمل بدء هطولها عما قريب. نقول ذلك كله ونحن نسمع ونرى حمالت مغرضة ضد استضافة دولة قطر مونديال عام ،2022 تنطلق من لدن أوساط أوروبية على وجه الخصوص، بهدف التشويش على حفل االفتتاح، أو ربما التنغيص علينا، نحن الذين نترقب بشغف بالغ اقتراب الموعد المقّرر الذي دنا كثيرًا، ولم يعد يفصلنا عنه سوى أيام معدودات، كي ال نستمتع بالمباريات فقط، وانما أيضا بحفل افتتاح بهيج، يليق بقطر والعرب عموما، ال سيما أننا على علٍم مسبق بأن اللجنة المنظّمة قد أعدت العّدة الالزمة الفتتا ٍح يرفع رأس العرب في كل مكان. وما كان المرئ يهتم بالمنافسات الكروية، لكنه ال يضعها في بؤرة االهتمام، المزدحم بالشؤون العامة والشجون الشخصية الكثيرة، أن يدخل هكذا على خط السجال هذا من دون مؤهالت ذاتية وثقافة رياضية كافية، لإلدالء بدلوه الصغير في لجة بحر عميق، لوال أنه شعر في أعماقه باالستفزاز، المشحون بالغضب واالستهجان، إزاء ما بدت له حملة منّسقة جيدًا، تنطلق من عواصم أوروبية عدة، استضاف بعضها مثل هذا المونديال بصورة الئقة، ونالت حسن التنظيم واالفتتاح تقريظًا مستحقًا. كما بدا لهذا المرء أيضا أن تلك األوسط المترعة بالبياض واالستعالء العرقي تستكثر على دولة عربية صغيرة المساحة، قليلة السكان، استضافة الحدث الرياضي األهم في عالم اليوم، وكأن هذه الدولة من العالم الثالث قد استقطعت حّيز ًا ليس لها، وتر ّشحت لدور من اختصاص األوروبيين وحدهم، وفق ما يدل عليه تاريخ المونديال في أغلب المّرات، األمر الذي يقول لنا كالمًا مضمرا ال تقوله ألسنة القائمين على الحملة التحريضية هذه بشكل صريح، لكنه يظل ثقيل الوقع على األسماع، لكل ما ينطوي عليه من غطرسة السادة المستعمرين األوائل هؤالء. لو أردنا تلخيص مضمون هذه الحملة الظالمة على الدولة المستضيفة بكلمة واحدة في جملة قصيرة، لقلنا بيقين شديد إنها العنصرية األوروبية المقيتة، وقد انجلت في هذه المناسبة الكروية الباذخة بكل وضوح، وكأن تلك العواصم التي سادت العالم في زمن مضى،

واستعمرتنا في وقت انقضى إلى غير رجعة، يعّز عليها أن ترى بلدًا كان واحدًا في عداد مستعمراتها السابقة، قد وقف على قدميه، اشتّد عو ُده، وصار مؤهًال لمنافسة السادة الذين دالت دولهم االستعماري­ة، إال أن حنينهم إلى الماضي بقي يشّدهم إلى الوراء، عالقًا في البال وفي النبرة والحل والترحال. ولعل ما يبعث على الشك وسوء الظن في كل هذا االفتراء على قطر، التي نالت شرف استضافة المونديال قبل 12 عامًا، وأعّدت نفسها على نحو جيد جد ًا الستقبال هذا الحدث الكروي الجميل بكل ما يستحقه ويناسبه من متطلبات، هو هذا التوقيت المريب لهذه الحملة الرعناء، وفي األمثال الدارجة نقول «يكاد المريب أن يقول خذوني»، وذلك إذا كان القائل شديد االنكشاف، ومن طبعه الكذب والدس واالفتراء، فما بالك وأن من سكتوا طوال الوقت عما يعتبرونه مّسًا بحقوق العمال قد استيقظت ضمائرهم فجأة عشية افتتاح المونديال؟ كان من المحتمل أن تقع مضامين هذه الحملة المموهة بشعارات حقوق اإلنسان، وقعًا طيبًا على األسماع العربية، وأن تنال لدينا قدرًا معتبرًا من االهتمام، لو أن أصحابها من ذوي السمعة الحسنة على هذا الصعيد، ال يخشون في الحق لومة الئم، وال يكيلون بمكيالين، إذا كانت حقوق مثل هذا اإلنسان منتهكة على طول الخط في فلسطين، وترتكب في حقه أبشع الجرائم خالل الليل والنهار، فيما يظل هؤالء الغيورون على العمال اآلسيويين، ممن أسهموا في بناء المالعب والمنشآت، صامتين صمت األموات كلما تعلق األمر بدولة االحتالل الوحيد في هذا الزمان. على أي حال، انطلق القطار بكامل قوته، وها هو يتهادى على الطريق بكل عدته الناعمة وعتاده اإلنساني الرهيف، وما هي إال بضعة أيام ُتعّد على أصابع اليدين، حتى يصل إلى مستقر محطة الوصول، وتذهب حملة التحريض أدراج الرياح.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar