Al Araby Al Jadeed

بين ظاهرة كريم وتآكل المنظومة الوطنية

- ناصر ناصر

تـــشـــرف­ـــت بــالــعــ­يــش والـــعـــ­مـــل مــــع املــنــاض­ــل الوطني الفلسطيني الكبير كريم يونس، لــــعــــ­دة ســــنــــ­وات داخــــــل األســــــ­ـر، قـــبـــل وبــعــد االنـــقــ­ـســـام الــفــلــ­ســطــيــن­ــي الـــبـــغ­ـــيـــض، وقــبــل إنجاز صفقة تبادل 2011 وبعدها، ورأيت عــن قـــرب وعـايـشـت عــن كـثـب ظــاهــرة كريم في الصمود والثبات، رغم كل الصعوبات واملعاناة التي يعيشها األسير الفلسطيني داخـــــــ­ــــل بـــــاســ­ـــتـــــي­ـــــالت الـــــقــ­ـــهـــــر والـــــــ­ـعــــــــ­دوان اإلســرائـ­ـيــلــي، ولـــم يـفـارقـنـ­ا للحظة واحـــدة سؤال املرحلة بالنسبة لألسير، وهو: كيف لــثــورة عريقة أو لحركة تــحــرر أو مقاومة بـاسـلـة كـمـقـاومـ­ة الـشـعـب الفلسطيني، أن تـتـخـلـى عــن أبــنــائـ­ـهــا، بــل ورمــــوز نضالها الوطني لكل هذه املدة الطويلة من الزمن؟ كيف لها أن تتركهم يذبلون تحت سياط املحتلن الصهاينة، وأن تدعهم ملصيرهم املــحــتـ­ـوم: فــإمــا كــريــم األربـــعـ­ــن عــامــًا، وإمــا نـــاصـــر أبـــــو حــمــيــد شـــهـــيـ­ــدا تـــحـــت مـبـضـع اإلهمال واالستهتار بحياة البشر؟. استشعر األسرى الفلسطينيو­ن وذاقوا إلى جانب مــرارة األســر مسًا وطنيًا وإنسانيًا كــبــيــرًا، وهـــو كـيـف شــكــل اســتــمــ­رار أسـرهـم وعـــــــد­م وجـــــــو­د مـــــحـــ­ــاوالت جــــديـــ­ـة وكـــافـــ­يـــة لتحريرهم من األسر عبر املقاومة بالدرجة األولــى، مسًا بهم كأشخاص وكمناضلن. واألهم واألخطر مسًا خطيرًا بقيم وأخالق ومبادئ املقاومة التي عاشوا وكبروا معها، ومن أهمها التضامن والتكافل وعدم ترك جـريـح أو أسـيـر يـنـزف فـي املــيــدا­ن، أي قيم األخــــوة والــثــقـ­ـة والـــوفــ­ـاء بـالـعـهـد والــوعــد، وهي قيم ال يمكن ملقاومة أو لحركة تحرر وطني من استعمار إحاللي كالصهيوني أن تسير أو تستمر أو أن تحقق بعضًا من أهدافها بدونها، فالعهد بن املقاوم الفرد وحــركــتـ­ـه الــوطــنـ­ـيــة والـتـضـحـ­يـة واإلقـــــ­ـدام، مــقــابــ­ل الــعــمــ­ل لــتــحــر­يــره والـــرعــ­ـايـــة ألهـلـه والــتــضـ­ـامــن املــــادي مــعــه، والـــوفــ­ـاء بالعهد وامليثاق بينهما. يــدرك األســـرى الفلسطينيو­ن، ككل إنسان عاقل، بأن التحول من قيم التحرر واملقاومة، كالتضحية والـــفـــ­داء والــعــطـ­ـاء والتضامن إلـــى قــيــم الــحــكــ­م والــســلـ­ـطــة املــوهــو­مــة منذ عــام 1993 ويستمر إلــى اآلن، حيث تسود مـفـاهـيـم املــصــال­ــح بــأنــواع­ــهــا، وهـــي غالبًا ضيقة وشخصية وحزبية مشوهة، وحيث تــحــكــم حـــســـاب­ـــات الـــربـــ­ح والــــخــ­ــســــارة، هــذا التحول الذي جرى دون حٍل لقضيتهم، كان مـفـتـرق الــطــرق االسـتـرات­ـيـجـي األبــــرز نحو مسيرة األربعن عامًا أو الشهادة. وفـــي مــقــابــ­ل هـــذا الــتــحــ­ول الـقـيـمـي الـقـاتـل لـلـقـضـاي­ـا الــوطــنـ­ـيــة، وعــلــى رأســـهـــ­ا قضية األســــــ­ـــــــرى، كــــــــا­ن عـــــامــ­ـــل آخــــــــ­ر وهــــــــ­و عــجــز وتــقــصــ­يــر، أو قــــل عــــدم جـــديـــة حــمــلــة لـــواء املـــقـــ­اومـــة ضــــد االحـــــت­ـــــالل، وعــــــدم قــدرتــهـ­ـم على تحقيق إنــجــازا­ت كافية أو إنــجــازا­ت الحد األدنى لتحرير األسرى ومنع ظاهرة األربعن الصادمة من الوقوع. ال يكفي الــقــول فــي قضية األســــرى وحــول مـــوضـــو­ع الـــفـــر­ق فـــي املـــقـــ­دمـــات والــقــيـ­ـم إن املقاومة تحاول وال تنجح، ولكن السلطة ال تــحــاول، بــل وتــفــرض وتــحــارب أساليب املقاومة املنبثقة عن قيمها وأخالقياته­ا، فكثرة املحاوالت هنا، وعلى مدار السنوات الطوال، دونما تحقيق الهدف، وهو هدف مـحـدود وسـهـل، مـقـارنـة بــأهــداف املـشـروع الـــوطـــ­نـــي الــفــلــ­ســطــيــن­ــي األخــــــ­رى كــالــعــ­ودة والتحرير وتقرير املصير، يؤدي إلى نتيجة ال تقل خطورة عن تآكل أو حتى عن انهيار قيم املقاومة لدى القيادة الرسمية للشعب الفلسطيني، وهي االستنتاج بعدم أهلية أو كفاءة قيادة املقاومة على إخالصها في العمل، وفقًا لقيمها وأخالقياته­ا النظرية، وبـالـتـال­ـي املــســاس بشرعية هـــذه الـقـيـادة. الـــعـــب­ـــرة هــنــا بــالــنــ­تــائــج، وحـــتـــى إن كـانـت الـعـبـرة بــاملــحـ­ـاوالت، فالتجربة تشير إلى أنها تراجعت جوهريًا في السنوات األخيرة. ختامًا، لقد خسرت قيادة املشروع الوطني الفلسطيني معركة تحرير كـريـم وناصر أبـــو حــمــيــد، ولــكــن مـــن املــمــكـ­ـن االســـتــ­ـدراك، وخـــاصـــ­ة مـــن قــبــل قـــــادة مـــشـــرو­ع املــقــاو­مــة الشجاع والنبيل، واملـوثـوق بدرجة كبيرة مــــن غــالــبــ­يــة أبــــنـــ­ـاء الـــشـــع­ـــب الـفـلـسـط­ـيـنـي، ولعلنا ال نخسر معركة تحرير مــا تبقى مـن األســـرى، وتحديدًا أولـئـك املـئـات الذين دخـــلـــو­ا إلــــى مــرحــلــ­ة الـــحـــر­ج ومـــضـــى على قـمـعـهـم واعــتــقـ­ـالــهــم ومــعــانـ­ـاتــهــم عــشــرون أو ثالثون أو أربـعـون عامًا، لعلنا بذلك ال نخسر معركة ترميم أو إعادة االعتبار لقيم وأخالقيات املقاومة، التي تآكلت بصورة واضحة في السنوات األخيرة، وبدون ذلك فـلـن يـنـجـح الفلسطيني عـلـى األرجــــح في معركة التحرير الكبرى، وهي معركة طرد االحــتــا­لل أو إنــهــاء املــشــرو­ع االستيطاني اإلحاللي بصورة كاملة.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar