Al-Watan (Qatar)

هل قررت باريس تصفية مالك بن نبي ؟

- باحث عربي مستقل رئيس المركز الكندي لالستشارات الفكرية ‪mohan`` ahubail@hotmail.com‬

لقد وثق مالك بن نبي لقاءاته مع ماسينيون، ومشروعه الثقافي التنفيذي، في صناعة أرضية احتواء واستيعاب لصالح الزحف والتوحش الفرنسي، تقوم على ثنائيتين مهمتين، األولى حركة التشكيك في مصادر اإلسالم األصلية، عبر تقديم قراءات استشراقية بديلة، عن المصادر الحقيقية لتاريخ التشريع اإلسالمي، والثاني متابعة أي مجموعة أو شخصية نابهة، الحتوائها في سياق (فرنسة اإلسالم) كمنظومة تراث وإلهام أدبي، وهو ما أشار له إدوارد سعيد، في حديثه عن طبيعة االستشراق الفرنسي الذي تمثله شخصية ماسينيون، ونقده المهم لروح الكراهية واالزدراء لإلسالم، في شخصية ماسينيون. وبالتالي فمالك بن نبي مثل حالة تمرد فكرية مفاجئة، التقطته كوادر المكتب الثاني، ليس كعمالء مخابرات تنفيذيين بالضرورة، وإن وجد ذلك، ولكن في حالة مؤسسة ماسينيون، يتم ذلك عبر عناصر تتبع مباشرة، أو هي ضمن الهيكل الثقافي الذي يشرف عليه المستشرق الضخم، وهكذا فإنك تدرك بعد البحث بأن ذلك الخنق، الذي قال مالك بن نبي، أنه كان يدفعه فكريا لإللحاد، واقتصاديا للتفكير وزوجته في االنتحار. كان ضمن حلقات ضغط شرسة، حجبت عنه أي فرصة وظيفية، بل حجبت شهادته كمهندس كهرباء متفوق في دفعته، والتي لو راجعنا فصول الظاهرة القرآنية األولى، سيبرز لنا فيها أن ذلك النبوغ العلمي في فهم هندسة الكهرباء، وعالقتها بالنظريات العلمية حول هندسة الكون وتخلقه األول، والتي كانت تستخدم كمادة أساسية في التبشير باإللحاد، فمالك بن نبي من خالل تفكيك هذه الحتميات العلمية ذاتها، أسقط عقيدة التخلق الذاتي دون تدخل غيبي، عبر نفس المعطيات والتراتبية العلمية لنظريات الذرة وإلكترونات­ها. هذا التفوق أدرك المكتب الثاني خطره حين يتحول من المادة العلمية إلى الفكرية، ثم يندفع فيه مالك بن نبي إلى ما يتلو تأسيس الظاهرة القرآنية، فيبشر بنظرية نهضة، ُتعيُد االعتبار للعقل اإلسالمي القوي معرفيًا، والمكافح في سبيل استقالل وطنه والمشرق اإلسالمي، بل العالم الجنوبي كله.

ومسألة التعقب، بل والتصفية للقوى الفكرية الرافضة لالحتواء، من المستعمر أو المستبد الموالي له، ليست غريبة في التاريخ العالمي المعاصر، أكان مناضال سياسيا ناشطا، أو مؤسسا متفاعال لمنظومة فكرية تعزز قيام الذات البشرية، في مناطق االضطهاد والمستعمرا­ت، بواجب التحرر الفكري الذي يسبق االستقالل السياسي، وهذه كانت قصة مالك بن نبي الذي حرص أن يوثقها عبر مذكراته، لتنشر بعد وفاته. لكن الفصل المر والمظلم من هذه القصة، هي أن مالك بن نبي يرى أن ما تعرض له في الجزائر في آخر رحلته، كان ضمن بقية اإلرث الذي زرعه المكتب الثاني في الجزائر ما بعد االستقالل، ولقد توفي في ظروف حزينة تحت هذا الوضع، وال نعرف من هي األطراف التي وجهت من خالل إدارة الرئيس أبو مدين أو سياسته، واألطراف التي اختلفت مع مالك بن نبي بسبب حدته -رحمه الله-، فلعبت دورًا مهمًا في زيادة مأساته، نقولها من خالل قراءتنا لمذكراته بقلمه. لكن في نهاية األمر فإن هذه الخاتمة المؤلمة التي حرص مالك بن نبي على كتابة حكايتها، قبل سقوطه األخير وانتقاله للمأل األعلى، جرت له بفعل فاعل وأعادت الظروف التي خنقته في المرحلة األولى، فحٌق لُه أن ُتثّبت هذه الحقيقة، وحق له علينا أن نفصل بين هذه المسيرة المؤلمة، وبين ما أثر على مالك بن نبي نفسيًا، فأحدث تفاعًال ال بد من أن يفرز في تحرير فكرته عن النهضة. لكن من دروس مالك بن نبي المهمة، هي ضريبة االستقالل الشرسة، ثم ما يفوت الصالحين والمصلحين، من مساحة مشتركات كان باإلمكان أن تتحقق بينهما لصالح األمة والوطن، كما هو ما بين مالك بن نبي وجمعية علماء الجزائر، وبينه وبين القادة المخلصين في الحراك الوطني الجزائري، المستقلين عن ثقافة ومشروع فرنسا، وهو ما كان سيساعد لخروج مالك بن نبي من بعض االنفعاالت الحادة، ويسمح بتدفق أكبر وأفضل، لمشروعه في سبيل نهضة األمة، والتحرر الكبير للجزائر. بقي هنا أن نثبت حقيقة كبرى، وهي أن مالك بن نبي، ورغم أن المكتب الفرنسي الثاني، تمكن منه في التضييق على حياته وعزله، إال أنه عاد بقوة وامتد عمره إلى زمننا، والمستقبل اإلسالمي، حيث يظل قلمه اليوم وبلغة فكرية قوية، يخترق القبة الحديدية للعهد الكولونيال­ي الفكري، حيث يهدم مالك بن نبي عبر ظاهرته القرآنية، النموذج المزيف لالستشراق القرآني، فيعيد قوة الميزان العلمي والمعرفي، لقصة القرآن في حياة اإلنسان، وواقع النبوة وميالدها المعجز في تاريخ البشر، والمتطابق مع تاريخ الوحي بين األرض والسماء، رحم الله أستاذنا عبر السطور مالك بن نبي، وبارك في علمه في عالمنا اليوم.

مهنا الحبيل مسألة التعقب والتصفية للقوى الفكرية الرافضة لالحتواء، من المستعمر ليست غريبة في التاريخ العالمي المعاصر

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar