بين ظاهرة كريم وتآكل المنظومة الوطنية
تـــشـــرفـــت بــالــعــيــش والـــعـــمـــل مــــع املــنــاضــل الوطني الفلسطيني الكبير كريم يونس، لــــعــــدة ســــنــــوات داخــــــل األســـــــر، قـــبـــل وبــعــد االنـــقـــســـام الــفــلــســطــيــنــي الـــبـــغـــيـــض، وقــبــل إنجاز صفقة تبادل 2011 وبعدها، ورأيت عــن قـــرب وعـايـشـت عــن كـثـب ظــاهــرة كريم في الصمود والثبات، رغم كل الصعوبات واملعاناة التي يعيشها األسير الفلسطيني داخـــــــــــل بـــــاســـــتـــــيـــــالت الـــــقـــــهـــــر والــــــــعــــــــدوان اإلســرائــيــلــي، ولـــم يـفـارقـنـا للحظة واحـــدة سؤال املرحلة بالنسبة لألسير، وهو: كيف لــثــورة عريقة أو لحركة تــحــرر أو مقاومة بـاسـلـة كـمـقـاومـة الـشـعـب الفلسطيني، أن تـتـخـلـى عــن أبــنــائــهــا، بــل ورمــــوز نضالها الوطني لكل هذه املدة الطويلة من الزمن؟ كيف لها أن تتركهم يذبلون تحت سياط املحتلن الصهاينة، وأن تدعهم ملصيرهم املــحــتــوم: فــإمــا كــريــم األربـــعـــن عــامــًا، وإمــا نـــاصـــر أبـــــو حــمــيــد شـــهـــيـــدا تـــحـــت مـبـضـع اإلهمال واالستهتار بحياة البشر؟. استشعر األسرى الفلسطينيون وذاقوا إلى جانب مــرارة األســر مسًا وطنيًا وإنسانيًا كــبــيــرًا، وهـــو كـيـف شــكــل اســتــمــرار أسـرهـم وعـــــــدم وجـــــــود مـــــحـــــاوالت جــــديــــة وكـــافـــيـــة لتحريرهم من األسر عبر املقاومة بالدرجة األولــى، مسًا بهم كأشخاص وكمناضلن. واألهم واألخطر مسًا خطيرًا بقيم وأخالق ومبادئ املقاومة التي عاشوا وكبروا معها، ومن أهمها التضامن والتكافل وعدم ترك جـريـح أو أسـيـر يـنـزف فـي املــيــدان، أي قيم األخــــوة والــثــقــة والـــوفـــاء بـالـعـهـد والــوعــد، وهي قيم ال يمكن ملقاومة أو لحركة تحرر وطني من استعمار إحاللي كالصهيوني أن تسير أو تستمر أو أن تحقق بعضًا من أهدافها بدونها، فالعهد بن املقاوم الفرد وحــركــتــه الــوطــنــيــة والـتـضـحـيـة واإلقــــــدام، مــقــابــل الــعــمــل لــتــحــريــره والـــرعـــايـــة ألهـلـه والــتــضــامــن املــــادي مــعــه، والـــوفـــاء بالعهد وامليثاق بينهما. يــدرك األســـرى الفلسطينيون، ككل إنسان عاقل، بأن التحول من قيم التحرر واملقاومة، كالتضحية والـــفـــداء والــعــطــاء والتضامن إلـــى قــيــم الــحــكــم والــســلــطــة املــوهــومــة منذ عــام 1993 ويستمر إلــى اآلن، حيث تسود مـفـاهـيـم املــصــالــح بــأنــواعــهــا، وهـــي غالبًا ضيقة وشخصية وحزبية مشوهة، وحيث تــحــكــم حـــســـابـــات الـــربـــح والــــخــــســــارة، هــذا التحول الذي جرى دون حٍل لقضيتهم، كان مـفـتـرق الــطــرق االسـتـراتـيـجـي األبــــرز نحو مسيرة األربعن عامًا أو الشهادة. وفـــي مــقــابــل هـــذا الــتــحــول الـقـيـمـي الـقـاتـل لـلـقـضـايـا الــوطــنــيــة، وعــلــى رأســـهـــا قضية األســـــــــــــرى، كــــــــان عـــــامـــــل آخــــــــر وهــــــــو عــجــز وتــقــصــيــر، أو قــــل عــــدم جـــديـــة حــمــلــة لـــواء املـــقـــاومـــة ضــــد االحـــــتـــــالل، وعــــــدم قــدرتــهــم على تحقيق إنــجــازات كافية أو إنــجــازات الحد األدنى لتحرير األسرى ومنع ظاهرة األربعن الصادمة من الوقوع. ال يكفي الــقــول فــي قضية األســــرى وحــول مـــوضـــوع الـــفـــرق فـــي املـــقـــدمـــات والــقــيــم إن املقاومة تحاول وال تنجح، ولكن السلطة ال تــحــاول، بــل وتــفــرض وتــحــارب أساليب املقاومة املنبثقة عن قيمها وأخالقياتها، فكثرة املحاوالت هنا، وعلى مدار السنوات الطوال، دونما تحقيق الهدف، وهو هدف مـحـدود وسـهـل، مـقـارنـة بــأهــداف املـشـروع الـــوطـــنـــي الــفــلــســطــيــنــي األخــــــرى كــالــعــودة والتحرير وتقرير املصير، يؤدي إلى نتيجة ال تقل خطورة عن تآكل أو حتى عن انهيار قيم املقاومة لدى القيادة الرسمية للشعب الفلسطيني، وهي االستنتاج بعدم أهلية أو كفاءة قيادة املقاومة على إخالصها في العمل، وفقًا لقيمها وأخالقياتها النظرية، وبـالـتـالـي املــســاس بشرعية هـــذه الـقـيـادة. الـــعـــبـــرة هــنــا بــالــنــتــائــج، وحـــتـــى إن كـانـت الـعـبـرة بــاملــحــاوالت، فالتجربة تشير إلى أنها تراجعت جوهريًا في السنوات األخيرة. ختامًا، لقد خسرت قيادة املشروع الوطني الفلسطيني معركة تحرير كـريـم وناصر أبـــو حــمــيــد، ولــكــن مـــن املــمــكــن االســـتـــدراك، وخـــاصـــة مـــن قــبــل قـــــادة مـــشـــروع املــقــاومــة الشجاع والنبيل، واملـوثـوق بدرجة كبيرة مــــن غــالــبــيــة أبــــنــــاء الـــشـــعـــب الـفـلـسـطـيـنـي، ولعلنا ال نخسر معركة تحرير مــا تبقى مـن األســـرى، وتحديدًا أولـئـك املـئـات الذين دخـــلـــوا إلــــى مــرحــلــة الـــحـــرج ومـــضـــى على قـمـعـهـم واعــتــقــالــهــم ومــعــانــاتــهــم عــشــرون أو ثالثون أو أربـعـون عامًا، لعلنا بذلك ال نخسر معركة ترميم أو إعادة االعتبار لقيم وأخالقيات املقاومة، التي تآكلت بصورة واضحة في السنوات األخيرة، وبدون ذلك فـلـن يـنـجـح الفلسطيني عـلـى األرجــــح في معركة التحرير الكبرى، وهي معركة طرد االحــتــالل أو إنــهــاء املــشــروع االستيطاني اإلحاللي بصورة كاملة.