Al Araby Al Jadeed

عن جدل القومية اليمنية واألقيال

- نبيل البكيري

دار، أخيرا، جدل كبير في األوساط الثقافية والفكرية والسياسية اليمنية، بعد صدور كـــتـــاب أحـــمـــد الـــدغـــ­شـــي، حـــــول مــــا ســمــاهــ­ا ظاهرة القومية اليمنية (أقيال)، وهو ربما أول كــتــاب يـــصـــدر فـــي خـضـم هـــذه الــجــدال الــــدائـ­ـــر مــنــذ ســــنــــ­وات، ولـــكـــن زاده، أخـــيـــر­ا، احـــتـــد­امـــا صـــــدور هــــذا الـــكـــت­ـــاب، الـــــذي مثل فرصة لعودة الجدل واشتداده، بعد أن كاد يخمد وربما يتالشى. يـمـثـل كــتــاب «ظـــاهـــر­ة الــقــومـ­ـيــة الـيـمـنـي­ـة .. أقـــيـــا­ل، دراســـــة تـقـويـمـي­ـة» نـقـطـة مـهـمـة في إطـــــار الـــجـــد­ل الــــدائـ­ـــر، مـــع كـــل املـــآخــ­ـذ على الــكــتــ­اب وفــكــرتـ­ـه ونــقــاشـ­ـاتــه، والـــتـــ­ي كـانـت ردة فــعــل مــســتـعـ­ـجـلــة، ضــخــمــت مـــن فــكــرة «األقيال» أكثر مما كان ينبغي لها أن تقدم رؤية وتصورا دقيقني عن األمر، حتى يمكن قـــــراءة هـــذه الــفــكــ­رة قـــــراءة دقـيـقــة وعـلـمـيـة، تـسـاعـد فـــي فـهـمـهـا وتـفـكـيـك­ـهـا والـتـعـاط­ـي مـــعـــهـ­ــا. ولـــكـــن لـــأســـف أســـهـــم الـــكـــت­ـــاب فـي إعـــــــا­دة تــــدويــ­ــر الـــنـــق­ـــاش واســــتــ­ــدامــــت­ــــه، مـن دون أن يـقـدم حـــال أو تــصــورًا لكيفية فهم الـظـاهـرة وكيفية التعاطي معها، عــدا عن هــذا االستعجال الـالفـت فـي حجم الكتاب، والـــــذي حـــــاول مــقــاربـ­ـة مـــا ســمــاهــ­ا ظــاهــرة بغير أدوات دراســـة الـظـواهـر االجتماعية، وهـــــي املـــنـــ­اهـــج االجـــتــ­ـمـــاعـــ­يـــة الـــتـــي تـــقـــار­ب الظاهرة من واقعها باملالحظة واالستقراء واالسـتـنـ­تـاج، وإنــمــا حـــاول املــؤلــف مقاربة األمــــر بــــــأدو­اٍت ومـنـهـجـي­ـٍة ال تـمـت لــدراســة الظواهر، وهـو املنهج الوصفي التاريخي الـذي قاد املؤلف إلى االشتباك مع التاريخ ورمـــوزه ومحاولة إقحامهم واستنطاقهم للحديث في الحاضر. ومــــــع ذلـــــــك، تـــحـــسـ­ــب لـــلـــدغ­ـــشـــي مــحــاولـ­ـتــه الجريئة أن يقدم جهدًا مشكورًا في نقاش قائم، بغض النظر عن اتفاقنا أو اختالفنا مـــعـــه، مــــا يــعــنــي أنـــنـــا ســنــشــه­ــد مــــزيـــ­ـدًا مـن النقاشات والجدل في هذه املشكلة، والتي لـــم يــصــل الــحــديـ­ـث عـنـهـا بــعــد إلــــى مـرحـلـة الحديث عن ظاهرة مكتملة األركـــان، ألنها ال تـــــــزا­ل مــــجــــ­رد أصــــــــ­وات قــلــيــل­ــة مــتــنــا­فــرة ومتناقضة ومصارعة ومحصورة في إطار وســائــل الــتــواص­ــل االجــتــم­ــاعــي، ولـــم تصل بـعـد إلـــى مـرحـلـة أن تــكــون ظــاهــرة وواقــعــا مشاهدا ومدركا على مستوى الجماعة وال الخطاب أو التصور والوجود. ولكننا بتنا نـــدرك جـيـدًا الــيــوم أن طــول أمــد الــحــرب في اليمن، وطبيعتها وسرديتها ودينامياته­ا، ســـتـــنـ­ــتـــج حـــتـــمـ­ــا أدواتـــــ­ـــهــــــ­ــا وجـــمـــا­عـــاتـــه­ـــا بـــاســـت­ـــمـــرار، وأن عـمـلـيـة الـــفـــر­ز والـتـفـتـ­يـت والــتــفـ­ـكــيــك لــلــمــج­ــتــمــع وهـــويـــ­تـــه الــوطــنـ­ـيــة مــســتــم­ــرة (الـــهـــو­يـــة الــوطــنـ­ـيــة الـــتـــي بـنـاهـا اليمنيون على مــدى أكـثـر مـن نصف قـرن) عـلـى كــل املـسـتـوي­ـات، هـدفـا جـوهـريـا لهذه الحرب، وأن هذه الحرب ستنتج تشوهاتها عـلـى كــل املـسـتـوي­ـات، وأخــطــره­ــا تـشـوهـات الـذات والهوية الوطنية املهددة باالنقسام والـــتـــ­شـــظـــي، الـــــذي ســتــنــت­ــجــه هــــذه الــحــرب الدائرة، والتي تتسم بأحد أخطر أبعادها، وهو البعد الطائفي بوصفه خطابا قائما يصدره ويعلي منه خطاب جماعة الحوثي، ويجد بعض صــداه في الطرف املقابل لها من بني بعض اليمنيني. ونتيجة لكل هــذه األوضـــاع الـتـي يـمـر بها ويــعــيــ­شــهــا الــيــمــ­ن الــــيـــ­ـوم، ظـــهـــرت، أخـــيـــر­ا، مـــوجـــة هــويــاتـ­ـيــة نــقــيــض­ــة لــهــويــ­ة جـمـاعـة الــحــوثـ­ـي الــطــائـ­ـفــيــة، وتــطــلــ­ق عــلــى نفسها حـــراك أو حــركــة الـقـومـيـ­ة اليمنية األقــيــا­ل، واألقـــيـ­ــال مصطلح كـــان يـطـلـق قـديـمـا على الـزعـامـا­ت القبلية واالجتماعي­ة فـي اليمن الــقــديـ­ـم، إبــــان الـــدويــ­ـالت اليمنية الـقـديـمـ­ة، كالسبئية والحميرية تـحـديـدًا وغيرهما. أمـا اليوم فهي تمثل وتعبر عن ما تسمى جماعة القومية اليمنية الرافضني للوضع الراهن، والذين يـرون أن سبب هذه الحرب هـو فكرة الهاشمية السياسية خصوصا، والزيدية السياسية عموما. ويـــخـــت­ـــزل أصـــحـــا­ب هــــذه الـــفـــك­ـــرة أن الــحــل كامن في مواجهة مشروع اإلمامة الحوثية، بـــالـــع­ـــودة إلــــى الـــجـــذ­ور الــتــاري­ــخــيــة لليمن القديم واستلهام رمـــوزه وأفــكــار­ه، وكــل ما يمت لتلك املرحلة من أفكار. وهـذا التوجه تسطيح شديد لفكرة املعركة من أساسها، وذلــك بـاخـتـزال فكرة الحل فـي الـعـودة إلى املاضي فقط، وهي فكرة بدائية ال تختلف كثيرًا فـي بدائيتها عـن فكرة الـحـوثـي، مع فارق كهنوتية الفكرة الحوثية، ودمويتها وكـــونـــ­هـــا الـــيـــو­م أصــبــحــ­ت واقـــعـــ­ا مـــوجـــو­دًا وقائما ال مجرد فكرة متخيلة، كما هو حال أدعياء هوية األقيال وتخيلهم هويتهم. أمــــــا مـــــا يـــتـــعـ­ــلـــق بـــــاألق­ـــــيــــ­ـال، فـــهـــي ال تـــــزال خراطيش أفـكـار متناثرة هنا وهـنـاك، ولم تنتظم اليوم في كيان وتيار يمني عريض لــه وجــــوده الفعلي عـلـى األرض، واقـتـصـار حضور هذه الظاهرة في وسائل التواصل وعـــدم تجسدها فـكـرة متماسكة فكريا وال تـــصـــور­ا واضـــحـــ­ا وال واقـــعـــ­ا قــائــمــ­ا أيــضــا، ألسـبـاب كـثـيـرة، فـي مقدمتها عــدم وضـوح الفكرة واجـتـراره­ـا تـصـورات تاريخية غير دقيقة، وال تستند إلى فكرة ثقافية متماسكة وجـامـعـة لكل اليمنيني، عــدا عــن تكريسها فكرة التصنيف العرقي للناس بني قحاطنة وعـدنـانـي­ـني، وقيسية ويـمـانـيـ­ة، ومـثـل هـذا املــنــطـ­ـق الـــيـــو­م فــكــرة بــدائــيـ­ـة ال يـمـكـنـهـ­ا أن تـصـمـد أمــــام مــوجــة الـــتـــح­ـــوالت السياسية الـحـداثـي­ـة الهائلة فـي االجـتـمـا­ع السياسي املعاصر والحديث، فيما يعلق بفكرة الدولة واملواطنة والحقوق والحريات. شيء آخر، في سياق سطحية بعض أفكار األقيال، هو الحديث عن أن اليمنية قومية مـسـتـقـلـ­ة مـــن دون الـــعـــر­ب، وهـــــذه، فـــي حد ذاتـهـا، نكتة مضحكة وسـاذجـة فـي الوقت نفسه، فكيف يتسنى الـحـديـث عــن قومية يمنية بـمـعـزل عــن أمـــة الــعــرب مــن املحيط إلى الخليج، األمة التي تفتخر بأن أصولها يمنية قحطانية، ليأتي ساذجون ليقولوا لــنــا إن الــيــمــ­نــيــة قــومــيــ­ة مـسـتـقـلـ­ة بــذاتــهـ­ـا، والقومية أساسها العرق واللغة، وهـو ما يجمع اليمنيني مـع كـل الــعــرب، بمن فيهم حتى البربر واألمازيغ الذين تحكي بعض السرديات عن أصولهم اليمنية. جــانــب آخــــر، فـيـمـا يتعلق بــحــراك األقــيــا­ل، هـــو حـــالـــة الــتــوظـ­ـيــف الــســيــ­اســي الـــواضــ­ـح لهذه الظاهرة، والتي اختطفتها ووظفتها أطــــــــ­راف تـــــرى أنـــــه يــمــكــن­ــهــا مــــن خـــــالل هـــذا الحراك أن تعود مجددا إلى صدارة املشهد السياسي اليمني، وعدم إدراك مخاطر مثل هــذا التوجه، إذا استمر في تقديم خطاب عــاطــفــ­ي وال عــقــالنـ­ـي كــمــا هـــو الـــحـــا­ل اآلن، وهو ما أضعف الفكرة وحولها لورقة يتم حرقها قبل نضجها واكتمالها. ثمة مآخذ عديدة يمكن أن يأخذها الناس عــلــى مـــن يــقــدمــ­ون أنـفـسـهـم مـمـثـلـني لتيار األقـــيــ­ـال، وهـــو ذلـــك الـخـطـاب املـتـعـال­ـي على مـقـدسـات اليمنيني، والـحـديـث أن اإلســالم يـمـثـل إعـــاقـــ­ة حــضــاريـ­ـة لـلـيـمـن، وأن اليمن الــــيـــ­ـوم لـــيـــسـ­ــت فــــي حــــاجـــ­ـة إلســـــــ­ـالم يـمـثـلـه الــحــوثـ­ـي، وربــــط الــحــوثـ­ـي مـمـثـال لــإســالم، وهو ربط سطحي وساذج أيضا، ال يستند

إلـــى أي مـنـطـق عـلـمـي أو حـتـى بـراغـمـات­ـي. ويـــــضــ­ـــاعـــــ­ف كــــــل هــــــــذ­ا الــــعـــ­ـبــــث مــــــن حــجــم الــتــعــ­قــيــدات واملـــشــ­ـكـــالت، وال يـــقـــدم حـلـوال للمشهد، بـقـدر مـا يـدفـع املشهد إلــى مزيد مـن السيولة فـي إنـتـاج مـشـكـالت، املجتمع الــيــمــ­نــي فـــي غـــنـــى عــنــهــا، ومــعــركـ­ـتــه الــيــوم تـتـطـلـب خــطــابــ­ا سـيـاسـيـا مــقــدمــ­ا ال يـكـون انـعـكـاسـ­ا لـخـطـاب الــحــوثـ­ـي، وإنــمــا خـطـاب بأفق وأدوات ومفردات جديدة، تستند إلى أفكار وطنية جوهرية وجاذبة. وال توجد فكرة جاذبة اليوم كفكرة الوطنية اليمنية وخطابها السياسي الوطني، وهي فــكــرة مـتـمـاسـك­ـة، وال يــحــتــا­ج لــهــا أكــثــر من اإليمان بها وتقديمها بشكل علمي منطقي ومتماسك، وعدم الخلط بني املنطق العلمي واألوهام املاضوية، التي ال تستند سوى إلى الــخــيــ­االت املــزعــو­مــة، فــي الـحـديـث عــن فـــرادة ونقاء عرقي، هذه الفكرة الخرافية والساذجة التي ال وجــود لها عمليا على أرض الواقع، وإنما في مخيال الحمقى واملغفلني. عـــدا عــن ذلــــك، لــم يـعـد الــيــوم لـكـل حيثيات تــلــك الــلــحــ­ظــة الــزمــنـ­ـيــة الـــغـــا­بـــرة والـعـتـيـ­قـة أي وجــــود فـــي واقــــع الـــيـــو­م، خـصـوصـا في ظـــل الـــتـــح­ـــوالت الــكــبــ­رى فـــي كـــل مـــا يتعلق بـــالـــد­يـــن والــــدول­ــــة وشــكــلــ­هــا ومــضــمــ­ونــهــا، وحــقــوقـ­ـهــا وواجــبــا­تــهــا، فــالــدول­ــة الـــيـــو­م ال يمكن قيامها على أسـاس عرقي قائم على فكرة النقاء العرقي، أو شرعية مذهبية أو طائفية، فالدولة الوطنية اليوم ناظم وراع لكل الـنـاس بمختلف إنتماءاتهم الدينية والـعـرقـي­ـة واملـذهـبـ­يـة، وبـالـتـال­ـي، لـيـس من الصواب اليوم وال من املنطق وال حتى من الـعـلـم، الـحـديـث عــن قــيــام تـــيـــار­ات وأحـــزاب وتأسيسها عـلـى أســـاس عـرقـي أو طائفي أو ديـــنـــي، فــهــذا لـيـس ارتــــــد­ادا عـــن اإلســـالم فــحــســب، بـــل هـــو ارتـــــــ­داد عـــن فـــكـــرة الـــدولــ­ـة الوطنية الحديثة برمتها، وهذا ما يؤسس ملأزق سياسي أكبر من الحل الذي يفترض تــقــديــ­مــه مـــن خــــالل هــــذه الـــفـــك­ـــرة، فــالــدول­ــة الـيـوم غير الـدولـة بـاألمـس، وهــي فـي حالة تـطـور مستمر. ولـهـذا دولـــة الـيـوم هـي لكل مــواطــنـ­ـيــهــا، بـمـخـتـلـ­ف أديــانــه­ــم وأعــراقــ­هــم ومــذاهــب­ــهــم وطــوائــف­ــهــم، فــالــدول­ــة هــنــا هي جهاز إلدارة كل هذا التنوع والحفاظ عليه. أزمـة اليوم غير أزمـة األمـس، وحلول اليوم غـــيـــر حـــلـــول األمــــــ­ـس، مــــا نــحــتــا­جــه الـــيـــو­م، نحن اليمنيني، هو دولة لكل أبنائها دولة جـــمـــهـ­ــوريـــة ديـــمـــق­ـــراطـــي­ـــة مـــدنـــي­ـــة مــــوحـــ­ـدة، بـــدســـت­ـــور وقـــــانـ­ــــون يـــقـــف أمــــامــ­ــه الــجــمــ­يــع متساوين في الحقوق والواجبات، والهوية الـــوطـــ­نـــيـــة الـــــيــ­ـــوم، الــــتـــ­ـي تــشــكــل­ــهــا الــــدولـ­ـــة الوطنية هي املفتاح الـذي سيعيد صياغة وجـــدان اليمنيني وعقولهم وفـقـا للحقوق والواجبات والعدالة واملواطنة املتساوية، ولـــيـــس وفـــقـــا لــالنــتـ­ـمــاء لـــهـــذه الــجــمــ­اعــة أو تلك، أو وفقا لأوهام والخياالت املتوهمة واملزعومة هنا أو هناك.

األقيال ال تزال خراطيش أفكار متناثرة هنا وهناك، ولم تنتظم اليوم في كيان وتيار يمني عريض له وجوده الفعلي على األرض

ليس من الصواب اليوم وال من المنطق وال حتى من العلم، الحديث عن قيام تيارات وأحزاب وتأسيسها على أساس عرقي أو طائفي أو ديني

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar