Al Araby Al Jadeed

استفحال «التكييش»... استنزاف المواطنين واالق

استفحلت ظاهرة «التكييش» في غزة، التي تقوم على شراء السلع بالتقسيط وإعادة بيعها للحصول على مبالغ نقدية أقل، لتدبير االحتياجات المعيشية، ما سبّب تكدس قضايا التعثر عن السداد بأكثر من مليار دوالر، بينما تعجز الحكومة عن مواجهة تلك الظاهرة

- غزة ـ يوسف أبو وطفة

دفــــعـــ­ـت الـــــظــ­ـــروف االقـــتــ­ـصـــاديــ­ـة الــــــصـ­ـــــعــــ­ــبــــــة الــــــــ­ـتــــــــ­ـي يــــعــــ­يــــشــــ­هــــا الـفـلـسـط­ـيـنـيـون فـــي قـــطـــاع غـــزة، نتيجة الحصار اإلسرائيلي املفروض منذ عـــام 2006 ونــقــص الـسـيـولـ­ة الــنــقــ­ديــة، إلـى ابـتـكـار مـا يـعـرف محليًا بـ«التكييش» من أجل توفير األموال والسيولة املالية الالزمة لتدبر أمور حياتهم. ويلجأ الكثيرون حاليًا إلـــى شــــراء الـسـلـع مــن املــحــال الــتــجــ­اريــة أو بـعـض الــشــركـ­ـات بـنـظـام التقسيط الـــذي ال يتجاوز في كثير من األحيان مدة عـام، ثم يبيعونها لـــذات املؤسسة أو شـركـة أخـرى مقابل الحصول على دفعة مالية نقدية أقل من ثمن السلعة التي اشتروها. وتكبد هذه الخطوة صاحبها أمواال مالية كبيرة، رغم حصوله على السيولة النقدية حـــال بيعه للسلعة، لـكـونـه يتحمل فـائـدة إضــافــيـ­ـة عـلـى ثـمـن الـسـلـعـة الــتــي اشـتـرهـا بالتقسيط قبل قيامه ببيعها، إضافة إلى إمــكــانـ­ـيــة تــعــثــر­ه فـــي عـمـلـيـة الــــســـ­ـداد، وهــو مـا يـعـرض صـاحـب هــذه الـخـطـوة للسجن.

وبـرزت هذه الظاهرة في أعقاب اإلجــراءا­ت الـتـي اتخذتها السلطة الفلسطينية بحق مـوظـفـيـه­ـا فـــي الــقــطــ­اع عـــام ،2017 وكــانــت تقتصر على املـوظـفـن­ي فـقـط، قبل أن تمتد لتشمل فـئـات أخـــرى الحــقــًا، وتـصـبـح أكثر اتساعًا على صعيد األفراد، وحتى الشركات العاملة في هذا املجال. وفي بداية ظهور «التكييش»، كانت عملية الشراء والبيع تقتصر على الهواتف الذكية من خالل شرائها حديثة، ثم بيعها في ذات اللحظة، قبل أن تتسع في العامني املاضيني لــتــشــم­ــل األجــــهـ­ـــزة الــكــهــ­ربــائــيـ­ـة والـــعـــ­قـــارات والـــســـ­يـــارات وغــيــرهـ­ـا مــن الــســلــ­ع. وأسـهـمـت هـــذه الــظــاهـ­ـرة فـــي تـــراكـــ­م عـــشـــرا­ت الـقـضـايـ­ا أمـــــام املــحــاك­ــم الــعــامـ­ـلــة فـــي الــقــطــ­اع نتيجة تعثر املـئـات مـن املواطنني فـي عملية سـداد أقساطهم املـتـراكـ­مـة عليهم، بفعل الـظـروف االقتصادية الصعبة التي يواجهها أكثر من مليوني مواطن في القطاع. وفي الفترة األخيرة أصدرت وزارة االقتصاد في غزة، التي تديرها حركة حماس، سلسلة من القرارات ملحاربة هذه الظاهرة ووضع حد لها، مع تناميها بشكل الفت وزيادة معدالت الشكاوى والقضايا أمام الجهات الحكومية

فـــي الـــقـــط­ـــاع. وخــــالل الــفــتــ­رة املــاضــي­ــة بـــرزت عــشــرات الــشــركـ­ـات الـعـامـلـ­ة فــي هـــذا املــجــال، الـتـي تعتمد على توفير السلعة والسيولة الــنــقــ­ديــة فـــي آن واحـــــد لـــلـــمـ­ــواطـــن، ثـــم تــلــزم الـراغـب في الحصول على السيولة النقدية بتوقيع «كمبياالت» أو شيكات تفوق السعر األساسي للسلع تحت إطار «حفظ حقوقها»، وهـو ما أدى إلـى وجــود مبالغ مالية طائلة ناتجة من «كمبياالت وهمية». ويرى الباحث في الشأن االقتصادي أحمد أبو قمر، أن جميع محاوالت وزارة االقتصاد فــي الـقـطــاع لــوقــف ظــاهــرة «الـتـكـيـي­ـش» لن تنجح بسبب البيئة املالية التي تكونت في القطاع خـالل سنوات ما بعد 2017 وحتى اآلن. ويقول أبو قمر لـ«العربي الجديد» إن الـ «تكييش» وجد بيئة خصبة بعد إجراء ات

إجمالي قيمة قضايا «التكييش» في المحاكم يتجاوز مليار دوالر

السلطة الفلسطينية قبل نحو ست سنوات، الـتـي تمثلت بقطع الــرواتــ­ب والتقليصات وإحـالـة عـدد كبير على التقاعد، وبالتالي إن املـطـلـوب التخلص مــن جميع الـظـواهـر املسببة، وآليات التحايل على املوظفني في هـذا الجانب، والعمل الجاد على مضاعفة املعروض النقدي في األســواق بعدة طرق، أهمها رفع نسبة رواتب املوظفني. ويــضــيــ­ف أن «نـــظـــام املـــرابـ­ــحـــة فـــي الــبــنــ­وك اإلسـالمـي­ـة أفـــرز أيـضـًا ظــاهــرة «التكييش»، الـــــذي يــفــقــد الــعــمــ­يــل فــيــه نــســبــة كــبــيــر­ة من أمــــوالـ­ـــه، قـــد تــصــل إلــــى أكـــثـــر مـــن ،%30 إلــى جانب أن غسل األموال أسهم كثيرًا في هذه الظاهرة». ويشير إلى أنه ال يمكن الحديث عن مبلغ معني أو حتى تقريبي لـ «التكييش» فـي غــزة، فأغلب املـعـامـا­لت فـي هــذا الجانب تــــجــــ­رى ضـــمـــن «اقـــتـــص­ـــاد الــــظـــ­ـل»، وهـــــو مـا يــــفــــ­رض ضــــــــر­ورة الـــتـــخ­ـــلـــص مــــن مــســبــب­ــات املـــشـــ­كـــلـــة بـــشـــكـ­ــل كــــامـــ­ـل مـــــن قـــبـــل الـــجـــه­ـــات الحكومية في غزة. ويـــــــش­ـــــــدد عـــــلـــ­ــى ســــلــــ­بــــيــــ­ة هـــــــــ­ذه الـــــظــ­ـــاهـــــ­رة االقتصادية وانعكاساته­ا على االقتصاد املـــحـــ­لـــي فـــــي الــــقـــ­ـطــــاع، كــنــتــي­ــجــة طـبـيـعـيـ­ة لـضـعـف الـــقـــد­رة الــشــرائ­ــيــة لــــدى املــواطــ­نــني

وحاجتهم املاسة للسيولة النقدية من أجل تـلـبـيـة احـتـيـاجـ­اتـهـم ورغــبــات­ــهــم الـيـومـيـ­ة. ومــــنـــ­ـذ عــــــام ،2013 لـــــم يـــتـــقـ­ــاض مــوظــفــ­و الحكومة التي تديرها حركة حماس منذ سيطرتها عـلـى الـقـطـاع عـــام 2007 رواتـــب كاملة، واقتصر األمر على صرف نسب من الرواتب تراوح بني %40 إلى %60 في أفضل األحـــوال. أمـا موظفو السلطة الفلسطينية في غزة، فتعرضوا منذ عام 2017 لسلسلة من اإلجراء ات، تمثلت بصرف %70 فقط من رواتبهم، إلى جانب عدم صرف راتب شهر مـارس/ آذار من ذات العام، فضال عن قطع رواتب املئات وإحالة بعضهم على التقاعد املبكر قبل أن تجرى إعادتهم أخيرًا. ويــؤكــد املــديــر الــعــام لـغـرفـة غـــزة الـتـجـاري­ـة، ماهر الطباع، أن الظهور الرئيسي لظاهرة «التكييش» بــدأ فـي أعـقـاب اإلجــــرا­ءات التي اتخذت عام 2017 بحق موظفي السلطة في الـقـطـاع ومــا نتج منها مــن عجز شـديـد في السيولة النقدية املــتــوا­فــرة. ويـقـول الطباع لــ«الـعـربـي الـجـديـد» إن الـظـاهـرة نـشـأت في بـــدايـــ­ة األمــــر عــلــى صـعـيـد الــهــوات­ــف الـذكـيـة وضــــمـــ­ـن فــــئــــ­ات مـــــحـــ­ــددة بـــعـــيـ­ــنـــهـــ­ا قــــبــــ­ل أن تتسع فــي الـفـتـرة األخــيــر­ة لتشمل األجـهـزة

الـكـهـربـ­ائـيـة والـــســـ­يـــارات، وحــتــى الــعــقــ­ارات، وأصبح انتشارها ملحوظا وكبيرًا. ووفـقـا للمدير الـعـام لغرفة غــزة التجارية، فإن هذه الظاهرة أضرت كثيرًا باالقتصاد الــفــلــ­ســطــيــن­ــي، نـــظـــرًا لـــتـــرا­كـــم الــــديــ­ــون على املواطنني وآليات السداد الصعبة املترتبة عـــــن عـــمـــلـ­ــيـــة الـــتـــق­ـــســـيــ­ـط وحـــــالـ­ــــة الـــــتــ­ـــردي الــواضــح­ــة فــي املـشـهـد االقــتــص­ــادي نتيجة الرتـــفــ­ـاع مــعــدالت الـفـقـر والــبــطـ­ـالــة. ويـشـدد على أن استمرار هذه الظاهرة من شأنه أن يربك املشهد االقـتـصـا­دي ككل، ســواء على صعيد التجار، أو حتى املواطنني املتعثرين في سداد ما عليهم من أقساط للشركات أو املــحــال الـتـجـاري­ـة، وهــو مــا أدى إلــى تدخل حكومي ملـحـاربـة هــذه الـظـاهـرة فـي الفترة األخـــــي­ـــــرة. لــــكــــ­ن املــــديـ­ـــر الــــعـــ­ـام لـــغـــرف­ـــة غـــزة التجارية، يعتقد أن من الصعب إنهاء هذه الظاهرة خـال الفترة الحالية، بالرغم من الخطوات والقرارات الحكومية التي اتخذت ملــحــارب­ــة «الــتــكــ­يــيــش» والـــتـــ­ي يـخـسـر فيها املـواطـن مـا نسبته %20 مـن قيمة السلعة. وتعتبر رواتـــب موظفي السلطة وحكومة غـــزة الــتــي تــديــرهـ­ـا حــركــة حـــمـــاس، املـحـرك األســاســ­ي لعجلة الـحـركـة االقـتـصـا­ديـة في القطاع، غير أن عدم صرفها كاملة، والتأخر فـــي أحـــيـــا­ن كـثـيـرة فـــي صــرفــهــ­ا، ينعكسان بالسلب على املشهد التجاري ككل. ويقول املدير العام للسياسات في وزارة االقتصاد فـي غـــزة، أسـامـة نـوفـل، إن وزارتــــه أصــدرت سلسلة قــرارات في الفترة األخيرة ملحاربة «الــتــكــ­يــيــش»، أبـــرزهــ­ـا مــنــع عــمــل الــشــركـ­ـات تـــمـــام­ـــا، والـــثـــ­انـــي تــحــديــ­د نــســبــة فـــائـــد­ة ال تتجاوز %5 فقط. ويضيف نوفل لـ«العربي الجديد» أن السبب الرئيسي للتدخل، هو ما حدث في اآلونة األخيرة من تقديم أصحاب شركات فواتير وشيكات خاصة بمواطنني تفوق قيمتها القيمة األساسية للسلع التي عملوا على شرائها خال الفترة املاضية. وبـــحـــس­ـــب املـــــدي­ـــــر الـــــعــ­ـــام لـــلـــسـ­ــيـــاســ­ـات فـي وزارة االقتصاد في غزة، فإن هذه الظاهرة نـــتـــجـ­ــت مـــنـــهـ­ــا فـــواتـــ­يـــر وشـــيـــك­ـــات وهــمــيــ­ة يصل بعضها إلى مبلغ 200 مليون شيكل إسرائيلي، وهـو مبلغ ضخم للغاية يفوق أســــعـــ­ـار الـــســـل­ـــع واألجـــــ­ـهــــــزة املـــخـــ­تـــلـــفـ­ــة فـي القطاع. (الـــــدوا­لر=24.3 شيكل إسرائيلي). ويلفت إلــى أن إجمالي القضايا املنظورة فـــي املــحــاك­ــم نـتـيـجـة لــظــاهــ­رة «الـتـكـيـي­ـش» تتخطى قيمتها املليار دوالر، وهو ما دفع الـــــوزا­رة والــجــهـ­ـات الحكومية للتدخل من أجل وقف هذه الظاهرة والحد منها. ووفقا لنوفل، فإن الجهات الحكومية االقتصادية اســـتـــد­عـــت مـــا يـــزيـــد عــلــى 80 شـــركـــة تعمل فــي هـــذا املــجــال وألـــزمــ­ـت 70 منها بتوقيع تــــعــــ­هــــدات بــــعــــ­دم الـــعـــم­ـــل بــــهــــ­ذا الـــــنــ­ـــوع مـن التعامل التجاري، فيما امتنعت قرابة 11 شـركـة عــن الـتـوقـيـ­ع وأحــيــلـ­ـت عـلـى النيابة العامة التخاذ اإلجراء ات القانونية بحقها. وســــبـــ­ـبــــت الــــــتـ­ـــــوتـــ­ـــرات وعــــــــ­ـدم االســـــت­ـــــقــــ­ـرار الـــســـي­ـــاســـي، وتـــداعــ­ـيـــات جــائــحــ­ة كـــورونــ­ـا، وتـــــكــ­ـــرار االعــــــ­ـتـــــــد­اءات اإلســـرائ­ـــيـــلــ­ـيـــة عـلـى غـــــزة، إضــــافــ­ــة إلــــى 16 عـــامـــا مـــن الــحــصــ­ار البري والـجـوي والبحري، تفاقم األوضــاع املعيشية، وفق تقرير صادر في وقت سابق من الشهر الجاري عن وكالة إغاثة وتشغيل الـاجـئـني الفلسطينين­ي «أونـــــرو­ا»، مشيرًا إلــــى أن أكـــثـــر مـــن %40 مـــن ســـكـــان الـقـطـاع يـعـانـون مــن انــعــدام األمـــن الـغـذائـي الـحـاد، مــــا يــعــنــي أنـــهـــم يــعــيــش­ــون يـــومـــا مــــن دون طعام بانتظام. وأشـار التقرير إلى أن هذه العوامل مجتمعة أدت إلى زعزعة استقرار حياة األفـــراد واملجتمعات املحلية، وزادت من املصاعب التي يواجهونها.

 ?? )Getty( ?? ظاهرة «التكييش» بدأت بالهواتف النقالة قبل أن تتسع وتشمل السيارات والعقارات
)Getty( ظاهرة «التكييش» بدأت بالهواتف النقالة قبل أن تتسع وتشمل السيارات والعقارات

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar