مالحظات على االحتجاجات في فرنسا
فرنسا على موعد مع مرحلة من االضطرابات عـلـى الـشـاكـلـة الــتــي شـهـدنـاهـا فــي مرحلة احتجاجات ذوي السترات الصفراء، جراء الـتـعـديـل الــــذي تــزمــع الـحـكـومـة الفرنسية إدخاله على سن التقاعد من 62 عاما إلى 64 عامًا. الحق أن الرئيس ماكرون كان قد وعد، منذ انتخابات ،2017 بتعديل سن التقاعد إلى 65 عامًا، ولكن، أمام الرفض الذي يبديه الشارع وتبديه أحــزاب املعارضة وتكشفه استطالعات الرأي، تراجعت الحكومة سنة واحدة في سن التقاعد املقترح، كما أبطأت وتيرة التطبيق. مع ذلك لم يهدأ الرفض، وتم تحديد 19 يناير/ كانون الثاني ليكون يوم البدء بإضرابات واسعة تشمل كل القطاعات (النقل، الطاقة، التعليم، الصحة، الثقافة، الـبـنـوك)، بعد أن توافقت على الحركة كل الهيئات النقابية، وهي حالة غير شائعة. كان قانون التقاعد أحد املحاور األساسية للصراع فـي فرنسا، منذ أن أعــاد الرئيس األسبق، فرانسوا ميتران، سن التقاعد من 65 عاما إلى 60 عامًا في ،1983 الشيء الذي لــم تــكــف الـحـكـومـات الـالحـقـة عــن اعـتـبـاره الـسـبـب فــي الـعـجـز فــي املـــوازنـــة، ولـــم تكف عن العمل على تعديل قانون التقاعد الذي
يــقــوم عــلــى فــكــرة الـــتـــشـــارك، بـحـيـث يـؤخـذ ممن يعملون لتأمن رواتـــب مــن تقاعدوا عـن العمل. فـي مجتمع يشيخ وتـــزداد فيه نـسـبـة كــبــار الــســن مــع زيــــادة فــي متوسط العمر، يقع نظام التأمن هذا تحت ضغط مـتـزايـد. فـــإذا كــان ثمة أربــعــة عــمــال مقابل كــل متقاعد فــي ستينيات الــقــرن املـاضـي، يوجد اليوم 1.7 عامل مقابل كل متقاعد. غـيـر أن الـحـكـومـات الـفـرنـسـيـة الــتـي غالبًا مـــا كــانــت فـــي يـــد الـيـمـن الـفـرنـسـي تبتعد عـــن فــكــرة تـحـمـيـل أربـــــاب الــعــمــل جــــزءًا من حصة تعديل امليزان، بدعوى الحفاظ على قدرتهم التنافسية. والحق أن هذا التوجه لـــم يـخـتـلـف فـــي فـــتـــرة رئـــاســـة االشـــتـــراكـــي فرانسوا هوالند 2012( - .)2017 أمـا فترة رئاسة ماكرون، الذي يصنف نفسه خارج الـيـمـن والــيــســار، فـقـد كــانــت ربـيـعـًا لكبار أثــريــاء فـرنـسـا، إذ تـقـول املــصــادر إن ثــروة أكــبــر خمسة أثـــريـــاء فــي فـرنـسـا تضاعفت ثـــالث مــــرات فــي ظــل واليــتــه األولــــى 2017( - ،)2022 مـــا يـبـرهـن عـلـى صـحـة اعـتـبـاره «رئيس األكثر ثـراء». دائمًا كان البحث عن الحلول على ضفة أصحاب الرواتب، وهذا مـــا يـــغـــذي االضـــطـــرابـــات االجــتــمــاعــيــة في فـرنـسـا. تكشف نــظــرة إلـــى الـعـشـريـن سنة املـاضـيـة فــي فـرنـسـا أن معظم اإلضــرابــات
واالحـــتـــجـــاجـــات انــتــهــت إلــــى الـــفـــشـــل، وتــم تبني القوانن التي خرجت االحتجاجات ضــــدهــــا، رغـــــم زخـــــم االحـــتـــجـــاجـــات وطــــول أمدها. أبـرز هذه املحطات «إصـالح فيون» فـــي ،2003 وإصــــــالح قـــانـــون الــتــقــاعــد في ،2010 وقــــانــــون الــعــمــل املــــعــــدل أو قــانــون الـــخـــمـــري فــــي ،2017 وجــمــيــعــهــا تــنــطــوي على تـراجـع فـي حـقـوق أصـحـاب الــرواتــب. ولــــــم تـــنـــفـــع االحــــتــــجــــاجــــات واإلضــــــرابــــــات فـــي مــنــع إقـــــرار الـــقـــوانـــن املــــذكــــورة، ســـواء بموافقة البرملان أو بتجاوزه عبر استخدام الحكومة صالحية تجيز لها ذلك. املحطة الناجحة التي تستحضرها غالبًا ذاكـــــرة الـنـقـابـيـن الــفــرنــســيــن، هـــي إفــشــال خطة أالن جوبيه في ،1995 على الرغم من إقرارها في البرملان، بفعل اإلضرابات التي أجـبـرت الحكومة على سحب الخطة، وإن كان فرانسوا فيون سينجح في إقرار بنود من خطة جوبيه بعد ثماني سنوات، على الرغم من االحتجاجات كما ذكرنا. ليست كـثـيـرة االحــتــجــاجــات الــتــي أجـبـرت الـحـكـومـة عـلـى الــتــراجــع فــي فــرنــســا. ومـع ذلــــك، تـسـتـمـر االحــتــجــاجــات واالضـــرابـــات واملطالبات. هـذا الواقع املتكرر في فرنسا وفي غيرها من البلدان الديمقراطية يسمح بتسجيل ثـــالث مـالحـظـات، يفيد االنـتـبـاه
تكشف نظرة إلى العشرين سنة الماضية في فرنسا أن معظم اإلضرابات واالحتجاجات انتهت إلى الفشل
إليها في سعينا إلـى نظام سياسي عادل ومتوازن في بلداننا: األولـــــــــــى، أن االحـــــتـــــجـــــاج عــــلــــى الــــــقــــــرارات والقوانني التي تهاجم حقوق املحكومني، عـــمـــل الزم وال يـــمـــكـــن الـــتـــخـــلـــي عــــنــــه، وال ينبغي أن يقود تـكـرر فشل االحتجاج في تحقيق مـا يـريـد أو فـي ثني الحكومة عن قـراراتـهـا، إلــى ضعف الحافز واالستسام
ملــــا يـــتـــوافـــق عــلــيــه الــــبــــرملــــان، بــــدعــــوى أنـــه ممثل للشعب. ال يمكن أن يحل التفويض النيابي محل الحضور الدائم للناخبني في الحياة السياسية. تبقى الكلمة لـلـدورات االنتخابية التالية كي تحاسب الحكومات الــتــي لــم تستجب لـاحـتـجـاجـات، إذا كـان في عدم استجابتها أضــرار ملموسة على مستوى حياة الناخبني ونوعيتها. ذلك أن عدم االستجابة لاحتجاجات يشكل عبئا على الحكومة، بقدر ما تكون االحتجاجات واسعة، بذلك تؤتي هذه شيئا من ثمارها. املــــاحــــظــــة الـــثـــانـــيـــة أن عــــــدم االســـتـــجـــابـــة لـاحـتـجـاجـات واإلضـــرابـــات، وهـــي حـقـوق دستورية، ال ينبغي أن تقود إلى التصعيد فـي وسـائـل االحتجاج نحو العنف. أي أن التخلي عــن الـوسـائـل الديمقراطية يهدد النظام الديمقراطي نفسه. ما يلفت االنتباه حقا في النظام الديمقراطي هو وجود قدر ال بــــأس بـــه مــمــا يـمـكـن تـسـمـيـتـه «احـــتـــرام حــــدود الــنــظــام». ال خـــاف عـلـى أن أطـــراف الـصـراع تميل إلـى فـرض ما تريد بأقصى ما تستطيع من قوة، ولكن ليس بأي سبيل كــــــان، فـــالـــلـــجـــوء إلـــــى الـــعـــنـــف يــبــقــى ضـمـن حـــدود ال يتجاوزها. هــذا مـن أهــم عناصر ديمومة الديمقراطية. على أن تكرار فشل االحتجاجات أسس لبروز جماعات عنيفة تقوم على فكرة إن الحكومات ال تستجيب ما لم تتألم عن طريق أعمال التكسير. احترام القواعد يفرض نفسه على األطراف املتصارعة بقوة التمسك املشترك بالنظام بوصفه مصلحة مشتركة، وهو ما يعكس مــســتــوى مـــن إدراك قـيـمـة هـــذا املــكــســب. ال يعني هذا عدم وجود أطراف (على شاكلة تــــرامــــب وبــــولــــســــونــــارو) تــمــيــل إلـــــى كـسـر النظام، ولكنها، لحسن الحظ، ذات فرص نجاح قليلة. املاحظة الثالثة أن الديمقراطية، بكل آلياتها مــن االنــتــخــابــات إلـــى املـحـاسـبـة إلـــى فصل السلطات إلى صون الحريات العامة ... إلخ، ال تشكل حماية لحقوق املواطنني، ولكنها تمنح املواطنني سبل العمل لحماية حقوقهم. على هذا، من املهم عدم فهم النضال السياسي أنه مهمة تنتهي بإرساء نظام ديمقراطي، وكأن هذا النظام يشكل بذاته درعا يحمي حقوق املواطنني من خال انتخاب ممثلني للشعب، ووجــود صحافة حــرة وأحـــزاب ... إلــخ. الصحيح أن النضال السياسي يبدأ بـعـد بــنــاء آلــيــات ديـمـقـراطـيـة لـلـحـكـم، بعد أن يـحـوز الـنـاس السبل الـتـي تمكنهم من النضال السلمي لحماية حقوقهم، كما يفعل الفرنسيون اليوم وباألمس.