Al Araby Al Jadeed

كوابيسي... يا كوابيسي الجميلة

- عائشة بلحاج

أشعر أحيانًا أن املوقف الذي يحدث اآلن، والحوار الذي دار منذ قليل، سبق أن حدثا، وأنني عشتهما، بالتفاصيل واألطراف والكلمات واألثر، فأحتار: هل أواصل ما أفعله، كما يجتهد ممثل في إتقان دوره الذي يكرره للمرة العاشرة؟ أو أوقف كل شيء، ما دام مكررًا؟ وفي هذه األحيان، أشكك في أننا ربما نعيش اللحظات واملواقف نفسها، مرة بعد أخرى، كأننا عالقون في ساعة حائطية. كما حدث لبطل فيلم Groundhog« ،»day وهـو أحـد أفضل األفــام التي تناولت العالقني في الـزمـن. وأن الحياة تتعمد تركنا نتخبط في اعتقادنا األخرق، أننا نفيق كل يوم على يوم جديد، وأحداث جديدة. ليس هذا كابوسا نفيق منه بعد قليل، حني نستيقظ من النوم. بل هو شعوٌر حقيقي، في مجال اليقظة التامة. ولكن ما الفرق بني النوم واليقظة، حني نرتبك بني الحقيقي واملتخيل؟ يقول خبراء، حسب بعض املـصـادر، إن «التحديق في القمر قبل النوم يساعد على التواصل مع ذواتنا. حيث يحكم القمر حدسنا وأحامنا حسب التقاليد الصوفية. وإذا كان بإمكانك رؤية القمر من نافذتك، ركز عليه مدة ال تزيد عن عشر دقائق. واملكان املثالي لذلك هو غرفة نومك». بعدها سننام بهدوء، ونــرى أحامًا لطيفة، ال كوابيس تؤزم حيرتنا الوجودية أكثر. ما الذي يمكن أن يجمع بني القمر

ّّ والنوم، عدا أنهما يتصادفان في الفترة الليلية من اليوم؟ لكن يبدو أن تأمل القمر يقوي الغراء الذي يضم ذرات عقلك، حتى ال تنفرط في كابوس، وتفيق من دونه. لكن ها نحن نكتشف كل يوم أعاجيب جديدة، وجديدها أخيرا حدث منذ أيام. حني تكرر

ِّّ ما يحدث كثيرا، وهو اكتشاف بعض الكلمات اللذيذة، أو الطريفة أو الشعرية الرقيقة والعذبة، في بطن القاموس، فتترسخ القناعة بأن العربية من أصعب اللغات، وأغناها باملترادفا­ت واألسماء التي ال نهاية لها، لشيء واحد. ما وجدته مصادفة في القاموس، عن ترتيب مراحل النوم، كان كنزًا طريفًا من الجمال، ال يعرف عنه إال القليل من دارسي اللغة. بينما بقيتنا تعرف النعاس والنوم واإلغفاء والكرى ... بينما رتبت لنا هذه اللغة العجيبة مراحل النوم، درجة، درجة، مما نعرفه

‪ُّ ُْ َّّ‬ ومما لم نسمع به قبا. أول النوم: النعاس، وهو أن يحتاج اإلنسان إلى النوم. ثم: الوسن

ََّ وهو ثقل النعاس. ثم: الترنيق، وهو مخالطة النعاس العني. ثم: الكرى والغمض، وهو أن يكون اإلنسان بني النائم واليقظان. ثم: التغفيق، وهو النوم وأنت تسمع كام القوم. ثم: اإلغفاء، وهو النوم الخفيف. األجمل من وقع هذه األسماء أنها تتناول أجمل النوم وألذه. وهو الدخول في النوم، ال الغرق فيه أو الخروج منه. وألسند املقال على شيء، عدا حيرة التكرار القهري، ولذة النوم، أستعيد رواية غابرييل غارسيا ماركيز «ذكريات غانياتي الحزينات»، التي تحتفي بهؤالء النسوة املنبوذات. في ليلة يقرر فيها عجوز

ٍّ ‪ًّ ّّ‬ في التسعني أن يحيي ذاكرة عنيفة من التجارب، مع نساء كانت الذاكرة قد ابتلعتهن. أولهن، العاهرات اللواتي كن املخفف الوحيد لوحدته، التي رفض أن يتخلى عنها. فكان حني يستبد به الحنني إلى جسد آخر، يأوي إلى دور الهوى. لكنه في ذلك يدين املجتمع الذكوري، الذي يستغل فقر هؤالء النساء، وهو نفسه «شاري الهوى» أيضًا. عاقة الرواية بالكوابيس أن الكوابيس تنبش الذكريات أيضًا، فتحيي ما كنا نظنه ميتًا، وتحلل عاقاتنا باآلخرين، وما مررنا به بشكل ال يفعله أشطر محلل نفسي. وتضعنا في مواجهة أسوأ مخاوفنا، بما فيها التي لم نعلم بوجودها قبا. كما أن أحداث الرواية تقع خال نوم صبية، تم تخديرها في دار بغاء، ليستلقي كاتب عجوز إلى جانبها ويتذكر، في كابوس لن تعرف بحدوثه أبدا. ليس لبطل ماركيز اسم، مثل رواية «الجميات النائمات» لياسوناري كاواباتا التي تمنى ماركيز بشدة، لو كتبها، فكتب في عاملها روايته هـذه. كا العجوزين بطلي الروايتني ال اسمني لهما، فهما يتحدثان بضمير املخاطب، الذي يصبح صدى حياة طويلة با أجوبة، فكل األجوبة أصداء. واألسئلة التي تطرحها الكوابيس بدورها أصداء. ونحن لسنا سوى ناقلي أصداٍء، في هذا الكوِن الفسيح.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar