Al-Watan (Qatar)

رفقـــــــ­ــًا بالخــــــ­ـدم

- داليا الحديدي كاتبة مصرية

«فتحي» أول مربية صادفتها، اسمها الحقيقي «فتحية» وكانوا ينادونها «دادة»، لكني كنت قد أطلقت عليها «فتحي»، وكانت تضحك، لكن رفضت أن يناديها أحد «بفتحي» سواي. كانت تتقاضى مالليم، وتخدمنا بماليين. وإذا كان هناك «مجدي يعقوب» في الطب، «شتراوس» في الموسيقى، «زويل» في الكيمياء، «بوشكن» في الشعر، «محفوظ» في الدب، «تشرتشل» في السياسة و«ادوارد سعيد» في النقد، فجدير بالذكر أنه كان هناك «فتحي» في الخدمة. - براتبها الضئيل، كانت تساعد أهلها، كما جهزت نفسها للزواج، وظلت تخزن لدى أقاربها، حتى استخدموا أجهزتها، وسافر شراع العمر، ولم يتزوج فتحي. - كانت تتعامل برقي وابتسامتها كانت أصيلة لم تتوسل بها بقشيش، وال تتعالى عليه إلحراج أحدهم، بل لم تكن من النوع الذي يحكي وجع السنين. كمعظم معارفنا، كنا نرضي ضمائرنا بمنحها قديمنا، وكثيرا ما تندرنا بخبرياتها في مجالسنا، بينما كان «فتحي» يهادينا أيضاـ لكن حسبه بالجديد. -ليتني وعيت بها كهدية سماوية، لكنها أيام «الولدنة» حيث تعاملنا مع عطايا الله كمنح مضمونة. -كانت تلمس حبي الجارف لها، لكني يقينا، أخفقت في تقديرها، فكم عال صوتي عليها كمراهقة، مفرطة في الجهالة. -عقب زواجي، ورد علي عشرات المساعدات، لكن يبدو أن المساعد الوفي كالحب الحقيقي، ال نقابله سوى مرة في العمر. لقد أمضى «فتحي» قرابة ستة عقود من الخدمة في المنازل، ال تسعد سوى في أفراحهم وال تدعى سوى على موائدهم الخلفية، لكن لم ألمسها آسفة على ضياع العمر إال حسرتها على عدم زواجها، وعدم أدائها العمرة، فحتى الحج، لم تجرؤ للتطلع إليه. بدأت الخدمة بالمنازل بعمر ست سنوات، يوم أوقفوها على كرسي

لغسل الصحون ليأتي أقاربها آخر الشهر لتحصيل ثمن عرقها. -كم أحببتها كأم صادقة الوداد، ويخطر لي أن الم تفطر على حب أبنائها بالغريزة، لكني أكبرت في مربيتي محبتها لي دونما غريزة. -كنت أطلب منها الخروج معي للتنزه، وكانت تتعلل بانشغالها، ف ُأغاضب: فلتبقي في الطبيخ والغسيل. الحق ًا، أدركت انها كانت مصابة من «فوبيا» استخدام الساللم الكهربائية! لقد خلصت أن مكمن الخطأ في عدم توفيقي مع المساعدات يعود لبحثي فيهن عن ذاك ال «فتحي» المثالي. فكل شيء فيها كان رائعا، لذا، وجدت صعوبة في التعامل مع نماذج خدمية تعسة. كنت اشبه بمطربة بدأت مشوارها مع عبد الوهاب، ثم اضطرت للتعاون مع «الشرنوبي» على قيمته، إال أنه من الظلم مقارنته بموسيقار الجيال. -لقد وجدت أننا نهدر أعمارنا سعيا للكمال في كل شيء، لكننا لم نتطلع لنكون نصف مثاليين مع من يخدمنا. فشرعت أتواصل معهن بشكل إنساني، فتوقفت عن االتصال بشركة المخدومين إلخطارهم برأيي في أداء المساعدات، بل صرت أسأل :هل «رينيه» لديها شكوى مني؟ هل «كيت» أمضت وق ًتا طي ًبا معي؟ -لم أعد أكتفي بإعطائهن فضلة خيري من قديمي، بل فكرت في قدر من المال مع نزهة كل فترة للترفيه مع خدمتهن يومها بتحضير وجبة الغذاء لهن بنفسي أو تناول الغذاء بأي مقهي. وقد أخبرتني مسؤولة الشركة أن

أفضل ما أشادوا به هو إعدادي الفطور لهن بنفس الواني التي تأكل فيها أسرتي، فوضعهم موضع اعتبار هو ما أسعدهن. -كما سمحت لهن بإستخدام أي حمام في البيت، فال أفصل، هذا حمام الخدم وذاك خاص بالسياد، وكنت من قبل أفصل. كذلك كنت أخطرهن قبل تنظيف الدار بالتالي: في حالة كسر أي شيء، برجاء عدم الهلع، فكم انكسر من يدي الجماد، لكني لن أقبل أن ينكسر خاطركن. والنتيجة ساحرة، ال على مستوى المردود المهني، لكن على مستوى رضاي عن تعديل سلوكي اإلنساني لألفضل. فأقلمت نفسي لقبول مستوى نظافة بنسبة 75 % مقابل تعامل إنساني ناجح بنسب أكبر. معهعقب وفاة والدي، تحدثت مع «فتحي» عن ذكرياتنا قالت: مرضت يوما، فصحبني للمشفى وقدمني لألطباء على هذا النحو : مدام فتحية، أختي كان يعنيها التكريم العلني الذي يؤنسن العالقة بين الخادم والمخدوم. وقد فكرت في دورات الدنيا، فتبادر لذهني أن قد يأتي الدور على ابنتي، فتعمل كمساعدة، فتخيلتها تتسلم راتبها يدا بيد،ال تحويل على المصرف. وكدت أصفع نفسي حين تذكرت ما قلته لها حين رفضت الخروج للتنزه: خليك أنت في الكنيس والطبيخ. ورأيت ابنتي تدخل الحمام الصغير وتأكل بأوان للخدم، وتقبل البقشيش. وشعرت بهرج في رأسي لتصوري ضياع شئ في البيت لنها ستكون أول المتهمين. وتخيلت ربة البيت عائدة من رحلة تسوق، فتخدر ضميرها بمنح ابنتي من قديمها. وتصورت من يناديها «دانيال» ال «دانة» كتدليل ممج. رفقا بالخدم يا أسياد.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar